قبل يوم واحد من محرقة الأطفال التى نصبتها دولة عاجزة فاشلة يضرب العفن فى أركانها وتئنّ من فوضى وعشوائية وإهمال مروع، لعشرات من زهرات الوطن عند مزلقان قرية المندرة فى أسيوط، وقبل أن نسمع بمزيج من الحزن والحسرة والغضب أن المشافى التى نُقل إليها المصابون الناجون من المحرقة الرهيبة لا تجد أطباء بل ولا أرخص وأبسط أنواع مطهرات الجروح (محلول بيكربونات الصوديوم)، كان الأطباء المصريون الذين يخوضون الآن معركة نضال قاسية من أجل تحقيق مطالب عادلة أغلبها (أو كلها) تتعلق بحق المصريين فى رعاية صحية تليق بالبشر، أصدروا بيانا بمناسبة مرور خمسة وأربعين يوما على بدء «إضرابهم الرحيم» الذى نظموه على نحو يضمن أن لا يحرموا مرضاهم من الخدمة الواجبة، أى من دون أن يشترى المريض تذكرة المستشفى. لقد بدا بيان أطباء مصر المضربين (المقتضب والمختصر جدا) كأنه نبوءة بالعار والشنار الذى سمعنا فى اليوم التالى أخباره وتناقلنا نداء الالتفاف عليه عندما راح كثيرون يبحثون فى الصيداليات عن أى كمية من محلول الصوديوم لكى توصلها وفود التضامن إلى حيث يرقد ضحايا المحرقة. كان البيان عنوانه برىء جدا إذ يقول: «وماذا أهمّ من صحة المصريين؟!».. أما نَصّ المتن فلم يكن يقل صدقا ولا براءة، كما ستقرأ حالا: «... نحن الموقعين على هذا البيان.. نعلن اعتراضنا وفزعنا من درجة التجاهل العالية التى يواجه بها المسؤولون التنفيذيون (بدءا من وزارة الصحة حتى رئاسة الجمهورية) مطالب الإضراب الحضارى والبطولى للأطباء، هذا الإضراب الذى لا يتبنى فقط المطالب المشروعة بتحسين أوضاع مادية بائسة ومهينة يتردى فيها الطبيب المصرى وتحرمه فرصة الحياة الكريمة فى وطنه، وإنما رفع الأطباء مطالب تخص الشعب كله الذى من حقه بعد الثورة أن يرى بدايات جادة وحقيقية لخطط وإجراءات تستهدف إنهاء عذاباته وتضع حدا فوريا لصور الإهمال والإهانة التى يتعرض لها يوميا فى المستشفيات الحكومية. إن حركة إضراب الأطباء لم تكتفِ برفع تلك المطالب العادلة المشروعة فحسب، بل طرحت أيضا حلولا عملية وأفكارا واقعية تسمح بتلبية جزء كبير من المطالب فورا، لكن للأسف الشديد لم نجد من المسؤولين إلا التجاهل ومزيدا من التهديد والتنكيل بالأطباء المضربين. «لذلك فإننا نجدد مرة أخرى مطالبتنا للسادة المسؤولين بسرعة الاستجابة للمطالب التى دفعتنا للإضراب والتى هى فى جوهرها تطبيق لمبادئ وشعارات ثورة 25 يناير بخصوص العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ونحذر من خطورة استمرار تجاهل أطباء مصر الذين يشعرون أن أحوالهم وأوضاعهم وأحوالهم المأساوية ما زالت على حالها لم تتغير عما كانت عليه قبل الثورة، إذ ما زال أجر الطبيب تافها وأقل من أصحاب مهن أخرى أقل خطورة ومشقة، وهو ما يدفع كثيرا من الأطباء المصريين إلى هجرة تلك المهنة الجليلة أو الهجرة من البلد كله بحثا عن فرصة لعمل وحياة كريمة لم يجدوها فى وطنهم الذى بات مهددا بالحرمان من ثلثى عدد أطبائه فى وقت تعانى كل فيه مستشفياتنا ومرافقنا الصحية من عجز دائم فى الأطقم الطبية وفى كل الإمكانيات والمتطلبات الضرورية لتقديم خدمة علاجية جيدة لمواطنينا. «وختاما فإننا نسأل الحكومة والمسؤولين جميعا: ماذا ترونه أهم من صحة المصرييين؟!». انتهى بيان الأطباء المضربين، ولست أظن أن أحدا من «السادة المسؤولين» الذين وجّه إليهم البيان هذا السؤال سيجد عند حضرته وقتا ولا شجاعة لكى يجاوب باختصار ووضوح: تريدون معرفة ما هو أهم من صحة المصريين؟ حسنا، الصرف على جيوش تأمين فضيلة «الذراع الرئاسية للجماعة» وهو يتنقل بين الجوامع والزوايا لإلقاء المواعظ والخطب أهم مليون مرة من المصريين وصحة وحياة أهاليهم جميعا!