لا أعرف لماذا تحاصرنى الأحلام المرهقة. فى سنوات الدراسة كنت أرى نفسى دائمًا مهمومًا، بامتحان لم أكمل إجابة أسئلته، وفى أعوام الصحافة ظللتُ أعمل دائمًا خلال النوم ! حلمك بأقل سعر! الأربعاء: «سعر الصفحة = كيس شيبسى»! خطفت العبارة نظرى على «فيس بوك». وهكذا تحقق هدف من ابتكرها، عبْر استخدام «تكنيك» مغاير يساعده فى اصطياد الحالمين. الغريب أن المستهدَفين بهذه المصيدة ليسوا من الطامحين إلى لعب الكرة أو التمثيل والغناء، بل الراغبين فى الانضمام إلى فئة الأدباء، وغالبيتهم مبتدئون يرون فى معرض الكتاب فرصة للحصول على شهادة ميلاد، حتى لو كانت كتابتهم أشبه بجنين غير مكتمل! بقية الإعلان يقول: «شارك معنا بفصل فى الكتاب الجديد، وهنجمع أعمال المبدعين فى كتاب واحد من 100 صفحة»، ويتوالى ذكر الإغراءات بأن اسم كل كاتب سيتكرر مرتين، ثم عبارة مُحفّزة: «اوصل لحلمك بأقل سعر وابدأ رحلتك معانا النهاردة». منذ سنوات قليلة، بدأ انتشار ظاهرة «أوتوبيسات الرحلات»، الذى يصيح المنادون على أبوابها: «واحد معرض»! ليس بهدف اجتذاب الزائرين، بل اقتناص من يرون أن حلم حياتهم يتحقق، بمجرد وجود اسمهم على ركن منزوٍ بالمعرض. من يهتمون بشئون الكتابة وشجونها، سيواجهون أشباه هذا الإعلان كثيرًا، لكن الاعتماد على المقاربة بين السلعة الغذائية وصفحات الكتب هو الجديد، لم يفعل المُعلِن ذلك انطلاقًا من الربط التقليدى بين غذاء العقول والبطون، بل عمل على تفعيل غريزة استهلاكية، تقدّم سلعة غير مطابقة للمواصفات فى أغلب الأحيان، ما دام «سماسرة النشر» يجدون من يدفع من ماله، لترويج حروف ممنوعة من الصرف! جرعة مكثفة من الفقد الجمعة: بحكم موقعه بين شهور السنة، يكتسب ديسمبر ملامح النهايات، لكن يبدو أن جرعة الفقد ترتبط بالتقدم فى العُمر. فى صباى ظل هذا الشهر مرتبطًا باستقبال عامٍ جديدٍ يبعث على الأمل، لا تشوبه إلا توترات اقتراب امتحانات نصف العام، لكنها تبقى لحظات قلق عابرة، وسط مساحة لا بأس بها من التفاؤل. الآن اختلفت الأمور، خاصة بعد أن اقترن الأسبوع الأخير بالوجع الجسدى وآلام الفراق. خلال ساعات متتالية تعاقبت أخبار الرحيل، وتحوّلت الأيام إلى سرادق عزاء ممتد. رحل الزميل العزيز محمد عبد الواحد، الذى ظل حريصًا على متابعة أنشطتى البسيطة، والتعليق الداعم لها فى السر والعلن، وفى اليوم التالى غاب محمد هاشم، ذلك الناشر النبيل، الذى أسهم بقوة فى ظهور جيل كامل من المبدعين، وكُتب لم يملك ناشرون آخرون جرأة طباعتها. لن أدّعى أنه كان صديقًا، غير أن مقابلاتنا المتناثرة بقيت تحمل قدرًا من الحميمية، كان هو مصدرها الأساسى بترحيبه المبالغ فيه، وكلماته التى تمنحنى طاقة معنوية مقاوِمة للإحباط. غالبًا لا نلتقى إلا فى معرض الكتاب، فلم أقم بزيارة دار «ميريت» إلا مرات معدودة، ومع ذلك واصل الرجل ثناءه علىّ فى كل لقاء عابر، لهذا قبض خبر رحيله صدرى، وكالعادة ندمتُ على سنوات من الانقطاع عنه، وهو شعور ينتابنى مع كل رحيل لإنسان تربطنى به محبة عن بُعد، وكالعادة أيضًا لا أتعلم الدرس، وتخطفنى دوامات الحياة حتى رحيلٍ آخر!. ال «حِب سِد» فى شارع الصحافة! الثلاثاء: على مدى ثلاثين عامًا تعددت الطرق وظل الهدف واحدًا، إنها مؤسسة أخبار اليوم. علاقتى بها بدأت قبل انضمامى لها ببضع سنوات، عبر زيارات لأساتذة وأصدقاء يمنحوننى حق الاستمتاع بأجوائها، حتى شاء القدر أن ألتحق بالعمل فيها. ثلاثون عامًا تغيرت فيها الأمور وتبدّلتْ أحوال القلوب، غير أن حبى لها يزداد، رغم لحظات جفاء عابرة لا دخل لها فيها. ارتبطتُ بشارع الصحافة الذى كان شاهدًا على تقدمى فى العمر، وكنت شاهدًا على تحوّلاته التى لم تنتقص من مكانته فى قلبى. مع وداع العام اكتشفتُ فجأة أنه يواكب الذكرى الثلاثين، لدخولى المؤسسة العملاقة من بوابة «أخبار الأدب»، تلك الجريدة التى ساهمتْ بأكبر قدر من تكوينى، ولا يزال رصيدها باقيًا فى علاقات مع أدباء كبار وعلماء آثار، ربطتنى بهم صداقة مزمنة، رغم رحيلى إلى «أخبار النجوم» ثم «الأخبار». انتقالاتى بين الإصدارات ربطتنى بكل مبانى المؤسسة، وهو أمر أزعم أنه لم يكن متاحًا للكثيرين، وهكذا انسابت ذكرياتى بين الجدران، التى حفظت الكثير من أسرارى، ولحسن الحظ أن الحجارة لا تملك القدرة على البوح! فى نهاية يوم عمل، أجلس فى مكتبى لأختلس لحظات هدوء، لا يخدشه صخب الشارع وضجيج السيارات العابرة. عادة يمر علىّ بعض الزملاء ونتبادل الحديث، لكننى اليوم شارد. مجرد استحضارى للسنوات الثلاثين يفتح أبواب الذكريات، وإذا شئنا الدقة ينبغى أن أعترف أن ذكرياتى لا تبحث عن مبررات عادة، فهى حاضرة دائمًا حتى فى عالم الأحلام. بالأمس حلمت بالروائى الكبير جمال الغيطاني، لا أذكر التفاصيل لكنه غالبًا حُلم مرتبط بالعمل، لا أعرف لماذا تحاصرنى الأحلام المرهقة. فى سنوات الدراسة كنت أرى نفسى دائمًا مهمومًا، بامتحان لم أكمل إجابة أسئلته، وفى أعوام الصحافة ظللتُ أعمل دائمًا خلال النوم! وتأتى اليقظة لتنقذنى من إجهاد المنامات. ثلاثون عامًا من المتعة المرهِقة، اختلطتْ فيها الضحكات الصاخبة بخلافات جرنا البعض إليها رغمًا عنا، لكن الندم غير وارد، لأننى سعيد بكل التفاصيل حتى مع تناقضها، إنه الحب.. نُقبل عليه بكامل إرادتنا، مع أنه يتلاعب بنا وينقلنا حسب إرادته.. بين النعيم والجحيم! قبل آلاف السنين، احتفل المصريون القدماء بعيد ال «حِب سِد»، الذى يحتفى ببقاء الملك على العرش لمدة ثلاثين عامًا، بطقوس تمثل رحلة كونية بين عالمين، يولد بعدها الحاكم من جديد، وتتجدد طاقته وتصبح أكثر سموا.. بالتأكيد لستُ ملكًا، لهذا أشعر أن طاقتى لا تتجدد.. بل تتبدد! فى غزل «العربية» ورثائها اليوم: ليوم الخميس مكانته الخاصة لدى الكثيرين منا، لأنه يحمل وعدًا بالحصول على قدرٍ من الراحة. فى الماضى ارتبط بخروجات تنفض عنى إرهاق الأسبوع، غير أن الخروج صار حُلمًا مؤجلًا، فالبقاء فى المنزل غاية أمثالى ممن تجاوزوا الخمسين بسنوات. الخميس 18 ديسمبر، يوم لا يحمل دلالة إلا لمن يحتفلون بأعياد ميلادهم فيه، غير أنه اليوم العالمى للغة العربية، بالتأكيد غالبيتكم لا تعرفون ذلك. عمومًا معرفتكم لن تُشكل فرقًا، أنا مثلًا أعلم لكننى أرى أن المناسبات أصبحت تقليدًا مملًا، تمامًا مثل أعياد الميلاد التى تُعلن نهاية عام من رصيد أعمارنا. احتفال هذا العام باللغة حمل شعار: «آفاق مبتكرة للغة العربية: سياسات وممارسات من أجل مستقبل لغوى أكثر شمولًا». مفردات تبدو مهمة لكنها هلامية، والعالم أصبح ميلًا إلى «الكلام الكبير» الذى يظل حبرًا على ورق، حتى الحبر يفقد مكانته فى ظل الاعتماد على حروف صماء، نكتبها ونتداولها عبر أجهزة إليكترونية عديمة الإحساس! قبل أيام شاركتُ فى ندوة باتحاد الكتاب حول لغتنا الجميلة، التى يشارك الكثيرون فى تشويهها بجهلهم، أدارها الشاعران أحمد جاد وشيرين العدوى، وتحدث فيها د.عبد الحميد مدكور أمين عام مجمع اللغة العربية، والمخرج الكبير شكرى أبو عميرة. مداخلة الدكتور مدكور أشبه بمحاضرة مهمة، تحدث فيها عن مكانة اللغة وقدرها وجمالها وقيمتها، هو محقٌ بالتأكيد غير أن الواقع مختلف، لهذا بدأتُ مداخلتى بسؤال: هل اجتمعنا لنتغزل فى اللغة أم لنرثيها؟! أعترف أننى تجاوزتُ حدودى عندما اتهمت المجمع اللغوى بأنه مسئول نوعًا ما، عن انفصال اللغة عن الشارع، لأنها كائن حيٌّ لابد أن يتطور، دون اللعب فى أساسها بالطبع، واستعدتُ محاولة تمرير قانون قبل أعوام، يهدف لتجريم الإساءة إلى «العربية». لماذا نسعى لفرض سطوة القوانين عندما نفشل فى حل أزماتنا بقوة الحب. وهل تصبح الإساءة للغة جنحة أم جناية؟ فى الندوة توصلت للتهمة المناسبة، قلتُها أمام الحاضرين فضجوا بالضحك.. إن ما نفعله باللغة أقرب إلى فعلٍ فاضح فى الطريق العام!