.. لا بأس من ادعاء الحكمة بأثر رجعى، وأقول من دون تفاخر إن العبد لله كان ضمن كثيرين كتبوا بدل المرة مئة مرة، وقالوا وزعقوا وهاتوا حتى بُح صوتهم من التحذير بأن «طريق الحساب الذى جرى السير فيه (بالعافية) لإقامة العدالة على رموز نظام الفساد والإجرام الذى شيده الأستاذ المخلوع حسنى مبارك وأسرته وعصابته وكبس به على أنفاس أهالينا ثلاثين عامًا، كان طريقا خاطئا ومعيوبا وغير مناسب أصلا لهذا النوع من المجرمين ولا لطبيعة جرائمهم المتفردة، مع أن التجارب والفكر الإنسانيين أبدعا مسارات أخرى تشريعية وقضائية (خصوصًا فى ما يتعلق بتحقيق الوقائع وجمع ما تيسر من الأدلة) تضمن كفاءة وفاعلية أكبر فى الحساب والقصاص، لكنها فى الوقت نفسه لا تجور أو تخل بمعايير وضمانات وأصول المحاكمات العادلة». غير أن هذا الذى قلناه وكتبناه وحذرنا منه لمدة شهور طويلة بعد الثورة، صادف -آنذاك- قلوبًا عمياء وآذانًا طرشاء بدت وكأنها قُدّت من طين وزفت، وكان ذلك لأسباب صار أغلبها الآن مشهورًا ومعروفًا، ربما أهمها أن هذه التحذيرات والمهاتية كنا جميعًا نهايتها، بينما الست «جماعة الشر» التى تحكمنا حاليًّا متواطئة ومتورطة فى تحالف انتهازى أو «زواج مصلحة» مع المرحوم الأستاذ المجلس العسكرى، قبل أن تهجره حضرتها ثم تدفنه بقسوة يستحقها فى تربة عجزه وغباوته وخيبته القوية. لقد كتبتُ يومًا فى هذا المكان متوقعًا ومرجحًا «.. أن تنتهى محاكمة المخلوع أفندى وولديه إلى إدانة رأس العصابة (على الأقل) بتهمة القتل، حتى لو أجمع جيش شهود القضية على الشهادة بالزور، لأن نسبة كبيرة من هؤلاء كانوا خدمًا مخلصين فى بلاط العصابة التى ثار عليها الشعب.. رغم هذا فإن احتمال صدور أحكام ببراءة أركان عصابة المخلوع وجيش المجرمين التابعين لها، ليس مستبعدًا تمامًا بسبب المسار السيئ الذى سارت فيه العملية كلها، خصوصًا ما يتعلق بجمع الأدلة، إذ تُركت هذه المهمة الخطيرة للأجهزة والمؤسسات الأمنية ذاتها التى كانت أسلحة وأدوات النظام المدحور فى ارتكاب جرائمه ضد المصريين..». غير أننى وقتها استدركت وكتبت: «.. رغم هذا فإن عقلى وقلبى لا يستطيعان قبول أحكام بهذه الشاكلة تصدر وتُعلن وتداهم الناس بغير أن يقدم الذين يسببون فيها ووقفوا خلفها إجابة فورية عن سؤال: مَن إذن المسؤول عن إزهاق أرواح نحو ألف شهيد من زهرة شباب الوطن، ومَن الذى أطفأ نور البصر وجرح وأصاب أكثر من 6 آلاف فتى وشاب آخرين؟!». والحال أننى ليس عندى الآن جديد أعلق به على حكم براءة أركان عصابة المخلوع أفندى المتهمين بالتخطيط والتحريض وتمويل وقائع يوم المحرقة الدامية المسماة «موقعة الجمل»، فقط ألاحظ وكثيرون غيرى أن «الجماعة» الحاكمة التى طال خُرسها ولم تفتح فمها بكلمة واحدة ولا فعلت شيئًا لوقف مهزلة مسار العدالة المعوج هذا، تحاول حاليا بفجاجة ووقاحة متناهية استغلال الغضب الشعبى من الحكم المذكور لاستكمال خطة تقويض واجتثاث ما تبقى من دولة القانون فى هذا البلد، وإشاعة أجواء عصاباتية وفاشية، ربما لم يكابد المصريون مثلها فى تاريخهم الحديث كله، وتبدو معالمها المرعبة مكثفة ومجسدة فى هذا القرار الفضائحى الذى اتخذه مساء أول من أمس فضيلة الشيخ محمد مرسى بإقالة النائب العام من دون أدنى اعتبار لحظر دستورى وقانونى صارم وقطعى يمنع أى سلطة تنفيذية من التهور والاندفاع فى العدوان على استقلال القضاء لدرجة «عزل القضاة» وطردهم من مناصبهم بأية حجة وتحت أية ذريعة. أظن واضح أن هذا الأمر الجلل لا يتعلق ولا يخص شخص النائب العام الحالى، وليست له علاقة بالجدل المثار حول سيرته ومساره، وإنما الموضوع هو سابقة أو كارثة إهدار مبدأ وضمانة دستورية وقانونية، لا يمكن الحديث عن عدالة حقيقية ودولة قانون فعلا فى غيابها، وإلا فليقل لى أى واحد من قطيع الجهلة الأشرار (بعضهم مخبرون قدماء) من الذين هللوا وطبّلوا وفقدوا كل احتشامهم، بينما يتحزمون ويرقصون علنا ترحيبا بهذا القرار الأحمق: كيف بحق الله، سيكون حال خليفة المستشار عبد المجيد محمود إذا تولى هذا الخليفة منصب النائب العام وهو يعرف أن بقاءه أو طرده مرهونان بمزاج ورضا ولى النعم، والى البلاد وراعى بلاوى العباد؟!!