فى عالم السياسة الدولية، تتقاطع المصالح مع الأهواء، وتختلط الاستراتيجيات بالقناعات الشخصية، لكن قلّما رأينا رئيسًا أمريكيًا يجعل من غروره الشخصى بوصلة للأمن القومى كما يفعل دونالد ترامب فالرجل الذى لا يخفى إعجابه بنفسه، يرى فى كل أزمة فرصة لتأكيد أنه الأعظم، وفى كل قرار مساحة جديدة لترسيخ صورته كزعيم لا يُضاهى. استراتيجيته الجديدة للأمن القومى ليست مبنية فقط على معايير الدفاع وردع الخصوم، بل تنضح بملامح نرجسية فاقعة قائمة على تعظيم الذات واحتقار المنافسين، وتسويق نفسه كصانع التاريخ والمنقذ الوحيد لأمريكا لم يعد الأمر يتعلق ب«أمريكا أولاً»، بل ب«ترامب أولاً» هذه ليست مجرد سياسة، بل عرض مستمر لبطولة رجل يرى أن العالم بأسره خشبة مسرح، وأنه البطل الوحيد الذى يستحق التصفيق وبينما يُصَفّق له أنصاره، يراقب العالم بدهشة وخوف. اقرأ أيضًا | واشنطن تتعهد الرد على رواندا ل«انتهاك» اتفاق السلام مع الكونغو الديموقراطية قبل أن نتعمّق فى تحليل الإستراتيجية الأمنية الأمريكية فى عهد ترامب، من المهم أن نفهم كيف تصنف شخصيات مثل ترامب ضمن ما يسميه علماء النفس النرجسية المرضية ووفق دراسات نفسية وسياسية، يتميز ترامب بغرور مبالغ فيه وإيمان عميق بعظمته الخاصة، معتقدًا أنه مميز وفريد بين القادة. كما يسعى دائما للحصول على الإعجاب والاعتراف، ليس من مواطنيه فقط، بل من العالم كله، كأنّه يستجدى التأييد والإعجاب باستمرار ويواكب ذلك تقليله من شأن الآخرين سواء خصومه السياسيين أو رؤساء سابقين خاصة جو بايدن، لإبراز أهميته، وهى الطريقة التى يرى نفسه من خلالها «القائد الأعظم». هذه الخصائص، رغم كونها نفسية إلا أنها تركت بُصمة واضحة فى شكل الولاياتالمتحدة كقوة عظمى، فما ظهر كسياسة أمنية، كثيرًا ما بدا كمسرح لتفخيم الذات وفرض الهيبة الأمريكية فوق كل اعتبار. فى ولايته الأولى (2017-2021)، تبنى ترامب شعار «أمريكا أولاً» وهو ما تمثل فى انسحاب الولاياتالمتحدة من اتفاقيات دولية مع تقليل المساعدات الخارجية، وتجنب تدخلات واسعة وخلال تلك السنوات، كان السمات البارزة هى الابتزاز الدبلوماسى والتهديدات الاقتصادية، والتخلى عن الالتزامات الدولية. لكن منذ عودته الرئاسية 2025 ظهرت الميول النرجسية بشكل كبير وتم صياغة الإستراتيجية بقلم ترامب، وتحول الشعار من مصلحة أمريكا أولا إلى «أنا أولا» لإظهار عبقرية ترامب الشخصية. فالرجل متسق مع نفسه ويعلنها بكل وضوح: أمريكا تحت قيادتى ستكون أمة عظيمة. ترامب يستخدم إعلامياً وسياسياً بوقًا لنفسه، ليُعيد كتابة القواعد، من الحرب على الإرهاب إلى مواجهة الهجرة، ومن دعم الديمقراطية إلى تفضيل الأنظمة التى تستسلم لرغباته أو نزواته، إن شئت الدقة. هذا الأسلوب يجذب قاعدة مؤيدة ترى فيه قائد قوى يكشف زيف النخب القديمة فى الوقت نفسه، يثير قلق الحلفاء التقليديين الذين يشعرون بتهميش دورهم الاستراتيجي. الإستراتيجية تظهر بوضوح استخدام قوة كأداة تفاوض، من خلال استخدام التهديدات المستمرة، سواء فى الشرق الأوسط أو أمريكا اللاتينية أو أوروبا، مما يجعل ترامب نفسه الحكم النهائي، ليس من خلال عملية تفاوض، بل فرض شروط على الآخر بناءً على هيبته وصورته كزعيم مستعد لكسر القواعد. كما تتضح الرغبة فى تحويل النفوذ إلى مكاسب شخصية وجيواقتصادية، حيث السياسات الأمنية الجديدة تساعد على تكريس النفوذ الأمريكي وفى نفس الوقت تُعزّز صورة ترامب كمنقذ أمريكا من الداخل والخارج. الاستراتيجية تستهدف عالما أحاديا تحت القيادة الأمريكية مع تراجع الثقة من الحلفاء، وتعزيز الميل للاستقلال الأوروبى والعالمي، وإعادة ترتيب النفوذ فى أميركا اللاتينية كما هو واضح فى فنزويلا والكاريبى مع تهديدات عسكرية واقتصادية، وهو تصعيد قد يُفضى إلى صراعات مفتوحة أو أزمات إنسانية. كما تستهدف إظهار ترامب كقائد تاريخى وصورة شخصية قوية داخل قاعدته الانتخابية، لكنها ستؤدى لتآكل مصداقية أمريكا دولياً، وزيادة الاستقطاب الداخلي. المحللون يحذرون من وصول نرجسية القوة إلى مداها وهو ما يعنى استمرار أمريكا فى فرض قانون الرجل الواحد خارج المؤسسات الدولية، فهذا يقوّض مبدأ السيادة والمسار القانونى للعلاقات بين الدول. كذلك ستتدهور العلاقات مع الحلفاء فى أوروبا، آسيا، وحتى بعض حلفاء أمريكا فى الشرق الأوسط سيعيدون حساباتهم، والنظريات السياسية تشير إلى أن من لا يستمع للحلفاء اليوم ربما لن يجد من يقف معه غدا. أمريكا نفسها قد تدفع ثمنا غاليا بسبب نرجسية ترامب المفرطة، فهو لا يتردد فى استخدام صلاحيات الطوارئ، وتجاوز الكونجرس، واتباع سياسة «أنا فوق الكل» التى قد تفجر أزمات ديمقراطية داخلية بين مؤيد ومعارض، بين نخبة القوة والنخب الديمقراطية. على مستوى البناء، صِيغت الوثيقة بروح سردية غير مألوفة، إذ جمعت بين الأجندة الأمنية والخطاب السياسى الداخلي، وأبرزت دور الرئيس نفسه بوصفه محور القصة وبطلها، أكثر مما ركزت على الدولة أو الأمة الأمريكية ودورها العالمي هذا الطابع يجعل الوثيقة تبدو رواية سياسية موجّهة للداخل أكثر من كونها خطة أمن قومى تقليدية، فى ابتعاد واضح عن اللغة المؤسسية التى ميزت وثائق الأمن القومى الأمريكية لعقود. على صعيد المضمون، تظهر الرسالة الجوهرية للإستراتيجية الجديدة وهى أن أمريكا لن تُرهق نفسها بعد الآن فى صراعات بعيدة لا تمثل أولوية للأمن الأمريكى بمفهومه الجديد الذى تعرفه الوثيقة، التي تؤكد بشكل جازم، أن المصلحة الوطنية الأمريكية يجب أن تتجاوز التحالفات التقليدية، والسياسة الخارجية القائمة على القيم، وحتى المؤسسات العالمية. هذا التحول، ليس مجرد تركيز تكتيكى حول قضايا بعينها، ولكنه عملية هيكلة واسعة لمفاهيم الأمن القومي، وماهية النظام الدولى الأوسع هذا الترتيب الجديد من المرجح أن له آثارا عميقة ليس على الولاياتالمتحدة وحلفائها فقط، ولكن على موازين القوى عالميا فى المستقبل. صحيح أن إستراتيجية ترامب المبنية جزئيًا على نرجسية القوة قد تمنحه مكاسب سريعة من صفقات ونفوذ وردع لكنها تلقى بثقل كبير على سمعة أمريكا، واستقرار حلفائها، وتوازن النظام الدولي. وإذا كانت القيادة تعنى أن يحكم الأقوى بلا حساب، فإن النتيجة ستكون عنف وخراب أكثر من أمن واستقرار.