أسعار الأسماك واللحوم اليوم 24 أبريل    «الجمهورية»: الاحتفال بيوم الأرض يتزامن مع جهود مصر لأجل أمن واستقرار المنطقة بأسرها    النشرة الصباحية من «المصري اليوم».. انخفاض الذهب و48 ساعة قاسية في الطقس والكونجرس يوافق على مساعدات لإسرائيل    «زراعة الإسكندرية»: ذروة حصاد القمح الأسبوع المقبل.. وإنتاجية الفدان تصل ل18 أردبًا هذا العام    نمو الطلب على إنتاج أيه إس إم إنترناشونال الهولندية لمعدات تصنيع الرقائق    الصين تعارض إدراج تايوان في مشروع قانون مساعدات أقره الكونجرس الأمريكي    إسرائيل تشكر «الشيوخ الأمريكي» على إقراره المساعدة العسكرية    مفوض أوروبي يطالب بدعم أونروا بسبب الأوضاع في غزة    موعد مباراة الحسم بين الأهلي ومازيمبي في دوري أبطال إفريقيا والقناة الناقلة والمعلق    هل يكون الشوط الأخير؟.. الأهلي يفاجئ علي معلول    قبل 8 مايو.. ما شروط الأعذار المرضية قبل بدء امتحانات نهاية العام 2024؟    مطالبات بفتح تحقيق دولي بشأن المقابر الجماعية المكتشفة في غزة    مصطفى الفقي: مصر ضلع مباشر قي القضية الفلسطينية    الكونجرس يقر مشروع قانون يحظر «تيك توك» بالولايات المتحدة    طقس اليوم.. شديد الحرارة نهارا مائل للحرارة ليلا والعظمى بالقاهرة 41    عاجل - يسكمل اقتحامه غرب جنين.. قوات الاحتلال داخل بلدة سيلة الظهر وقرية الفندقومية    موازنة النواب: تخصيص اعتمادات لتعيين 80 ألف معلم و30 ألفا بالقطاع الطبي    اليوم، فتح متحف السكة الحديد مجانا للجمهور احتفالا بذكرى تحرير سيناء    بعد وصفه بالزعيم الصغير .. من هم أحفاد عادل إمام؟ (تفاصيل)    قناة «CBC» تطلق برنامج «سيرة ومسيرة» الخميس المقبل    خطر تحت أقدامنا    مصطفى الفقي: كثيرون ظلموا جمال عبد الناصر في معالجة القضية الفلسطينية    نتائج مباريات ربع نهائي بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية PSA 2024    إصابة العروس ووفاة صديقتها.. زفة عروسين تتحول لجنازة في كفر الشيخ    رئيس البنك الأهلي: «الكيمياء مع اللاعبين السر وراء مغادرة حلمي طولان»    موعد مباراة ليفربول وإيفرتون في الدوري الإنجليزي والقنوات الناقلة    أيمن يونس: «زيزو» هو الزمالك.. وأنا من أقنعت شيكابالا بالتجديد    حظك اليوم وتوقعات الأبراج الأربعاء 24/4/2024 على الصعيد المهني والعاطفي والصحي    بقيادة عمرو سلامة.. المتحدة تطلق أكبر تجارب أداء لاكتشاف الوجوه الجديدة (تفاصيل)    موعد مباراة مانشستر يونايتد وشيفيلد في الدوري الإنجليزي والقناة الناقلة    من أمام مكتب (UN) بالمعادي.. اعتقال 16 ناشطا طالبوا بحماية نساء فلسطين والسودان    مسئول أمريكي: خطر المجاعة «شديد جدًا» في غزة خصوصًا بشمال القطاع    إعلام عبري: مخاوف من إصدار الجنائية الدولية أوامر اعتقال لمسؤولين بينهم نتنياهو    نشرة التوك شو| انخفاض جديد فى أسعار السلع الفترة المقبلة.. وهذا آخر موعد لمبادرة سيارات المصريين بالخارج    3 أشهر .. غلق طريق المحاجر لتنفيذ محور طلعت حرب بالقاهرة الجديدة    أداة جديدة للذكاء الاصطناعي تحول الصور والمقاطع الصوتية إلى وجه ناطق    القبض على المتهمين بإشعال منزل بأسيوط بعد شائعة بناءه كنيسة دون ترخيص    مصرع سائق سقط أسفل عجلات قطار على محطة فرشوط بقنا    تونس.. قرار بإطلاق اسم غزة على جامع بكل ولاية    فريد زهران: دعوة الرئيس للحوار الوطني ساهمت في حدوث انفراجة بالعمل السياسي    بالأسماء.. محافظ كفر الشيخ يصدر حركة تنقلات بين رؤساء القرى في بيلا    تعيين أحمد بدرة مساعدًا لرئيس حزب العدل لتنمية الصعيد    الأزهر يجري تعديلات في مواعيد امتحانات صفوف النقل بالمرحلة الثانوية    ما حكم تحميل كتاب له حقوق ملكية من الانترنت بدون مقابل؟ الأزهر يجيب    ‏هل الطلاق الشفهي يقع.. أزهري يجيب    هل يجوز طلب الرقية الشرعية من الصالحين؟.. الإفتاء تحسم الجدل    حكم تنويع طبقة الصوت والترنيم في قراءة القرآن.. دار الإفتاء ترد    رغم فوائدها.. تناول الخضروات يكون مضرا في هذه الحالات    أجمل مسجات تهنئة شم النسيم 2024 للاصدقاء والعائلة    عصام زكريا: القضية الفلسطينية حضرت بقوة في دراما رمضان عبر مسلسل مليحة    «رب ضارة نافعة»..أحمد عبد العزيز يلتقي بشاب انفعل عليه في عزاء شيرين سيف النصر    تنخفض 360 جنيهًا بالصاغة.. أسعار الذهب في مصر اليوم الأربعاء 24 إبريل 2024    قد تشكل تهديدًا للبشرية.. اكتشاف بكتيريا جديدة على متن محطة الفضاء الدولية    طريقة عمل الجبنة القديمة في المنزل.. اعرفي سر الطعم    كم مرة يمكن إعادة استخدام زجاجة المياه البلاستيكية؟.. تساعد على نمو البكتيريا    موعد مباريات اليوم الأربعاء 24 أبريل 2024| إنفوجراف    مع ارتفاع درجات الحرارة.. دعاء الحر للاستعاذة من جهنم (ردده الآن)    عاجل- هؤلاء ممنوعون من النزول..نصائح هامة لمواجهة موجة الحر الشديدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يري أن الفنان مخلوق تسوقه الشياطين: وصايا فوكنر
نشر في أخبار الأدب يوم 21 - 12 - 2013

تستعد مدينة باسكاجولا بالمسيسيبي لإقامة مهرجان وليم فوكنر الأول المسيبسيبي لإقامة المهرجان
روائي المسيبسيبي الكبير ، والحائز علي جائزتي البوليتزر ونوبل للأدب، له ارتباط قوي بباسكاجولا، حيث كتب روايته الثانية "الحشرات". نشرت الباريس ريفيو هذا الحوار في 1956 مع الكاتب الأمريكي ويليام فوكنر.
ولد ويليام فوكنر بإسم ويليام كوثبرت فوكنر في شهر سبتمبر عام 1897 في نيو ألباني بولاية مسيسيبي ثم انتقلت عائلته الي مقاطعة اكسفورد بنفس الولاية حيث قضي بقية حياته واستمد منها جيفرسون عاصمة مقاطعته المُتَخْيّلة. قال عن روايته "الصخب والعنف": شإنها رواية بنت عاهرة..إنها أعظم ما سأكتبه يوما" .
الحوار هو أشبة بوصية من كاتب كبير ...عن الكتابة والإبداع. وصية لكل من يكتب أو من يخطو أولي خطواته في عالم الكتابة ..هذه هي أهميته!
المحاور: ذكرت مسبقا انك تكره الحوارات الصحفية؟
فوكنر: السبب وراء ذلك ان الاسئلة عادة ما تكون شخصية وليست متعلقة بالعمل، اذا كانت شخصية فربما أجيب وربما لا افعل وحتي اذا اجبت اليوم علي سؤال شخصي وتم سؤالي نفس السؤال في الغد فمن المحتمل ان تكون الاجابة مختلفة.
المحاور: اذا حدثنا عن ويليام فوكنر الكاتب.
فوكنر: اذا لم يولد فوكنر كان سيقوم بدوري كاتب اخر مثل هيمنجواي، ديستويفسكي، أي كاتب منا. والدليل علي ذلك ان هناك ثلاثة كتاب نشك في أن احدهم هو الكاتب الاصلي لمسرحيات شكسبير. والمسرحيات الاهم هما "هاملت" و"حلم منتصف ليلة صيف" من كتابات شخص اخر. فالفنان ليس له قيمة ولكن ما يفعله هو ما يكون ذا معني وأهمية، حتي يجف نبع كتاباته. شكسبير وبالزاك وهومر جميعهم كتبوا حول نفس القيم ولو كانوا عاشوا مائة او مائتي سنة اخري، كان الناشرون توقفوا عن نشر اعمالهم.
المحاور: ولكن حتي اذا وصل الكاتب لمرحلة ان لا جديد ليقال، أليست شخصية الكاتب مهمة؟
فوكنر: مهمة فقط لنفسه. فيجب علي القارئ ان يهتم بالعمل الفني اكثر من الفنان.
المحاور: وماذا عن معاصريك؟
فوكنر: جميعنا فشل في تحقيق حلمه بالكمال. لذلك أقوم بتقييمنا علي أساس فشلنا النبيل في فعل المستحيل. في رأيي، اذا استطعت أن أكتب أعمالي مرة أخري فأنا علي يقين أني سأكتبها بشكل أفضل وهي حالة صحية جدا بالنسبة لأي فنان. لذلك هو دائم العمل والمحاولة مرات أخري ومعتقد ان هذه المرة سيفعلها ويحقق الكمال وينجح.ت بالطبع لن يفعل ولذلك هي تعتبر حالة صحية. وعندما يحقق ذلك، عندما يطابق أحلامه بالصورة التي تبلبل ذهنه وبالحلم الذي يؤرقه لن يبقي شيء آخر سوي الفناء، القفز إلي الجانب الآخر من ذروة الخيال إلي الانتحار. أنا كشاعر فاشل، قد يكون جميع الروائيين قد أرادوا كتابة الشعر أولا ثم وجدوا أنفسهم غير قادرين فحاولوا مع القصص القصيرة والتي هي اكثر أشكال الكتابة المرغوبة بعد الشعر. وبعد الفشل أيضا يبدأ في كتابة أولي رواياته.
المحاور: أيمكن للكاتب أن يتبع وصفة معينة ليكون كاتباً روائياً جيدا؟
فوكنر: 99٪ موهبة..99٪ التزام..99٪ عمل. لابد ألا يكون راضيا تماما عما كتبه. لن يكون العمل أبدا جيدا حتي يستطيع اتمامه. احلم دائما وارفع سقف طموحاتك فوق قدراتك. ولا تزعج نفسك بالمنافسة مع معاصريك او اسلافك. حاول ان تكون أفضل من نفسك. فالفنان مخلوق تسوقه الشياطين. هو لا يعرف لماذا قاموا باختياره، وهو في المقابل مشغول جدا لا وقت لديه ليتساءل. هو يخشي بشدة انه سوف يضطر الي السرقة والدَّين وترجي أي شخص وكل شخص حتي يتم عمله.
المحاور: هل تعني أن الكاتب لابد أن يكون قاسياً، عديم الرحمة؟
فوكنر: الكاتب مسئول فقط عن عمله، وسيكون قاسياً فقط اذا أتم عمله علي أكمل وجه. فهو لديه حلم يزعجه كثيرا كونه من المحتم تجاوزه والتخلص منه، ولن ينعم بالسلام حتي يحققه. فكل شيء، السعادة، الفخر، الاحترام، الأمن، يهون في مقابل إتمام العمل. فالكاتب اذا اضطر إلي اغتصاب أمه فلن يتردد، فقصيدة مثلت"Ode on a Garecian Urn"تاو قصيدة علي غرة أغريقي تحتاج الي عدة سيدات طاعنات في السن.
المحاور: اذا فأنت تعتبر ان نقص الأمن والسعادة والاحترام مهم بالنسبة لإبداع الكاتب؟
فوكنر: لا، إنهم فقط مهمون من اجل سلامته وقناعته الشخصية، فالفن لا شأن له بدون السلام والقناعة.
المحاور: ما هو أنسب مناخ للكاتب؟
فوكنر: الفن غير مرتبط بمناخ بعينه، فهو لا يهتم بالمكان. إذا كنت تعنيني أنا بالسؤال فأفضل عمل قدم لي كان لأصبح مالك ماخور، في اعتقادي، انه المناخ المناسب لأي كاتب. فانه سيعطي للكاتب اقتصاداً حراً فلا يحمل هما للديون او الجوع، لديه سقيفة في الاعلي كل ما عليه فعله هو عمل عدة حسابات مصرفية والذهاب مرة شهريا لدفع الضريبة. المكان هادئ في ساعات النهار وهو افضل وقت للكتابة خلال اليوم. وهناك حياة اجتماعية كافية له في المساء اذا احب ان يشارك حتي لا يشعر بالملل. فهذا يعطيه الاستمرارية الاجتماعية. كما أن جميع سكان المنزل من النساء اللاتي سيشيرن إليه بلقب "السيد" قبل اسمه وأيضاً سيفعل الجيران، وبالطبع سيتحدث هو إلي رجال الشرطة بأسمائهم الأولي.
لذلك فإن المناخ المناسب للكاتب هو ما يحقق السلام والعزلة والسعادة التي لا تكلف الكثير من المال. بالنسبة لي فكل ما قد أحتاج اليه للكتابة هو الورق والتبغ والطعام والقليل من النبيذ.
المحاور: تقصد نبيذاً أمريكياً؟
فوكنر: لا..ليس تحديدا، أحبذ الاسكوتش أكثر.
المحاور: لقد ذكرت أن الكاتب يحتاج إلي اقتصاد حر، هل الكاتب في حاجة إليه فعلا؟
فوكنر: لا. الكاتب ليس في حاجة الي رأس مال، كل ما يحتاج اليه هو قلم رصاص وورق. انا لا أعرف كتابة جيدة تأتي من وراء المال الوفير القادم بدون جهد. فمثلا الكاتب الجيد لا يستطيع ان يخصص وقته لمؤسسة ما، لانه حتما مشغول بالكتابة. فالكتابة الجيدة تأتي من وراء اللصوص والمهربين والمهمومين. الناس الذين يخشون بالفعل اختبار مدي تحملهم للمشقة والفقر، مدي خشونتهم. تأكد ان لا شيء يستطيع ان يدمر الكاتب الجيد سوي الموت. فالكُتاب الجيدون ليس لديهم وقت لإزعاج انفسهم بالنجاح او الغني. فالنجاح أمر أنثوي يشبه النساء، اذا تذللت أمامها سوف تتخطاك لذا لابد ان تتعامل معها بظهر يدك، وبالتأكيد ستزحف اليك.
المحاور: هل تحويل أعمالك إلي أفلام سينمائية بإمكانه الإضرار بها؟
فوكنر: لا شيء يمكن ان يضر بروايات أي كاتب اذا كان هو من الدرجة الاولي. ولكن لو ليس كذلك فلا شيء سيفيده.
المحاور: هل من الأفضل أن يقبل الكاتب بحل وسط ويكتب للسينما بشكل مباشر؟
فوكنر: بالطبع، لان السينما بطبيعتها تختلف عن الرواية فلابد من التعاون وأي تعاون يعتبر حلاً وسطاً وهذا ما يعنيه "هات وخد".
المحاور: ما الفيلم الذي تود كتابته للسينما؟
فوكنر: أود كتابة تحفة جورج أورويل الادبية 1984، فلدي فكرة لنهاية تثبت الأطروحة التي طالما توصلت اليها وهي ان المرء خالد فقط لرغبته البسيطة في الحرية.
المحاور: قلت إن الكاتب عليه القبول بتسوية بشأن كتاباته للسينما. ماذا عن التزامه أمام القارئ؟
فوكنر: التزامه يكون في تقديم عمله علي أفضل صوره، عليه أن يتجاوز ذلك الالتزام ويمضي في الطريق الذي يحب. فأنا عن نفسي منشغل جداً عن متابعة العامة. ولا وقت لأتساءل لماذا يقرأوني. انا لا أهتم كثيرا برأي أي شخص في أعمالي أو أعمال غيري من الكتاب، فالمعيار الذي لابد أن أواجهه، هو ماهية شعوري وانا اقرأ لوحة "إغراء سانت أنطوني أو العهد القديم" إنهم بالتأكيد يجعلونني سعيداً. كذلك تفعل مشاهدة الطيور، إذا كان بإمكاني الحياة في جسد آخر فانا أفضل أن أصبح صقراً، لا أحد يكرهه أو يحسده أو يريده أو حتي يحتاج إليه. فهو لن يشعر أبدا بالإزعاج أو بالخطر، كما أنه بإمكانه أكل أي شيء.
المحاور: ما هو التكنيك الذي تتبعه لتصل إلي معيارك؟
فوكنر: لا توجد طريقة ميكانيكية لإتمام أي عمل، لا اختصارات. فالكاتب الشاب سيبدو كأحمق اذا اتبع نظرية بعينها. تعلم بنفسك من أخطائك، فالناس تتعلم فقط بالخطأ. الفنان الجيد يعتقد أن لا أحد جيد بشكل كافي حتي يقدم له النصيحة. فهو يشعر بالخيلاء. لا يهم الي أي مدي أعجب بفن اسلافه، فهو دائما يريد ان يكون أفضل منهم.
المحاور: إذن فأنت تنكر أهمية وجود تكنيك؟
فوكنر: علي الاطلاق، في بعض الاحيان يستهلك التكنيك حلم الكاتب ويجعله كمن يجري في المكان. إن الإبداع والعمل المنتهي هو ببساطة كالبنيان المرصوص، من المحتمل أن يعرف الكاتب كل كلمة صحيحة سيكتبها حتي النهاية قبل حتي أن يضع أولي كلماته. وهذا ما حدث معي في "بينما أرقد محتضرا" ولم يكن هذا هيناً. كان الأمر بسيطاً لأن المادة الخام كلها بين يدي. فقد استغرق الأمر مني حوالي ستة أسابيع في وقت الفراغ، تقريبا احدي عشرة ساعة في اليوم. لقد تخيلت مجموعة من الناس وأدخلتهم في كوارث طبيعية عالمية، مثل الفيضان والنار، مع وجود حافز طبيعي لتوجيههم نحو الأفضل. ولكن اذا لم يطرأ التكنيك فان الكتابة تصبح سهلة أيضا. لأن عند الوصول إلي منحني ما تقوم الشخصيات نفسها بصنع الاحداث وإنهاء العمل. عندما أتذكر الصفحة 275، في الحقيقة لا أعرف ما قد يمكن ان يحدث اذا انهيت العمل عند 274، فالجودة التي لابد ان يتحلي بها الفنان أن يحكم علي عمله بموضوعية بجانب الصدق والشجاعة حتي لا يعذب نفسه بها. حتي إذا لم يصل أي من أعمالي الي المستوي الذي أنشده فلابد أن حكمي يكون علي أساس ما سبب لي أكثر حزن ومعاناة، مثل أم تحب ابنها الذي صار لصاً او قاتلاً أكثر من الآخر الذي أصبح كاهناً.
المحاور: عن أية رواية تتحدث؟
فوكنر: "الصخب والعنف". لقد كتبتها خمس مرات منفصلة، في محاولة لأروي الحكاية، لأحرر نفسي من الحلم الذي استمر في إزعاجي حتي كتبت. إنها تراجيديا عن امرأتين تائهتين: كادي وابنتها، ديسلي واحدة من شخصياتي المفضلة لأنها تتحلي بالشجاعة والصدق والنبل أكثر مني.
المحاور: وكيف تبدأ "الصخب والعنف"؟
فوكنر: تبدأ بصورة ذهنية. لم أتميز رمزيتها في البداية. كانت الصورة لمؤخرة فتاة صغيرة ترتدي سروالاً تحتياً موحلاً تسلقت شجرة الكمثري لتتمكن من مشاهدة جنازة جدتها وتحكي لأخيها القابع فوق الأرض عما تراه. بعد ذلك شرحت مَن هؤلاء وماذا كانوا يفعلون وكيف اتسخ سروالها التحتي بالوحل، ولقد أدركت ان هذه الأحداث قد تدور في قصة قصيرة ثم تنتقل إلي رواية. ثم أدركت رمزية السروال الملطخ بالوحل واستبدلت هذه الصورة بفتاة صغيرة يتيمة تزحف عبر أنبوب التصريف حتي تهرب من بيتها حيث أنها لم تكن أبدا تتلق أياً من الحب أو الاستيعاب أو العطف. لقد بدأت بالفعل في تلاوة القصة من خلال أعين طفل أحمق ولكنني شعرت انها ستكون مؤثرة اكثر اذا حكيتها علي لسان شخص في كامل قواه العقلية فقط ليكون مدركا ماذا حصل ولكن ليس لماذا حصل. فلقد رأيت أنني في المرة الاولي لم أرو القصة بعد، لذا فأنا في حاجة الي روايتها مرة أخري، نفس القصة من خلال أعين أخ آخر. ولكنها بقيت ناقصة فحكيتها مرة أخري من خلال أعين أخ ثالث. ولكني لم أشعر بالاكتمال بعد فحاولت جمع الشظايا معاً وملء الفجوات وجعلت نفسي الراوي في الجزء الاخير. ولكني لم أرض بعد، ليس بعد خمسة عشر عاما من النشر عندما كتبت ما يشبه الملحق لكتاب آخر وهو المحاولة الاخيرة لحكي هذه القصة وطردها من ذهني. إنه الكتاب الذي أشعر نحوه بالضعف، فلم أستطع تركه وحيداً ولم أستطع أيضا حكيه بالشكل الصحيح، رغم محاولاتي الجهيدة وكنت أود المحاولة مرة أخري رغم أني قد أفشل مرة أخري.
المحاور: ما العاطفة التي أثارها بنجامين بداخلك؟
فوكنر: العاطفة الوحيدة التي أثارها بنجي هي الحزن والعطف علي كل الرجال الذين يعانون من التوحد. لا تستطيع أن تشعر اي احساس حياله لانه هو نفسه لا يشعر بأي شيء. الشيء الوحيد الذي اشعره تجاهه هو القلق حول اذا كان شخصية ذات مصداقية بالنسبة لشخصية مبتكرة. لقد كان ديباجة مثل حفار القبور في الدراما الاليزابيثية. وجاء لهدف معين ثم ذهب. فهو غير قادر علي فعل خير او شر لانه ليس لديه خبرة.
المحاور: هل يشعر بنجي بالحب؟
فوكنر: لم يكن بنجي لديه القدرة العقلية حتي ليكون أنانياً، لقد كان حيواناً. لقد أدرك العطف والحب رغم أنه لا يعرف مسمياتهم، وكان هذا الإدراك هو سبب خواره عندما شعر بتغير كادي تجاهه التي لم يعد يمتلكها، فهو كأحمق لم يع حتي اختفائها. هو فقط يعرف ان هناك شيئاً ما خطأ ترك فراغاً كبيراً تسبب في حزنه. وسعي لملء هذا الفراغ. الشيء الوحيد الذي تبقي منها هو نعلها المُهْمّل. وقد كان هو الحب والعطف بالنسبة له. كان متسخاً لانه لم يكن متسقاً ولان ايضا الاتساخ لا يعني الكثير له. لم يعد يُفرق بين الاتساخ والنظافة اكثر من الخير والشر. لقد منحه النعل العطف والحب الذي لم يستطع تسميتهم ولم يعد يذكر لمن هذا النعل علي قدر تذكره للحزن حتي إذا عادت كادي فلن يتعرف عليها.
المحاور: هل وردة النرجس التي قُدمت لبنجي تحمل أية دلالة؟
فوكنر: لقد اُعطيت له لصرف انتباهه، إنها مجرد وردة كانت متاحة في الخامس من ابريل. لم يكن هذا متعمدا.
المحاور: هل هناك أية مزايا فنية في تصوير الرواية في القالب الرمزي، مثل الرمزية المسيحية التي استخدمتها في الرواية؟
فوكنر: نفس المزايا التي يجدها النجار في أركان مبني مربع لأنه يريد بناء منزل مربع الشكل. كان الرمز المسيحي هو المناسب لاستخدامه خاصة في هذه الرواية، مثل المستطيل، فالركن المربع هو الركن المناسب لبناء مستطيل، منزل قائم الزوايا.
المحاور: هل هذا يعني أن الفنان في إمكانه ببساطة استخدام المسيحية كأداة مثل النجار الذي يستعير المطرقة؟
فوكنر: النجار الذي نتحدث عنه لم يفقد أبداً هذه المطرقة. كما أن لا أحد خارج المسيحية، أعني في الرواية. ذلك هو الرمز الشخصي للسلوك، بمعني أن الشخص يجعل من نفسه شخصاً أفضل مما تريده نفسه. أيا كان الرمز، صليباً أو هلالاً او ايا كان، فذلك الرمز يُذَكِّر الشخص بواجبه نحو الجنس البشري. فالرموز المختلفة هي مخططات ضد ما يقيس عليه نفسه ويتعلم عن ماهيته. لا يمكن أن تُعَلَم المرء كيف يصبح صالحا مثل الكتب التي تعلمه العلوم الرياضية. إنها توضح له كيف يكتشف نفسه، ويطور لنفسه رمزاً ومعياراً أخلاقياً ضمن قدراته وتطلعاته. بإعطاء مثال فريد من المعاناة والتضحية والوعد بالأمل. فالكُتّاب دائما يرسمون وسوف يرسمون فوق رموز من الوعي الاخلاقي، لأن الرموز لا مثيل لها، الرجال الثلاثة في "موبي ديك" الذين يقدمون ثالوث الضمير: لا يعرفون شيئا، يعرفون ولكن بلا اكتراث، يعرفون ويكترثون. تم تقديم نفس الثالوث في قصة لضابط طيار شاب يهودي، قال "هذا شيء رهيب. أرفض تقبله، حتي إذا اضطررت لرفض الحياة لن افعله". أما الأمين العام للمخازن الشيخ الفرنسي فقد قال "هذا رهيب، ولكن يمكننا البكاء والتحمل"، والعدّاء الانجليزي قال "هذا رهيب، سأتخذ كافة الاجراءات بشأنه".
المحاور: هل جاءت القصتان المتباينتان لمجموعتك القصصية "النخيل البري" بين دفتي كتاب واحد لهدف رمزي ما؟ هل هما، كما صرح بعض النقاد، شكل من الطباق الجمالي أم أن الأمر تم بعشوائية فحسب؟
فوكنر: لا لا، إنها قصة واحدة، قصة تشارلي وهاري اللذين ضحيا بكل شيء من أجل الحب ثم خسرا. لم أكن أعرف أنهما سيكونان قصتين منفصلتين حتي بعد أن بدأت الكتاب. عندما وصلت لنهاية ما هو الآن الفصل الاول من الكتاب اكتشفت فجأة أن هناك شيئاً ما مفقوداً ويحتاج إلي تأكيد، شيئاً ما يرتقي بالعمل مثل الطباق الموسيقي. لذلك كتبت "الشيخ" خصيصا حتي عادت "النخيل البري" إلي أوجها. ثم توقفت عن الكتابة في "الشيخ" وكتبت من البداية "النخيل البري" حتي بدأت في التهدل مرة أخري. ثم أوصلتها للقمة ثانيةَ بإضافة جزء آخر لتناقضها، وهو قصة الرجل الذي وجد حبه ويقضي بقية الكتاب في الهروب منه إلي الحد الذي يجعله يذهب الي السجن طواعية حيث يكون في مأمن. هناك قصتان فقط بالمصادفة وربما بالضرورة. أما القصة الأساسية فهي قصة شارلوت وهاري.
المحاور: إلي أي مدي تعتمد كتاباتك علي التجربة الشخصية؟
فوكنر: لا يمكنني القول. لم أقوم بعدها أبدا. لأن "لأي مدي" ليست أمراً مهماً. فالكاتب يحتاج ثلاثة اشياء: الخبرة، الرصد، والخيال، أي اثنين منهم وفي بعض الأحيان أي واحدة منهم، يمكنها تعويض نقص الصفات الاخري. معي، يبدأ الامر غالبا مع فكرة وحيدة أو ذكري أو صورة رمزية. كتابة القصة ليس الا مسألة عمل للوصول لتلك اللحظة من البدايات، لتفسير لماذا حدث هذا او ما تسبب به لاحقاً. فالكاتب يحاول خلق شخصيات ذات مصداقية ضمن مواقف انتقالية منطقية في أكثر طريق متنقل يمكنه الحصول عليه. من الواضح أنه لابد له من استخدام البيئة التي يعرفها باعتبارها واحدة من أدواته. وأود ان اقول أن الموسيقي أسهل وسيلة للتعبير منذ ان اُكتشفت بدايةَ في خبرة وتاريخ المرء. ولكن لأن الكلمات هي موهبتي، فلابد ان أحاول التعبير من خلال الكلمات عن الموسيقي الصافية التي قد تفعل ذلك بشكل أفضل.
المحاور: بعض الناس يقولون إنهم لا يستطيعون فهم كتاباتك، حتي بعد قراءتها مرتين وثلاثاً. فماذا تقول لهم؟
فوكنر: اقرأوها للمرة الرابعة.
المحاور: لقد ذكرت الخبرة والرصد والخيال كأدوات مهمة للكاتب، وماذا عن الوحي؟
فوكنر: أنا لا أعرف شيئاً عن الوحي لاني لا أعرف ما هو الوحي، لقد سمعت به ولكنني أبدا لم أره.
المحاور: ذكرت شيئا عن شغفك بالعنف ككاتب.
فوكنر: هذا مثل القول ان النجار شغوف بمطرقته. العنف ببساطة هو إحدي ادوات النجار. الكاتب لا يستطيع البناء بأداة واحدة بيد أن النجار يستطيع.
المحاور: حدثنا عن بداياتك ككاتب.
فوكنر: كنت أعيش في نيو أورليانز، حيث كان امتهان أي شيء ضرورياً من أجل جني المال للآن والمستقبل. قابلت الكاتب الامريكي شروود أندرسون. كنا نسير معا عبر المدينة وقت الظهيرة ونتحدث مع الناس. وفي المساء نتقابل مرة أخري ونحتسي زجاجة أو اثنتين من النبيذ بينما هو يتكلم وأنا أستمع. لا أراه مطلقاً أثناء النهار. لقد كان منعزلاً، يعمل. وفي اليوم التالي نعيد الكرة. قررت أنه إذا كانت هذه حياة الكاتب فهذه هي الحياة المناسبة لي. وبدأت بالفعل كتابة أول كتاب. في البداية وجدت الكتابة شيئاً ممتعا. حتي نسيت أنني لم أر مستر اندرسون لمدة ثلاثة أسابيع وجاء هو لبيتي، كانت أول مرة يأتي لي بنفسه، وقال "ماذا بك؟، هل أزعجك بمقابلتنا؟" فأخبرته اني عاكف علي كتابة رواية. قال "يا الله" ثم مضي. عندما انتهيت وكانت "أجر الجندي" قابلت زوجة أندرسون في الشارع. سألتني عن الرواية فأخبرتها أنني أنهيتها. قالت "قال شيروود انه سيعقد معك صفقة، إذا لم يقرأ الرواية علي مضض سيجعل ناشره يقبلها". قلت "حسنا" وهكذا أصبحت كاتباً.
المحاور: ما هي نوعية العمل التي كانت توفر لك المال "للآن والمستقبل"؟
فوكنر: أيا كان، ما أجده. قد أفعل القليل من كل شيء، تشغيل القوارب، طلاء البيوت، أساعد في تحريك الطائرات. أبدا لم أحتج لمبالغ طائلة لأن الحياة حينذاك كانت زهيدة في نيو أورليانز وكل ما كنت أطمح اليه هو مكان للنوم والقليل من الطعام والتبغ والشراب. كان هناك العديد من المهن التي في إمكاني عملها لمدة يومين أو ثلاثة وكسب الكثير من المال تكفيني لبقية الشهر. وفقا لمزاجي فأنا متشرد وصعلوك. عدم حاجتي الشديدة للمال جعلتني لا أعمل من أجله. في رأيي أن وجود الكثير من العمل في العالم أمر مخجل. فمن أكثر الأشياء المحزنة أن الشيء الوحيد الذي يستطيع الرجل فعله هو العمل لثمان ساعات في اليوم، يوم بعد يوم. فأنت لا يمكنك تناول الطعام لمدة ثمان ساعات أو أن تحتسي المشروبات لثمان ساعات أو تمارس الحب ذ كل ما بوسعك عمله لمدة ثمان ساعات هو العمل. وهذا هو سبب جعل المرء نفسه وكل شخص حوله في حالة مريعة وتعيسة
المحاور: لابد أنك تشعر بالفضل نحو شيروود اندرسون، ولكن كيف تقييمه ككاتب؟
فوكنر: لقد كان أباً لجيلي من الكتاب الامريكيين كما أنه وضع تقاليد للكتابة الامريكية وهي التي سيحملها الناجحون منا علي عاتقه. لم يحظ أبدا بتقدير مناسب. كان الكاتب الامريكي ثيودور درايزر بمثابة أخيه الأكبر والكاتب الامريكي مارك توين كان أباً لكليهما.
المحاور: ماذا عن الكتاب الأوربيين في ذلك الوقت؟
فوكنر: أعظم اثنين في ذلك الوقت في رأيي هما الروائي الألماني توماس مان والروائي الأيرلندي جيمس جويس. لابد أن نتعامل معت "عوليس" علي انها الواعظ الانجيلي الأمي الذي يضاهي العهد القديم، بجانب الايمان.
المحاور: كيف تلقيت الخلفية الخاصة بك من الانجيل؟
فوكنر: جدي العظيم موري كان طيباً ونبيلاً بالنسبة لأطفال مثلنا. كما أنه كان اسكتلندياً غير ورع ولا صارم في نظرنا، كانت له ببساطة مبادئ ثابتة. كل صباح كان علينا ان نكون علي أهبة الاستعداد لترديد آية من الكتاب المقدس واذا لم تتل آيتك الخاصة يتم حرمانك من الإفطار. ولابد أن تكون آية موثوقاً منها وصحيحة تماما. وفي صباح ما قد تجد فجأة عينه عليك، شديدة الزرقة، شديدة الطيبة والنبل، بيد انها ليست صارمة علي قدر قسوتها. وفي الصباح التالي لابد ان تكون معك آية جديدة. بطريقة ما، تبدأ في اكتشاف ان طفولتك انتهت وقد تجاوزتها الي العالم.
المحاور: هل تقرأ أعمالك المعاصرة؟
فوكنر: لا، الكتب التي أقرأها هي الكتب التي كنت أحبها وعرفتها أثناء شبابي، وبذلك أعود مرة اخري لأصدقاء قدامي: العهد القديم، أعمال ديكنز، الكاتب البولندي جوزيف كونراد، وأُُفضل رواية الكاتب الاسباني ثرفانتس "دون كيخوتة"، فأنا اقرأها كل عام، وكذلك الانجيل، كما اقرأ لفلوبير وبلزاك الذي خلق عالماً بكراً علي طريقته الخاصة، تيار من الدم خلال عشرين كتاباً، دستويفسكي، تولستوي، شكسبير. اقرأ للروائي الامريكي هرمان ميلفيل بين الحين والاخر، أما عن الشعر، فاقرأ للشعراء الانجليز كريستوفر مارلو وتوماس كامبيان وبين جونسون وروبرت هريك وجون دون وجون كيتس وشيلي، مازلت أقرأ هاوسمان. في الاغلب قرأت كل هذه الكتب، لذلك عندما أعود إليها فانا اقرأ عن شخصية ما أو مشهد واحد وكأنني اتكلم أو التقي مع صديق لدقائق معدودة.
المحاور: وفرويد؟
فوكنر: عندما كنت في نيو أورليانز كان الجميع يتحدث عن فرويد، ولكني لم أقرأ له قط. ولا شيكسبير فعل. وأشك أن ميلفيل فعل ذلك أو حتي موبي ديك.
المحاور: هل قرأت رواية ألغاز قبل ذلك؟
فوكنر: قرأت لجورج سيمنون لانه يذكرني بشيء من تشيكوف.
المحاور: ما الشخصيات المفضلة لك؟
فوكنر: تعتبر سارة جامب من شخصياتي المفضلة، هي امرأة قاسية عديمة الرحمة وسكيرة وانتهازية ولا يعول عليها ولديها جانب كبير سييء، ولكنها في النهاية شخصية. والسيدة هاريس وفالستاف والامير هال ودون كيشوت وبالطبع سانشو كما أنني دائماً شديد الاعجاب بالليدي ماكبث. وبوتوم وأوفيليا وميركتيو، هو والسيدة جامب تعاملا مع الحياة ولم يطلبا أية خدمات وأبدا لم ينتحبا. وبالطبع هاكلبري فين وجيم. لم أحب توم سوير بدرجة كبيرة لطبيعته الخشنة الفظة. كما أحب سوت لوفنجوود من كتاب لجورج هاريس ما بين 1940 و1950 في جبال ولاية تينيسي. لم يكن لديه أوهام عن نفسه وبذل قصاري وسعه وفي أوقات معينة كان جباناً وقد عرف ذلك ولم يشعره ذلك بالخجل. لم يسبق له أن القي باللوم علي أي شخص بسبب سوء حظه ولم يفقد ايمانه بالله أبدا.
المحاور: هل لديك أي تعليق خاص بمستقبل الرواية؟
فوكنر: اتخيل ان طالما استمر القراء في قراءة الرواية سيستمر الكتاب في كتاباتهم وكذلك العكس، ما لم يكن الكوميكس والمجلات المصورة قد جعلا قدرة الانسان علي القراءة في طريقها للضمور، والأدب في طريقه إلي الرجوع الي الكتابات المرسومة في كهوف النياندرتال.
المحاور: وماذا عن فن النقد؟
- فوكنر: الفنانون ليس لديهم الوقت ليستمعوا الي النقاد. من يريدون ان يكونوا كتاباً يستمعون الي عرض الكتب ومراجعتها، ولكن من يكتب ليس لديه الوقت لذلك. النقاد أيضا يحاولون إثبات انفسهم "نحن هنا". فوظيفة الناقد غير موجهة إلي الفنان نفسه. الفنان أعمق من الناقد، بالنسبة للفنان فكتابة شيء ما، هو ما سيحرك الناقد. وبالنسبة إلي الناقد فإن الكتابة هي ما تحرك أي شخص آخر غير الفنان.
المحاور: وهكذا فلم تشعر قط برغبة في مناقشة أعمالك مع أحد آخر؟
فوكنر: لا أنا مشغول للغاية في الكتابة. إذا أسعدني المحتوي لا أحب الحديث عنه، واذا لم يفعل فالحديث عنه لن يجعله أفضل، فالشيء الوحيد الذي سيجعله أفضل هو العمل عليه مرة اخري. أنا لست رجل أدب، أنا فقط كاتب. ولا أجني أي سعادة من متجر الكلام.
المحاور: يدعي النقاد أن قرابة الدم هي المحرك الرئيسي لأعمالك.
فوكنر: هذا رأي وكما قلت قبل ذلك، أنا لا أقرأ للنقاد. وأرتاب في أن محاولة الرجل الكتابة عن الناس هي اهتمام لقرابة الدم، أكثر منها اهتمام بمظاهرهم وأشكالهم، حتي إذا كان ذلك مهماً لمساعدته في اكتمال القصة. إذا ركز الكاتب انتباهه فيما يحتاج للاهتمام به، مثل الحقيقة والإحساس الإنساني، فلن يتوفر له الوقت لأي شيء آخر، مثل الأفكار والحقائق عن المظاهر أو قرابة الدم. حتي إن الأفكار والحقائق، في رأيي أنا، لديها صلة ضعيفة بالحقيقة.
المحاور: يقول النقاد كذلك إن شخصياتك لا يختارون بين الخير والشر بشكل واع.
فوكنر: الحياة لا تهتم بالخير والشر. فشخصية دون كيشوت كانت تختار بين الخير والشر باطراد وبعد ذلك بدأ يختار في أحلامه. لقد كان مجنوناً. لقد أدرك الواقع فقط عندما أصبح مشغولاً بالتعامل مع الناس، حتي إنه لم يعد لديه الوقت ليفرق بين الخير والشر. مثل هؤلاء موجودون فقط في الحياة ولابد لهم تكريس وقتهم لكي يعيشوا. فالحياة حركة والحركة ترتبط بما يجعل المرء متحركا مثل التطلع والقوة والسعادة.
المحاور: ألا توضح لنا ما معني كلامك عن الحركة فيما يتعلق بالفنان؟
فوكنر: هدف كل كاتب هو كبح الحركة والتي هي الحياة بوسائل صناعية والابقاء عليها ثابتة لمئات السنين لوقت لاحق، وعندما ينظر إليها شخص غريب تتحرك ثانية وكأنها الحياة. حتي إذا كان المرء فانياً، فإن السبيل الوحيد لإمكانية الخلود بالنسبة له هو ترك شيء ما خلفه وبذلك يبقي خلوده في حركة دائمة.
المحاور: يقول الناقد الأدبي مالكوم كولي إن شخصياتك تذعن لأقدارها.
فوكنر: هذا رأيه. بعض الشخصيات تفعل وبعضها لا يفعل، مثل الشخصيات الواقعية. مثلا شخصية لنا جروف في "ضوء في أغسطس" واجهت نفسها بإرادة بارعة. لم يكن بالفعل شيئاً مهماً بالنسبة لها فيما يتعلق بالقدر، واذا ما كان زوجها هو لوكاس بورش أم لا. لقد كان قدرها أن يكون لها زوج وأطفال وهي تعرف ذلك وقد خرجت واعتنت بهم دون طلب المساعدة من أي شخص. كانت قائدا لروحها. واحد من أهدأ الكلام وأكثره عقلانية مما سمعته علي الاطلاق، كان عندما قالت لبايرون بونتش بلحظة عميقة في محاولة لصد محاولته اليائسة والمتهورة في الاغتصاب "ألا تخجل؟ ربما توقظ الطفل." لم ترتبك لحظة، أو تخاف أو تقلق. إنها حتي لم تدرك عدم احتياجها للرثاء. اخر حوار لها علي سبيل المثال "لم أسافر إلا لشهر، وأنا بالفعل في تينيسي. يا إلهي، يا إلهي، الجسد يراوغ".
عائلة باندرن في "بينما أرقد محتضراً" واجهت نفسها بإرادة قوية. فالأب فقد زوجته وأحس بحاجته لشريكة أخري فتزوج مرة ثانية. وبضربة واحدة لن يستبدل طباخ الاسرة فحسب بل حصل علي جرامافون ليضفي البهجة عليهم أثناء استرخائهم. فشل حمل الابنة هذه المرة لتعود الي حالتها الصحية ولكن عزيمتها لم تفتر. قررت المحاولة مرة أخري، حتي اذا فشل الجميع للنهاية، فهذا لا يمثل شيئاً بل مجرد طفل.
المحاور: كما يقول مستر كولي إنك تجد صعوبة في خلق شخصيات يتراوح عمرها بين العشرين والاربعين، حيث خفة الروح.
فوكنر: الشخصيات ما بينت العشرين والأربعين ليسوا متعاطفين أو حساسين أو خفيفي الروح. فالطفل لديه القدرة علي ذلك ولكنه هو نفسه لا يدرك هذا. يدركه فقط بعد أن يكون غير قابل للتعاطف، بعد سن الاربعين. بين العشرين والاربعين تكون إرادة الطفل قوية وخطيرة ولكنه لم يبدأ التعلم ليدرك ذلك. ولكن البيئة المحيطة والضغوط تجعل تلك القدرات تسير نحو الشر، فالرجل يكون قوياً قبل أن يكون أخلاقيا. كما أن إزعاج العالم يكون بسبب من هم بين العشرين والأربعين. فالناس حول بيتي الذين يتسببون في توتر عرقي، كل من هم علي شابهة ميلام وبراينت الذين قتلوا ايميت تل* وعصابات السود الذين اختطفوا امرأة بيضاء واغتصبوها بعنف، وأشباه هتلر ونابليون ولينين، كل هؤلاء هم نماذج بشرية وللإزعاج ولمن تعذبوا بسببهم وكلهم كانوا بين العشرين والاربعين.
المحاور: لقد صرحت للصحف برأيك في مقتل ايميت تل. هل لديك أية إضافة تقولها لنا؟
فوكنر: لا، فقط سأعيد ما قلته قبل ذلك: إذا كنا نحن كأمريكيين نطمح للبقاء علي قيد الحياة، فسيكون علينا أن نختار وننتخب وندافع لنكون أول الأمريكيين في تقديم للعالم جبهة واحدة متجانسة ومتصلة، سواء كانت من الأمريكيين البيض أو السود أو الأرجوانيين أو الزرق أو الخضر. ربما كان الهدف من ذلك القتل الخطأ المأساوي والمؤسف في بلدتي المسيسيبي بواسطة اثنين من الامريكان البيض تجاه صبي أسود حزين هو إثبات لنا ما اذا كنا نستحق البقاء ام لا. لأننا إذا وصلنا الي ذلك المنحني في ثقافتنا البائسة، وهو قتل الاطفال، فلا يهم حينها ما هي الأسباب أو الألوان، نحن لا نستحق البقاء ومن المحتمل أننا لن نبقي.
المحاور: ماذا حدث لك بين "أجر الجندي" و"سارتوريس"، مما جعلك تبدأ ملحمة يوكناباتوفا؟
فوكنر: في "أجر الجندي" وجدت أن الكتابة ممتعة. ولكني اكتشفت بعد ذلك ان ليس فقط لابد لكل كتاب أن يكون لديه تصميم خاص، ولكن كل أعمال أو بعض من أعمال الكاتب لابد أن يكون لها تصميم خاص بها. في "أجر الجندي" و"البعوض" كتبت من أجل الكتابة، لقد كانت حقاً ممتعة. بدءا من "سارتوريس" اكتشفت أن طابعي البريدي الصغير ل"الأرض الأم" يستحق بالطبع الكتابة عنه، وأنني لن أعيش الوقت الكافي أبداً لمعالجة هذا الموضوع. ولذلك خلقت الكون الخاص بي فأحرك الناس وكأني اله، ليس فقط في المكان ولكن في الوقت أيضاً. حقيقة أنني أحرك شخصياتي عبر الزمن بنجاح، علي الأقل في تقديري، تثبت لي أن نظريتي الخاصة عن الوقت هي حالة سائلة حيث لا وجود لها إلا في لحظة تجسد الافراد. لا يبقي شيء علي حاله. إذا كان موجوداً، لن يكون هناك أي حزن أو أسي. أحب أن أفكر في العالم الذي خلقته كشكل من أشكال حجر الزاوية في الكون، فهو صغير مثله، ولكن إذا انتزع من العالم سيختل. آخر كتاب لي سيكون يوم الخلاص، الكتاب الذهبي، لمقاطعة يوكناباتوفا. بعدها سأكسر قلمي واضطر الي التوقف.
الكُتاب الجيدون ليس لديهم وقت لإزعاج أنفسهم بالنجاح أو الغني. فالنجاح أمر أنثوي يشبه النساء، اذا تذللت أمامها سوف تتخطاك، لذا لابد ان تتعامل معها بظهر يدك، وبالتأكيد ستزحف اليك.
الموسيقي أسهل وسيلة للتعبير منذ ان اُكتشفت بدايةَ في خبرة وتاريخ المرء. ولكن لأن الكلمات هي موهبتي، فلابد ان أحاول التعبير من خلال الكلمات عن الموسيقي الصافية التي قد تفعل ذلك بشكل أفضل.
المحاور: ذكرت مسبقا انك تكره الحوارات الصحفية؟
فوكنر: السبب وراء ذلك ان الاسئلة عادة ما تكون شخصية وليست متعلقة بالعمل، اذا كانت شخصية فربما أجيب وربما لا افعل وحتي اذا اجبت اليوم علي سؤال شخصي وتم سؤالي نفس السؤال في الغد فمن المحتمل ان تكون الاجابة مختلفة.
المحاور: اذا حدثنا عن ويليام فوكنر الكاتب.
فوكنر: اذا لم يولد فوكنر كان سيقوم بدوري كاتب اخر مثل هيمنجواي، ديستويفسكي، أي كاتب منا. والدليل علي ذلك ان هناك ثلاثة كتاب نشك في أن احدهم هو الكاتب الاصلي لمسرحيات شكسبير. والمسرحيات الاهم هما "هاملت" و"حلم منتصف ليلة صيف" من كتابات شخص اخر. فالفنان ليس له قيمة ولكن ما يفعله هو ما يكون ذا معني وأهمية، حتي يجف نبع كتاباته. شكسبير وبالزاك وهومر جميعهم كتبوا حول نفس القيم ولو كانوا عاشوا مائة او مائتي سنة اخري، كان الناشرون توقفوا عن نشر اعمالهم.
المحاور: ولكن حتي اذا وصل الكاتب لمرحلة ان لا جديد ليقال، أليست شخصية الكاتب مهمة؟
فوكنر: مهمة فقط لنفسه. فيجب علي القارئ ان يهتم بالعمل الفني اكثر من الفنان.
المحاور: وماذا عن معاصريك؟
فوكنر: جميعنا فشل في تحقيق حلمه بالكمال. لذلك أقوم بتقييمنا علي أساس فشلنا النبيل في فعل المستحيل. في رأيي، اذا استطعت أن أكتب أعمالي مرة أخري فأنا علي يقين أني سأكتبها بشكل أفضل وهي حالة صحية جدا بالنسبة لأي فنان. لذلك هو دائم العمل والمحاولة مرات أخري ومعتقد ان هذه المرة سيفعلها ويحقق الكمال وينجح.ت بالطبع لن يفعل ولذلك هي تعتبر حالة صحية. وعندما يحقق ذلك، عندما يطابق أحلامه بالصورة التي تبلبل ذهنه وبالحلم الذي يؤرقه لن يبقي شيء آخر سوي الفناء، القفز إلي الجانب الآخر من ذروة الخيال إلي الانتحار. أنا كشاعر فاشل، قد يكون جميع الروائيين قد أرادوا كتابة الشعر أولا ثم وجدوا أنفسهم غير قادرين فحاولوا مع القصص القصيرة والتي هي اكثر أشكال الكتابة المرغوبة بعد الشعر. وبعد الفشل أيضا يبدأ في كتابة أولي رواياته.
المحاور: أيمكن للكاتب أن يتبع وصفة معينة ليكون كاتباً روائياً جيدا؟
فوكنر: 99٪ موهبة..99٪ التزام..99٪ عمل. لابد ألا يكون راضيا تماما عما كتبه. لن يكون العمل أبدا جيدا حتي يستطيع اتمامه. احلم دائما وارفع سقف طموحاتك فوق قدراتك. ولا تزعج نفسك بالمنافسة مع معاصريك او اسلافك. حاول ان تكون أفضل من نفسك. فالفنان مخلوق تسوقه الشياطين. هو لا يعرف لماذا قاموا باختياره، وهو في المقابل مشغول جدا لا وقت لديه ليتساءل. هو يخشي بشدة انه سوف يضطر الي السرقة والدَّين وترجي أي شخص وكل شخص حتي يتم عمله.
المحاور: هل تعني أن الكاتب لابد أن يكون قاسياً، عديم الرحمة؟
فوكنر: الكاتب مسئول فقط عن عمله، وسيكون قاسياً فقط اذا أتم عمله علي أكمل وجه. فهو لديه حلم يزعجه كثيرا كونه من المحتم تجاوزه والتخلص منه، ولن ينعم بالسلام حتي يحققه. فكل شيء، السعادة، الفخر، الاحترام، الأمن، يهون في مقابل إتمام العمل. فالكاتب اذا اضطر إلي اغتصاب أمه فلن يتردد، فقصيدة مثلت"Ode on a Garecian Urn"تاو قصيدة علي غرة أغريقي تحتاج الي عدة سيدات طاعنات في السن.
المحاور: اذا فأنت تعتبر ان نقص الأمن والسعادة والاحترام مهم بالنسبة لإبداع الكاتب؟
فوكنر: لا، إنهم فقط مهمون من اجل سلامته وقناعته الشخصية، فالفن لا شأن له بدون السلام والقناعة.
المحاور: ما هو أنسب مناخ للكاتب؟
فوكنر: الفن غير مرتبط بمناخ بعينه، فهو لا يهتم بالمكان. إذا كنت تعنيني أنا بالسؤال فأفضل عمل قدم لي كان لأصبح مالك ماخور، في اعتقادي، انه المناخ المناسب لأي كاتب. فانه سيعطي للكاتب اقتصاداً حراً فلا يحمل هما للديون او الجوع، لديه سقيفة في الاعلي كل ما عليه فعله هو عمل عدة حسابات مصرفية والذهاب مرة شهريا لدفع الضريبة. المكان هادئ في ساعات النهار وهو افضل وقت للكتابة خلال اليوم. وهناك حياة اجتماعية كافية له في المساء اذا احب ان يشارك حتي لا يشعر بالملل. فهذا يعطيه الاستمرارية الاجتماعية. كما أن جميع سكان المنزل من النساء اللاتي سيشيرن إليه بلقب "السيد" قبل اسمه وأيضاً سيفعل الجيران، وبالطبع سيتحدث هو إلي رجال الشرطة بأسمائهم الأولي.
لذلك فإن المناخ المناسب للكاتب هو ما يحقق السلام والعزلة والسعادة التي لا تكلف الكثير من المال. بالنسبة لي فكل ما قد أحتاج اليه للكتابة هو الورق والتبغ والطعام والقليل من النبيذ.
المحاور: تقصد نبيذاً أمريكياً؟
فوكنر: لا..ليس تحديدا، أحبذ الاسكوتش أكثر.
المحاور: لقد ذكرت أن الكاتب يحتاج إلي اقتصاد حر، هل الكاتب في حاجة إليه فعلا؟
فوكنر: لا. الكاتب ليس في حاجة الي رأس مال، كل ما يحتاج اليه هو قلم رصاص وورق. انا لا أعرف كتابة جيدة تأتي من وراء المال الوفير القادم بدون جهد. فمثلا الكاتب الجيد لا يستطيع ان يخصص وقته لمؤسسة ما، لانه حتما مشغول بالكتابة. فالكتابة الجيدة تأتي من وراء اللصوص والمهربين والمهمومين. الناس الذين يخشون بالفعل اختبار مدي تحملهم للمشقة والفقر، مدي خشونتهم. تأكد ان لا شيء يستطيع ان يدمر الكاتب الجيد سوي الموت. فالكُتاب الجيدون ليس لديهم وقت لإزعاج انفسهم بالنجاح او الغني. فالنجاح أمر أنثوي يشبه النساء، اذا تذللت أمامها سوف تتخطاك لذا لابد ان تتعامل معها بظهر يدك، وبالتأكيد ستزحف اليك.
المحاور: هل تحويل أعمالك إلي أفلام سينمائية بإمكانه الإضرار بها؟
فوكنر: لا شيء يمكن ان يضر بروايات أي كاتب اذا كان هو من الدرجة الاولي. ولكن لو ليس كذلك فلا شيء سيفيده.
المحاور: هل من الأفضل أن يقبل الكاتب بحل وسط ويكتب للسينما بشكل مباشر؟
فوكنر: بالطبع، لان السينما بطبيعتها تختلف عن الرواية فلابد من التعاون وأي تعاون يعتبر حلاً وسطاً وهذا ما يعنيه "هات وخد".
المحاور: ما الفيلم الذي تود كتابته للسينما؟
فوكنر: أود كتابة تحفة جورج أورويل الادبية 1984، فلدي فكرة لنهاية تثبت الأطروحة التي طالما توصلت اليها وهي ان المرء خالد فقط لرغبته البسيطة في الحرية.
المحاور: قلت إن الكاتب عليه القبول بتسوية بشأن كتاباته للسينما. ماذا عن التزامه أمام القارئ؟
فوكنر: التزامه يكون في تقديم عمله علي أفضل صوره، عليه أن يتجاوز ذلك الالتزام ويمضي في الطريق الذي يحب. فأنا عن نفسي منشغل جداً عن متابعة العامة. ولا وقت لأتساءل لماذا يقرأوني. انا لا أهتم كثيرا برأي أي شخص في أعمالي أو أعمال غيري من الكتاب، فالمعيار الذي لابد أن أواجهه، هو ماهية شعوري وانا اقرأ لوحة "إغراء سانت أنطوني أو العهد القديم" إنهم بالتأكيد يجعلونني سعيداً. كذلك تفعل مشاهدة الطيور، إذا كان بإمكاني الحياة في جسد آخر فانا أفضل أن أصبح صقراً، لا أحد يكرهه أو يحسده أو يريده أو حتي يحتاج إليه. فهو لن يشعر أبدا بالإزعاج أو بالخطر، كما أنه بإمكانه أكل أي شيء.
المحاور: ما هو التكنيك الذي تتبعه لتصل إلي معيارك؟
فوكنر: لا توجد طريقة ميكانيكية لإتمام أي عمل، لا اختصارات. فالكاتب الشاب سيبدو كأحمق اذا اتبع نظرية بعينها. تعلم بنفسك من أخطائك، فالناس تتعلم فقط بالخطأ. الفنان الجيد يعتقد أن لا أحد جيد بشكل كافي حتي يقدم له النصيحة. فهو يشعر بالخيلاء. لا يهم الي أي مدي أعجب بفن اسلافه، فهو دائما يريد ان يكون أفضل منهم.
المحاور: إذن فأنت تنكر أهمية وجود تكنيك؟
فوكنر: علي الاطلاق، في بعض الاحيان يستهلك التكنيك حلم الكاتب ويجعله كمن يجري في المكان. إن الإبداع والعمل المنتهي هو ببساطة كالبنيان المرصوص، من المحتمل أن يعرف الكاتب كل كلمة صحيحة سيكتبها حتي النهاية قبل حتي أن يضع أولي كلماته. وهذا ما حدث معي في "بينما أرقد محتضرا" ولم يكن هذا هيناً. كان الأمر بسيطاً لأن المادة الخام كلها بين يدي. فقد استغرق الأمر مني حوالي ستة أسابيع في وقت الفراغ، تقريبا احدي عشرة ساعة في اليوم. لقد تخيلت مجموعة من الناس وأدخلتهم في كوارث طبيعية عالمية، مثل الفيضان والنار، مع وجود حافز طبيعي لتوجيههم نحو الأفضل. ولكن اذا لم يطرأ التكنيك فان الكتابة تصبح سهلة أيضا. لأن عند الوصول إلي منحني ما تقوم الشخصيات نفسها بصنع الاحداث وإنهاء العمل. عندما أتذكر الصفحة 275، في الحقيقة لا أعرف ما قد يمكن ان يحدث اذا انهيت العمل عند 274، فالجودة التي لابد ان يتحلي بها الفنان أن يحكم علي عمله بموضوعية بجانب الصدق والشجاعة حتي لا يعذب نفسه بها. حتي إذا لم يصل أي من أعمالي الي المستوي الذي أنشده فلابد أن حكمي يكون علي أساس ما سبب لي أكثر حزن ومعاناة، مثل أم تحب ابنها الذي صار لصاً او قاتلاً أكثر من الآخر الذي أصبح كاهناً.
المحاور: عن أية رواية تتحدث؟
فوكنر: "الصخب والعنف". لقد كتبتها خمس مرات منفصلة، في محاولة لأروي الحكاية، لأحرر نفسي من الحلم الذي استمر في إزعاجي حتي كتبت. إنها تراجيديا عن امرأتين تائهتين: كادي وابنتها، ديسلي واحدة من شخصياتي المفضلة لأنها تتحلي بالشجاعة والصدق والنبل أكثر مني.
المحاور: وكيف تبدأ "الصخب والعنف"؟
فوكنر: تبدأ بصورة ذهنية. لم أتميز رمزيتها في البداية. كانت الصورة لمؤخرة فتاة صغيرة ترتدي سروالاً تحتياً موحلاً تسلقت شجرة الكمثري لتتمكن من مشاهدة جنازة جدتها وتحكي لأخيها القابع فوق الأرض عما تراه. بعد ذلك شرحت مَن هؤلاء وماذا كانوا يفعلون وكيف اتسخ سروالها التحتي بالوحل، ولقد أدركت ان هذه الأحداث قد تدور في قصة قصيرة ثم تنتقل إلي رواية. ثم أدركت رمزية السروال الملطخ بالوحل واستبدلت هذه الصورة بفتاة صغيرة يتيمة تزحف عبر أنبوب التصريف حتي تهرب من بيتها حيث أنها لم تكن أبدا تتلق أياً من الحب أو الاستيعاب أو العطف. لقد بدأت بالفعل في تلاوة القصة من خلال أعين طفل أحمق ولكنني شعرت انها ستكون مؤثرة اكثر اذا حكيتها علي لسان شخص في كامل قواه العقلية فقط ليكون مدركا ماذا حصل ولكن ليس لماذا حصل. فلقد رأيت أنني في المرة الاولي لم أرو القصة بعد، لذا فأنا في حاجة الي روايتها مرة أخري، نفس القصة من خلال أعين أخ آخر. ولكنها بقيت ناقصة فحكيتها مرة أخري من خلال أعين أخ ثالث. ولكني لم أشعر بالاكتمال بعد فحاولت جمع الشظايا معاً وملء الفجوات وجعلت نفسي الراوي في الجزء الاخير. ولكني لم أرض بعد، ليس بعد خمسة عشر عاما من النشر عندما كتبت ما يشبه الملحق لكتاب آخر وهو المحاولة الاخيرة لحكي هذه القصة وطردها من ذهني. إنه الكتاب الذي أشعر نحوه بالضعف، فلم أستطع تركه وحيداً ولم أستطع أيضا حكيه بالشكل الصحيح، رغم محاولاتي الجهيدة وكنت أود المحاولة مرة أخري رغم أني قد أفشل مرة أخري.
المحاور: ما العاطفة التي أثارها بنجامين بداخلك؟
فوكنر: العاطفة الوحيدة التي أثارها بنجي هي الحزن والعطف علي كل الرجال الذين يعانون من التوحد. لا تستطيع أن تشعر اي احساس حياله لانه هو نفسه لا يشعر بأي شيء. الشيء الوحيد الذي اشعره تجاهه هو القلق حول اذا كان شخصية ذات مصداقية بالنسبة لشخصية مبتكرة. لقد كان ديباجة مثل حفار القبور في الدراما الاليزابيثية. وجاء لهدف معين ثم ذهب. فهو غير قادر علي فعل خير او شر لانه ليس لديه خبرة.
المحاور: هل يشعر بنجي بالحب؟
فوكنر: لم يكن بنجي لديه القدرة العقلية حتي ليكون أنانياً، لقد كان حيواناً. لقد أدرك العطف والحب رغم أنه لا يعرف مسمياتهم، وكان هذا الإدراك هو سبب خواره عندما شعر بتغير كادي تجاهه التي لم يعد يمتلكها، فهو كأحمق لم يع حتي اختفائها. هو فقط يعرف ان هناك شيئاً ما خطأ ترك فراغاً كبيراً تسبب في حزنه. وسعي لملء هذا الفراغ. الشيء الوحيد الذي تبقي منها هو نعلها المُهْمّل. وقد كان هو الحب والعطف بالنسبة له. كان متسخاً لانه لم يكن متسقاً ولان ايضا الاتساخ لا يعني الكثير له. لم يعد يُفرق بين الاتساخ والنظافة اكثر من الخير والشر. لقد منحه النعل العطف والحب الذي لم يستطع تسميتهم ولم يعد يذكر لمن هذا النعل علي قدر تذكره للحزن حتي إذا عادت كادي فلن يتعرف عليها.
المحاور: هل وردة النرجس التي قُدمت لبنجي تحمل أية دلالة؟
فوكنر: لقد اُعطيت له لصرف انتباهه، إنها مجرد وردة كانت متاحة في الخامس من ابريل. لم يكن هذا متعمدا.
المحاور: هل هناك أية مزايا فنية في تصوير الرواية في القالب الرمزي، مثل الرمزية المسيحية التي استخدمتها في الرواية؟
فوكنر: نفس المزايا التي يجدها النجار في أركان مبني مربع لأنه يريد بناء منزل مربع الشكل. كان الرمز المسيحي هو المناسب لاستخدامه خاصة في هذه الرواية، مثل المستطيل، فالركن المربع هو الركن المناسب لبناء مستطيل، منزل قائم الزوايا.
المحاور: هل هذا يعني أن الفنان في إمكانه ببساطة استخدام المسيحية كأداة مثل النجار الذي يستعير المطرقة؟
فوكنر: النجار الذي نتحدث عنه لم يفقد أبداً هذه المطرقة. كما أن لا أحد خارج المسيحية، أعني في الرواية. ذلك هو الرمز الشخصي للسلوك، بمعني أن الشخص يجعل من نفسه شخصاً أفضل مما تريده نفسه. أيا كان الرمز، صليباً أو هلالاً او ايا كان، فذلك الرمز يُذَكِّر الشخص بواجبه نحو الجنس البشري. فالرموز المختلفة هي مخططات ضد ما يقيس عليه نفسه ويتعلم عن ماهيته. لا يمكن أن تُعَلَم المرء كيف يصبح صالحا مثل الكتب التي تعلمه العلوم الرياضية. إنها توضح له كيف يكتشف نفسه، ويطور لنفسه رمزاً ومعياراً أخلاقياً ضمن قدراته وتطلعاته. بإعطاء مثال فريد من المعاناة والتضحية والوعد بالأمل. فالكُتّاب دائما يرسمون وسوف يرسمون فوق رموز من الوعي الاخلاقي، لأن الرموز لا مثيل لها، الرجال الثلاثة في "موبي ديك" الذين يقدمون ثالوث الضمير: لا يعرفون شيئا، يعرفون ولكن بلا اكتراث، يعرفون ويكترثون. تم تقديم نفس الثالوث في قصة لضابط طيار شاب يهودي، قال "هذا شيء رهيب. أرفض تقبله، حتي إذا اضطررت لرفض الحياة لن افعله". أما الأمين العام للمخازن الشيخ الفرنسي فقد قال "هذا رهيب، ولكن يمكننا البكاء والتحمل"، والعدّاء الانجليزي قال "هذا رهيب، سأتخذ كافة الاجراءات بشأنه".
المحاور: هل جاءت القصتان المتباينتان لمجموعتك القصصية "النخيل البري" بين دفتي كتاب واحد لهدف رمزي ما؟ هل هما، كما صرح بعض النقاد، شكل من الطباق الجمالي أم أن الأمر تم بعشوائية فحسب؟
فوكنر: لا لا، إنها قصة واحدة، قصة تشارلي وهاري اللذين ضحيا بكل شيء من أجل الحب ثم خسرا. لم أكن أعرف أنهما سيكونان قصتين منفصلتين حتي بعد أن بدأت الكتاب. عندما وصلت لنهاية ما هو الآن الفصل الاول من الكتاب اكتشفت فجأة أن هناك شيئاً ما مفقوداً ويحتاج إلي تأكيد، شيئاً ما يرتقي بالعمل مثل الطباق الموسيقي. لذلك كتبت "الشيخ" خصيصا حتي عادت "النخيل البري" إلي أوجها. ثم توقفت عن الكتابة في "الشيخ" وكتبت من البداية "النخيل البري" حتي بدأت في التهدل مرة أخري. ثم أوصلتها للقمة ثانيةَ بإضافة جزء آخر لتناقضها، وهو قصة الرجل الذي وجد حبه ويقضي بقية الكتاب في الهروب منه إلي الحد الذي يجعله يذهب الي السجن طواعية حيث يكون في مأمن. هناك قصتان فقط بالمصادفة وربما بالضرورة. أما القصة الأساسية فهي قصة شارلوت وهاري.
المحاور: إلي أي مدي تعتمد كتاباتك علي التجربة الشخصية؟
فوكنر: لا يمكنني القول. لم أقوم بعدها أبدا. لأن "لأي مدي" ليست أمراً مهماً. فالكاتب يحتاج ثلاثة اشياء: الخبرة، الرصد، والخيال، أي اثنين منهم وفي بعض الأحيان أي واحدة منهم، يمكنها تعويض نقص الصفات الاخري. معي، يبدأ الامر غالبا مع فكرة وحيدة أو ذكري أو صورة رمزية. كتابة القصة ليس الا مسألة عمل للوصول لتلك اللحظة من البدايات، لتفسير لماذا حدث هذا او ما تسبب به لاحقاً. فالكاتب يحاول خلق شخصيات ذات مصداقية ضمن مواقف انتقالية منطقية في أكثر طريق متنقل يمكنه الحصول عليه. من الواضح أنه لابد له من استخدام البيئة التي يعرفها باعتبارها واحدة من أدواته. وأود ان اقول أن الموسيقي أسهل وسيلة للتعبير منذ ان اُكتشفت بدايةَ في خبرة وتاريخ المرء. ولكن لأن الكلمات هي موهبتي، فلابد ان أحاول التعبير من خلال الكلمات عن الموسيقي الصافية التي قد تفعل ذلك بشكل أفضل.
المحاور: بعض الناس يقولون إنهم لا يستطيعون فهم كتاباتك، حتي بعد قراءتها مرتين وثلاثاً. فماذا تقول لهم؟
فوكنر: اقرأوها للمرة الرابعة.
المحاور: لقد ذكرت الخبرة والرصد والخيال كأدوات مهمة للكاتب، وماذا عن الوحي؟
فوكنر: أنا لا أعرف شيئاً عن الوحي لاني لا أعرف ما هو الوحي، لقد سمعت به ولكنني أبدا لم أره.
المحاور: ذكرت شيئا عن شغفك بالعنف ككاتب.
فوكنر: هذا مثل القول ان النجار شغوف بمطرقته. العنف ببساطة هو إحدي ادوات النجار. الكاتب لا يستطيع البناء بأداة واحدة بيد أن النجار يستطيع.
المحاور: حدثنا عن بداياتك ككاتب.
فوكنر: كنت أعيش في نيو أورليانز، حيث كان امتهان أي شيء ضرورياً من أجل جني المال للآن والمستقبل. قابلت الكاتب الامريكي شروود أندرسون. كنا نسير معا عبر المدينة وقت الظهيرة ونتحدث مع الناس. وفي المساء نتقابل مرة أخري ونحتسي زجاجة أو اثنتين من النبيذ بينما هو يتكلم وأنا أستمع. لا أراه مطلقاً أثناء النهار. لقد كان منعزلاً، يعمل. وفي اليوم التالي نعيد الكرة. قررت أنه إذا كانت هذه حياة الكاتب فهذه هي الحياة المناسبة لي. وبدأت بالفعل كتابة أول كتاب. في البداية وجدت الكتابة شيئاً ممتعا. حتي نسيت أنني لم أر مستر اندرسون لمدة ثلاثة أسابيع وجاء هو لبيتي، كانت أول مرة يأتي لي بنفسه، وقال "ماذا بك؟، هل أزعجك بمقابلتنا؟" فأخبرته اني عاكف علي كتابة رواية. قال "يا الله" ثم مضي. عندما انتهيت وكانت "أجر الجندي" قابلت زوجة أندرسون في الشارع. سألتني عن الرواية فأخبرتها أنني أنهيتها. قالت "قال شيروود انه سيعقد معك صفقة، إذا لم يقرأ الرواية علي مضض سيجعل ناشره يقبلها". قلت "حسنا" وهكذا أصبحت كاتباً.
المحاور: ما هي نوعية العمل التي كانت توفر لك المال "للآن والمستقبل"؟
فوكنر: أيا كان، ما أجده. قد أفعل القليل من كل شيء، تشغيل القوارب، طلاء البيوت، أساعد في تحريك الطائرات. أبدا لم أحتج لمبالغ طائلة لأن الحياة حينذاك كانت زهيدة في نيو أورليانز وكل ما كنت أطمح اليه هو مكان للنوم والقليل من الطعام والتبغ والشراب. كان هناك العديد من المهن التي في إمكاني عملها لمدة يومين أو ثلاثة وكسب الكثير من المال تكفيني لبقية الشهر. وفقا لمزاجي فأنا متشرد وصعلوك. عدم حاجتي الشديدة للمال جعلتني لا أعمل من أجله. في رأيي أن وجود الكثير من العمل في العالم أمر مخجل. فمن أكثر الأشياء المحزنة أن الشيء الوحيد الذي يستطيع الرجل فعله هو العمل لثمان ساعات في اليوم، يوم بعد يوم. فأنت لا يمكنك تناول الطعام لمدة ثمان ساعات أو أن تحتسي المشروبات لثمان ساعات أو تمارس الحب ذ كل ما بوسعك عمله لمدة ثمان ساعات هو العمل. وهذا هو سبب جعل المرء نفسه وكل شخص حوله في حالة مريعة وتعيسة
المحاور: لابد أنك تشعر بالفضل نحو شيروود اندرسون، ولكن كيف تقييمه ككاتب؟
فوكنر: لقد كان أباً لجيلي من الكتاب الامريكيين كما أنه وضع تقاليد للكتابة الامريكية وهي التي سيحملها الناجحون منا علي عاتقه. لم يحظ أبدا بتقدير مناسب. كان الكاتب الامريكي ثيودور درايزر بمثابة أخيه الأكبر والكاتب الامريكي مارك توين كان أباً لكليهما.
المحاور: ماذا عن الكتاب الأوربيين في ذلك الوقت؟
فوكنر: أعظم اثنين في ذلك الوقت في رأيي هما الروائي الألماني توماس مان والروائي الأيرلندي جيمس جويس. لابد أن نتعامل معت "عوليس" علي انها الواعظ الانجيلي الأمي الذي يضاهي العهد القديم، بجانب الايمان.
المحاور: كيف تلقيت الخلفية الخاصة بك من الانجيل؟
فوكنر: جدي العظيم موري كان طيباً ونبيلاً بالنسبة لأطفال مثلنا. كما أنه كان اسكتلندياً غير ورع ولا صارم في نظرنا، كانت له ببساطة مبادئ ثابتة. كل صباح كان علينا ان نكون علي أهبة الاستعداد لترديد آية من الكتاب المقدس واذا لم تتل آيتك الخاصة يتم حرمانك من الإفطار. ولابد أن تكون آية موثوقاً منها وصحيحة تماما. وفي صباح ما قد تجد فجأة عينه عليك، شديدة الزرقة، شديدة الطيبة والنبل، بيد انها ليست صارمة علي قدر قسوتها. وفي الصباح التالي لابد ان تكون معك آية جديدة. بطريقة ما، تبدأ في اكتشاف ان طفولتك انتهت وقد تجاوزتها الي العالم.
المحاور: هل تقرأ أعمالك المعاصرة؟
فوكنر: لا، الكتب التي أقرأها هي الكتب التي كنت أحبها وعرفتها أثناء شبابي، وبذلك أعود مرة اخري لأصدقاء قدامي: العهد القديم، أعمال ديكنز، الكاتب البولندي جوزيف كونراد، وأُُفضل رواية الكاتب الاسباني ثرفانتس "دون كيخوتة"، فأنا اقرأها كل عام، وكذلك الانجيل، كما اقرأ لفلوبير وبلزاك الذي خلق عالماً بكراً علي طريقته الخاصة، تيار من الدم خلال عشرين كتاباً، دستويفسكي، تولستوي، شكسبير. اقرأ للروائي الامريكي هرمان ميلفيل بين الحين والاخر، أما عن الشعر، فاقرأ للشعراء الانجليز كريستوفر مارلو وتوماس كامبيان وبين جونسون وروبرت هريك وجون دون وجون كيتس وشيلي، مازلت أقرأ هاوسمان. في الاغلب قرأت كل هذه الكتب، لذلك عندما أعود إليها فانا اقرأ عن شخصية ما أو مشهد واحد وكأنني اتكلم أو التقي مع صديق لدقائق معدودة.
المحاور: وفرويد؟
فوكنر: عندما كنت في نيو أورليانز كان الجميع يتحدث عن فرويد، ولكني لم أقرأ له قط. ولا شيكسبير فعل. وأشك أن ميلفيل فعل ذلك أو حتي موبي ديك.
المحاور: هل قرأت رواية ألغاز قبل ذلك؟
فوكنر: قرأت لجورج سيمنون لانه يذكرني بشيء من تشيكوف.
المحاور: ما الشخصيات المفضلة لك؟
فوكنر: تعتبر سارة جامب من شخصياتي المفضلة، هي امرأة قاسية عديمة الرحمة وسكيرة وانتهازية ولا يعول عليها ولديها جانب كبير سييء، ولكنها في النهاية شخصية. والسيدة هاريس وفالستاف والامير هال ودون كيشوت وبالطبع سانشو كما أنني دائماً شديد الاعجاب بالليدي ماكبث. وبوتوم وأوفيليا وميركتيو، هو والسيدة جامب تعاملا مع الحياة ولم يطلبا أية خدمات وأبدا لم ينتحبا. وبالطبع هاكلبري فين وجيم. لم أحب توم سوير بدرجة كبيرة لطبيعته الخشنة الفظة. كما أحب سوت لوفنجوود من كتاب لجورج هاريس ما بين 1940 و1950 في جبال ولاية تينيسي. لم يكن لديه أوهام عن نفسه وبذل قصاري وسعه وفي أوقات معينة كان جباناً وقد عرف ذلك ولم يشعره ذلك بالخجل. لم يسبق له أن القي باللوم علي أي شخص بسبب سوء حظه ولم يفقد ايمانه بالله أبدا.
المحاور: هل لديك أي تعليق خاص بمستقبل الرواية؟
فوكنر: اتخيل ان طالما استمر القراء في قراءة الرواية سيستمر الكتاب في كتاباتهم وكذلك العكس، ما لم يكن الكوميكس والمجلات المصورة قد جعلا قدرة الانسان علي القراءة في طريقها للضمور، والأدب في طريقه إلي الرجوع الي الكتابات المرسومة في كهوف النياندرتال.
المحاور: وماذا عن فن النقد؟
- فوكنر: الفنانون ليس لديهم الوقت ليستمعوا الي النقاد. من يريدون ان يكونوا كتاباً يستمعون الي عرض الكتب ومراجعتها، ولكن من يكتب ليس لديه الوقت لذلك. النقاد أيضا يحاولون إثبات انفسهم "نحن هنا". فوظيفة الناقد غير موجهة إلي الفنان نفسه. الفنان أعمق من الناقد، بالنسبة للفنان فكتابة شيء ما، هو ما سيحرك الناقد. وبالنسبة إلي الناقد فإن الكتابة هي ما تحرك أي شخص آخر غير الفنان.
المحاور: وهكذا فلم تشعر قط برغبة في مناقشة أعمالك مع أحد آخر؟
فوكنر: لا أنا مشغول للغاية في الكتابة. إذا أسعدني المحتوي لا أحب الحديث عنه، واذا لم يفعل فالحديث عنه لن يجعله أفضل، فالشيء الوحيد الذي سيجعله أفضل هو العمل عليه مرة اخري. أنا لست رجل أدب، أنا فقط كاتب. ولا أجني أي سعادة من متجر الكلام.
المحاور: يدعي النقاد أن قرابة الدم هي المحرك الرئيسي لأعمالك.
فوكنر: هذا رأي وكما قلت قبل ذلك، أنا لا أقرأ للنقاد. وأرتاب في أن محاولة الرجل الكتابة عن الناس هي اهتمام لقرابة الدم، أكثر منها اهتمام بمظاهرهم وأشكالهم، حتي إذا كان ذلك مهماً لمساعدته في اكتمال القصة. إذا ركز الكاتب انتباهه فيما يحتاج للاهتمام به، مثل الحقيقة والإحساس الإنساني، فلن يتوفر له الوقت لأي شيء آخر، مثل الأفكار والحقائق عن المظاهر أو قرابة الدم. حتي إن الأفكار والحقائق، في رأيي أنا، لديها صلة ضعيفة بالحقيقة.
المحاور: يقول النقاد كذلك إن شخصياتك لا يختارون بين الخير والشر بشكل واع.
فوكنر: الحياة لا تهتم بالخير والشر. فشخصية دون كيشوت كانت تختار بين الخير والشر باطراد وبعد ذلك بدأ يختار في أحلامه. لقد كان مجنوناً. لقد أدرك الواقع فقط عندما أصبح مشغولاً بالتعامل مع الناس، حتي إنه لم يعد لديه الوقت ليفرق بين الخير والشر. مثل هؤلاء موجودون فقط في الحياة ولابد لهم تكريس وقتهم لكي يعيشوا. فالحياة حركة والحركة ترتبط بما يجعل المرء متحركا مثل التطلع والقوة والسعادة.
المحاور: ألا توضح لنا ما معني كلامك عن الحركة فيما يتعلق بالفنان؟
فوكنر: هدف كل كاتب هو كبح الحركة والتي هي الحياة بوسائل صناعية والابقاء عليها ثابتة لمئات السنين لوقت لاحق، وعندما ينظر إليها شخص غريب تتحرك ثانية وكأنها الحياة. حتي إذا كان المرء فانياً، فإن السبيل الوحيد لإمكانية الخلود بالنسبة له هو ترك شيء ما خلفه وبذلك يبقي خلوده في حركة دائمة.
المحاور: يقول الناقد الأدبي مالكوم كولي إن شخصياتك تذعن لأقدارها.
فوكنر: هذا رأيه. بعض الشخصيات تفعل وبعضها لا يفعل، مثل الشخصيات الواقعية. مثلا شخصية لنا جروف في "ضوء في أغسطس" واجهت نفسها بإرادة بارعة. لم يكن بالفعل شيئاً مهماً بالنسبة لها فيما يتعلق بالقدر، واذا ما كان زوجها هو لوكاس بورش أم لا. لقد كان قدرها أن يكون لها زوج وأطفال وهي تعرف ذلك وقد خرجت واعتنت بهم دون طلب المساعدة من أي شخص. كانت قائدا لروحها. واحد من أهدأ الكلام وأكثره عقلانية مما سمعته علي الاطلاق، كان عندما قالت لبايرون بونتش بلحظة عميقة في محاولة لصد محاولته اليائسة والمتهورة في الاغتصاب "ألا تخجل؟ ربما توقظ الطفل." لم ترتبك لحظة، أو تخاف أو تقلق. إنها حتي لم تدرك عدم احتياجها للرثاء. اخر حوار لها علي سبيل المثال "لم أسافر إلا لشهر، وأنا بالفعل في تينيسي. يا إلهي، يا إلهي، الجسد يراوغ".
عائلة باندرن في "بينما أرقد محتضراً" واجهت نفسها بإرادة قوية. فالأب فقد زوجته وأحس بحاجته لشريكة أخري فتزوج مرة ثانية. وبضربة واحدة لن يستبدل طباخ الاسرة فحسب بل حصل علي جرامافون ليضفي البهجة عليهم أثناء استرخائهم. فشل حمل الابنة هذه المرة لتعود الي حالتها الصحية ولكن عزيمتها لم تفتر. قررت المحاولة مرة أخري، حتي اذا فشل الجميع للنهاية، فهذا لا يمثل شيئاً بل مجرد طفل.
المحاور: كما يقول مستر كولي إنك تجد صعوبة في خلق شخصيات يتراوح عمرها بين العشرين والاربعين، حيث خفة الروح.
فوكنر: الشخصيات ما بينت العشرين والأربعين ليسوا متعاطفين أو حساسين أو خفيفي الروح. فالطفل لديه القدرة علي ذلك ولكنه هو نفسه لا يدرك هذا. يدركه فقط بعد أن يكون غير قابل للتعاطف، بعد سن الاربعين. بين العشرين والاربعين تكون إرادة الطفل قوية وخطيرة ولكنه لم يبدأ التعلم ليدرك ذلك. ولكن البيئة المحيطة والضغوط تجعل تلك القدرات تسير نحو الشر، فالرجل يكون قوياً قبل أن يكون أخلاقيا. كما أن إزعاج العالم يكون بسبب من هم بين العشرين والأربعين. فالناس حول بيتي الذين يتسببون في توتر عرقي، كل من هم علي شابهة ميلام وبراينت الذين قتلوا ايميت تل* وعصابات السود الذين اختطفوا امرأة بيضاء واغتصبوها بعنف، وأشباه هتلر ونابليون ولينين، كل هؤلاء هم نماذج بشرية وللإزعاج ولمن تعذبوا بسببهم وكلهم كانوا بين العشرين والاربعين.
المحاور: لقد صرحت للصحف برأيك في مقتل ايميت تل. هل لديك أية إضافة تقولها لنا؟
فوكنر: لا، فقط سأعيد ما قلته قبل ذلك: إذا كنا نحن كأمريكيين نطمح للبقاء علي قيد الحياة، فسيكون علينا أن نختار وننتخب وندافع لنكون أول الأمريكيين في تقديم للعالم جبهة واحدة متجانسة ومتصلة، سواء كانت من الأمريكيين البيض أو السود أو الأرجوانيين أو الزرق أو الخضر. ربما كان الهدف من ذلك القتل الخطأ المأساوي والمؤسف في بلدتي المسيسيبي بواسطة اثنين من الامريكان البيض تجاه صبي أسود حزين هو إثبات لنا ما اذا كنا نستحق البقاء ام لا. لأننا إذا وصلنا الي ذلك المنحني في ثقافتنا البائسة، وهو قتل الاطفال، فلا يهم حينها ما هي الأسباب أو الألوان، نحن لا نستحق البقاء ومن المحتمل أننا لن نبقي.
المحاور: ماذا حدث لك بين "أجر الجندي" و"سارتوريس"، مما جعلك تبدأ ملحمة يوكناباتوفا؟
فوكنر: في "أجر الجندي" وجدت أن الكتابة ممتعة. ولكني اكتشفت بعد ذلك ان ليس فقط لابد لكل كتاب أن يكون لديه تصميم خاص، ولكن كل أعمال أو بعض من أعمال الكاتب لابد أن يكون لها تصميم خاص بها. في "أجر الجندي" و"البعوض" كتبت من أجل الكتابة، لقد كانت حقاً ممتعة. بدءا من "سارتوريس" اكتشفت أن طابعي البريدي الصغير ل"الأرض الأم" يستحق بالطبع الكتابة عنه، وأنني لن أعيش الوقت الكافي أبداً لمعالجة هذا الموضوع. ولذلك خلقت الكون الخاص بي فأحرك الناس وكأني اله، ليس فقط في المكان ولكن في الوقت أيضاً. حقيقة أنني أحرك شخصياتي عبر الزمن بنجاح، علي الأقل في تقديري، تثبت لي أن نظريتي الخاصة عن الوقت هي حالة سائلة حيث لا وجود لها إلا في لحظة تجسد الافراد. لا يبقي شيء علي حاله. إذا كان موجوداً، لن يكون هناك أي حزن أو أسي. أحب أن أفكر في العالم الذي خلقته كشكل من أشكال حجر الزاوية في الكون، فهو صغير مثله، ولكن إذا انتزع من العالم سيختل. آخر كتاب لي سيكون يوم الخلاص، الكتاب الذهبي، لمقاطعة يوكناباتوفا. بعدها سأكسر قلمي واضطر الي التوقف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.