لا يكتفى سيد قطب فى كتابه، «معالم فى الطريق» بتصوير المسلم النموذجى كإنسان لا يكتسب معارف من أى مصدر لا ينتمى إلى الإسلام، مثل «فلسفات الإغريق»، وكإنسان لا يقبل نظما للإدارة والحكم وضعها بشر، أو تنطوى على آلية تسمح للبشر بالتشريع، (وهذا يشمل الديمقراطية، والبرلمان على الترتيب). لم يكتف بهذا، بل انتقل إلى صياغة علاقة المجتمع المسلم، الذى سيقيمه المسلمون النموذجيون، مع المجتمعات الأخرى. ولك أن تتخيلى مجتمعا يقوده أحاديو النظرة هؤلاء، ولك أن تتخيلى طبيعة علاقته ب«الآخر». يقول قطب: إن من سمات المنهج الحركى (خطة التحرك) لهذا الدين «ذلك الضبط التشريعى للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى (....) وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمى الذى على البشرية كلها أن تفىء إليه، أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأى حائل (....)، وأن تخلى بينه وبين كل فرد، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته، ولكن لا يقاومه ولا يحاربه! فإن فعل ذلك أحد كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله أو حتى يعلن استسلامه! بغض النظر عن اعتبار قطب أن الإسلام هو الأصل العالمى الذى «يجب» على البشرية أن تفىء إليه، فإن الأسطر التالية توحى للوهلة الأولى -وبمنتهى حسن النية- أن ما يريده قطب هو ضمان حرية الناس فى اختيار ما يشاؤون من عقائد. إلا أننا إذ ننتقل إلى فقرة أخرى، ندرك بالضبط ما يعنيه قطب. لن أطيل، فالاقتباس طويل. وسأكتفى بطرح ملاحظاتى بين أقواس. بعد ترقيم الفقرات حتى لا تتوه الفكرة. أكرر: ما بين الأقواس تعليقى أنا. «إنه لم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته... ولكن الإسلام (1) ليس مجرد عقيدة. (ما منحه قطب باليمين فى أول الجملة سحبه باليسار فى آخرها). إن الإسلام كما قلنا إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد، فهو (2) يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التى تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر وعبودية الإنسان للإنسان (وهذا يشمل النظم الديمقراطية حتى وإن كفلت للبشر حرية الاعتقاد، فالديمقراطية تجعل الحاكمية للبشر، إذ هم الذين يشرعون القوانين)... ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحرارا -بالفعل- فى اختيار العقيدة التى يريدونها بمحض اختيارهم -بعد رفع الضغط السياسى عنهم، وبعد البيان المنير لأرواحهم وعقولهم- (3) ولكن هذه التجربة ليس معناها أن يجعلوا إلههم هواهم، أو أن يختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيدا للعباد! وأن يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله! (أى أن الحرية التى يدعى قطب أن الإسلام منحها للبشر ليس فيها خيار اختيار نظام بشرى كالديمقراطية يجعل البشر مشرعين من دون الله، سيفصل أكثر، ويحدد ما يريد أكثر. الفقرة القادمة مهمة جدا)... (4) إن النظام الذى يحكم البشر فى الأرض يجب أن تكون قاعدته العبودية لله وحده، وذلك بتلقى الشرائع منه وحده، ثم ليعتنق كل فرد -فى ظل هذا النظام العام- ما يعتنقه من عقيدة! وبهذا يكون «الدين» كله لله، أى تكون الدينونة والخضوع والاتباع والعبودية كلها لله (أى أن شريعة الإسلام يجب أن تحكم فى كل مكان فى العالم، لأنها الشريعة الإلهية المصدر، أما أن يكون الفرد نفسه مؤمنا بالإسلام أم لا، فهذا يخصه. لا بد أن تدين أمريكا مثلا لشريعة الإسلام، أما الأمريكيون فلكل منهم حرية اختيار العقيدة)» انتهى الاقتباس. العجيب أن الدول الديمقراطية تسمح فعلا لمن شاء أن يؤمن بما شاء، بينما الدول الإسلامية هى التى لا تترك للإنسان الحرية فى اختيار عقيدته. وإننى أتساءل، هل يكتب قطب ما يكتب وهو عاقل، وهو واع؟ هل يدرك معنى الدعوة إلى حكم الناس بشريعة دين لا يؤمنون بعقيدته أصلا؟ ثم يسمى هذا حرية، وتحريرا؟! ما تعريف الفاشية إذن؟! وليست تلك أسئلة تهكمية، إنما الأسئلة البسيطة المباشرة التى جاءت إلى ذهنى وأنا أحاول أن أحلل المنطق. فقط تخيلى لو كانت دولة الإسلام القطبية هى التى تملك سلاحا نوويا فتاكا، وأقوى اقتصاد فى العالم. أو تخيلى لو أنك تعيشين فى عالم فيه دولة مسيحية أو يهودية أو بوذية أو ملحدة قوية، تعتنق فكرا توسعيا شبيها بفكر سيد قطب، ولكن من الناحية المقابلة. كيف تتعاملين مع دولة كهذه؟ كيف ستقيمينها؟ وكيف سيكون شكل العالم فى وجودها؟ أليست تلك بديهة البديهيات فى العلاقات بين البشر: أن تضعى نفسك فى مكان الآخر؟! إن قطب، فى ادعائه الدفاع عن «التوحيد» الخالص، يقود المسلمين إلى «الوحدانية» التامة. وأستخدم الوحدانية هنا بالمعنى الشائع فى لغتنا اليومية، والذى له أصل فصيح، بمعنى «العزلة». ويقدم للإسلام صورة أقرب للشخص المنعزل الذى يطل من نافذة محبسه لكى يهدد من حوله بأنه قادم للسيطرة عليهم. الكارثة أن هذا الكلام أعلاه يعتقد فيه ملايين الإسلامجية من حولنا. الرحمة يا رب!