عاد ملف المال السياسي إلى واجهة الجدل في بريطانيا، بعدما فجر تبرع ضخم بقيمة 9 ملايين جنيه إسترليني لحزب «الإصلاح البريطاني» تساؤلات واسعة حول نفوذ الأثرياء في الحياة السياسية، وحدود الشفافية، وقدرة النظام الديمقراطي على حماية نفسه من هيمنة رأس المال. وفي وقت تستعد فيه حكومة لندن لإطلاق مشروع قانون انتخابي وُصف ب«التاريخي»، تصاعدت الضغوط من منظمات المجتمع المدني للمطالبة بوضع سقف صارم للتبرعات السياسية، باعتباره خطوة ضرورية لإعادة بناء ثقة الناخبين، وضمان نزاهة الانتخابات، ومنع تحوّل السياسة إلى ساحة مفتوحة لمن يدفع أكثر. اقرأ أيضًا| بريطانيا تطلق تحقيقا في التدخل المالي الأجنبي بالسياسة بعد فضيحة رشاوى تبرعات الأثرياء تحت المجهر بحسب صحيفة «الجارديان» البريطانية، دعت منظمات مدنية بارزة الحكومة البريطانية، إلى التحرك العاجل لتقييد التبرعات السياسية، محذّرة من أن استمرار الوضع الحالي يقوّض ثقة المواطنين في الديمقراطية، ويمنح أصحاب الثروات نفوذًا غير متكافئ داخل النظام السياسي. وجاءت هذه الدعوات قبل تقديم مشروع قانون انتخابي مرتقب، ترى فيه منظمات المجتمع المدني فرصة حاسمة لإصلاح قواعد التمويل السياسي، وليس الاكتفاء بتعديلات جزئية. 19 منظمة: سقف التبرعات أولوية ديمقراطية في رسالة رسمية أُرسلت هذا الأسبوع إلى ستيف ريد وزير المجتمعات، وسامانثا ديكسون وزيرة الديمقراطية، طالبت 19 منظمة مدنية بسن تشريعات تفرض حدًا أقصى للتبرعات السياسية، معتبرة أن هذه الخطوة تمثل «أفضل وسيلة لحماية الديمقراطية وإعادة بناء ثقة الناخبين في النظام». وضمّت قائمة الموقّعين جهات بارزة، من بينها: - جمعية الإصلاح الانتخابي. - منظمة الشفافية الدولية – المملكة المتحدة. - منظمة «الأمل لا الكراهية». - التحالف البريطاني لمكافحة الفساد. تبرع ال9 ملايين.. الشرارة التي أشعلت الجدل وتصاعد الجدل بعد إعلان حزب الإصلاح البريطاني، بقيادة نايجل فاراج، تلقيه تبرعًا بقيمة 9 ملايين جنيه إسترليني من مستثمر العملات المشفرة كريستوفر هاربورن المقيم في تايلاند، وهو أكبر تبرع فردي يقدمه شخص حي لحزب سياسي في تاريخ بريطانيا. ورأت منظمات مدنية أن هذه الواقعة كشفت بوضوح حجم الثغرات في منظومة تمويل الأحزاب البريطانية، وطرحت تساؤلات جدية حول قدرة القوانين الحالية على منع التأثير غير المشروع للمال. إلى جانب خفض سن التصويت إلى 16 و17 عامًا، يخطط الوزراء في بريطانيا لاستخدام مشروع قانون الانتخابات الجديد لسد الثغرات المرتبطة بالتمويل السياسي، في محاولة لتحديث النظام الديمقراطي البريطاني. وكانت الحكومة قد أعلنت، في الصيف الماضي، نيتها: تشديد القواعد على تبرعات الشركات الوهمية، وفرض رقابة أكبر على الجمعيات غير المسجلة، وتوسيع صلاحيات اللجنة الانتخابية لفرض غرامات أعلى. وبموجب المقترحات، سيرتفع الحد الأقصى للغرامات من 20 ألف جنيه إسترليني إلى 500 ألف جنيه. العملات المشفرة.. خطر جديد على نزاهة الانتخابات من أبرز مطالب المنظمات المدنية، حظر التبرعات السياسية بالعملات المشفرة، على غرار ما فعلته دول مثل أيرلندا والبرازيل، بسبب صعوبة تتبع مصادر هذه الأموال. وذكرت «الجارديان» أن الوزراء يدرسون حاليًا السماح بمثل هذه التبرعات، رغم مخاوف متزايدة من أنها تمثل تهديدًا مباشرًا لنزاهة النظام الانتخابي، خاصة بعد أن أصبح حزب فاراج أول حزب بريطاني يقبل تبرعات مشفرة هذا العام. بينما قال بات مكفادين، وزير العمل والمعاشات في بريطانيا، في يوليو/تموز، إن حظر التبرعات بالعملات المشفرة «مسألة يجب على اللجنة الانتخابية النظر فيها بجدية»، مشددًا على أهمية معرفة المصدر الحقيقي لأي تبرع سياسي. ورغم ذلك، امتنعت الحكومة البريطانية حتى الآن عن فرض سقف قانوني للتبرعات، بعدما قيّمت العام الماضي مقترحًا من معهد أبحاث السياسة العامة يوصي بتحديد الحد الأقصى عند 100 ألف جنيه إسترليني. الأحزاب الكبرى والاعتماد على المال الخاص مثل باقي الأحزاب الرئيسية، يعتمد حزب العمال البريطاني على التبرعات الخاصة لتمويل حملاته الانتخابية، ومن بين كبار داعميه خلال السنوات الأخيرة: جاري لوبنر، الرئيس السابق لشركة أوتوجلاس (لتركيب وإصلاح زجاج السيارات)، وديل فينس، رائد الأعمال في مجال الطاقة النظيفة، وهو ما يضع الحزب نفسه في قلب الجدل الدائر حول المال السياسي، رغم تبنيه خطابًا إصلاحيًا. «التسجيل التلقائي للناخبين.. إصلاح موازٍ» إلى جانب التمويل، دعت الرسالة إلى تفعيل نظام التسجيل التلقائي للناخبين، المطبّق تجريبيًا في ويلز، والذي يضيف المواطنين إلى السجل الانتخابي تلقائيًا دون الحاجة إلى تقديم طلب. ويرى نشطاء أن هذه الخطوة قد: ترفع نسب المشاركة الانتخابية، وتعزز تمثيل المستأجرين، وتزيد إقبال الفئات الاجتماعية والاقتصادية الأقل حظًا. فيما حذّرت المنظمات الموقّعة من المساس باستقلال اللجنة الانتخابية، بعد تشريع أقره المحافظون في بريطانيا يتيح للوزراء تحديد الاستراتيجية والسياسات العامة للهيئة الرقابية. واعتبرت الرسالة أن هذا الإجراء «يخلق مخاطر جسيمة للتدخل السياسي»، مطالبة بإعادة الاستقلال الكامل للجنة باعتباره ركيزة أساسية لنزاهة الانتخابات. أرقام صادمة عن نفوذ المتبرعين الكبار وفقًا لتقرير صادر عن منظمة الشفافية الدولية، بلغت قيمة التبرعات السياسية في عام 2023 نحو 56.6 مليون جنيه إسترليني، جاءت 66% منها من مصادر خاصة، وتركزت في أيدي 19 متبرعًا ضخمًا فقط. من جانبه، قال متحدث باسم وزارة الإسكان والمجتمعات والحكم المحلي في بريطانيا إن الاستراتيجية الانتخابية ل الحكومة البريطانية «تضع قواعد أكثر صرامة للتبرعات السياسية، وتعزز الشفافية، وتغلق الثغرات المرتبطة بالتمويل الأجنبي»، في إطار تحديث الديمقراطية البريطانية وحمايتها للأجيال المقبلة. لكن منظمات المجتمع المدني في بريطانيا ترى أن هذه الوعود تظل ناقصة ما لم تُترجم إلى سقف قانوني واضح للتبرعات، يضع حدًا لنفوذ المال ويعيد التوازن إلى اللعبة السياسية. اقرأ أيضًا| استطلاع صادم يكشف أزمة قيادة غير مسبوقة داخل حزب العمال البريطاني