فى نهاية الشهر الماضى نشر البيت الأبيض (إدارة الرئيس الأميركى دونالد ترامب) استراتيجية الأمن القومى الأميركية وهى الوثيقة الرسمية التى يعلن من خلالها الرئيس وفريقه كيف ترى الولاياتالمتحدة العالم، وما الذى تعتبره تهديدا مباشرا لأمنها ومصالحها، وما هى أولوياتها فى السياسة الخارجية والدفاع والاقتصاد والتكنولوجيا والحدود. الوثيقة تنطلق من فكرة أن الاستراتيجية يجب أن تكون محددة وواقعية وتُرتب الأولويات، وأن هدف السياسة الخارجية هو حماية المصالح القومية الجوهرية لا إدارة كل قضايا العالم. وتنتقد مرحلة ما بعد الحرب الباردة باعتبارها سعت لهيمنة عالمية مكلفة وغير قابلة للاستدامة، وأضعفت القاعدة الصناعية والطبقة الوسطى وسمحت للحلفاء بتحميل واشنطن كلفة دفاعهم. ما جاء بالوثيقة التى أطلق عليها المراقبون والباحثون والمتخصصون "وثيقة ترامب" يكشف بصورة صريحة عن التحولات الكبرى التى يمر بها النظام الرأسمالى العالمى. فما يشهده العالم منذ مجيئ الرئيس الأميركى ترامب من قرارات وسياسات صادمة فى بعض الأحيان ومربكة ومحيرة فى أحيان أخرى، هو تعبير سياسى حاد عن نهاية مرحلة كاملة من تاريخ النظام الدولى، وبداية أخرى تتشكل مع صعود الدولة القومية على حساب العولمة. فالوثيقة تكشف وبصراحة كاملة أن الهدف المركزى للولايات المتحدة هو الحفاظ على الهيمنة العالمية المطلقة، عبر ضمان بقائها الدولة الأغنى والأقوى والأكثر تقدّمًا فى كل المجالات، الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية. وهى بذلك لا تضع رؤية جديدة بقدر ما تكشف عن حقيقة ثابتة فى السياسة الأمريكية، لكنها هذه المرة تصاغ وبالحقيقة العارية دون مواربة أو التواء، وبمنطق صريح يرفض الخطاب الليبرالى الذى حكم العقود الماضية. فالعالم أمام مرحلة سياسية جديدة مع حكم ترامب. فلم يعد للعولمة مكان فى الاستراتيجية الجديدة مع صعود النزعة القومية للولايات المتحدة الأميركية واختلاف لغة الخطاب مع العالم الخارجى بمعنى وداع أخير للعولمة والمرونة والليبرالية الأميركية فى مقابل ظهور التشدد والتطرف فى السياسة الأميركية. تصف "الوثيقة الترامبية" العولمة بأنها مفهوما أجوف ومجرد عنوان لحقبة اقتصادية كانت مخصصة لخدمة الشركات متعددة الجنسيات، لا الدول ولا الشعوب. وتعلن الوثيقة، بصراحة ووضوح أن زمن العولمة انتهى، وأن الأولوية الآن للأمم والدول القومية، لا للشبكات العابرة للحدود. فالولاياتالمتحدة، بصفتها مركز النظام العالمى، لعبت دور الدولة الإمبراطورية التى تتحمل أعباء الحماية العسكرية والاقتصادية لحلفائها، حتى وصلت إلى لحظة ترى فيها أن "الأطراف" تعيش على حساب "المركز" ولا تقدم له شيئًا فى المقابل. وهو ما يتطابق مع تصريحات ترامب منذ توليه الرئاسة فى يناير الماضى بشأن أميركا القوية التى لا يتجاوزها أحد فى العالم بما يعنى أن النظام الدولى الجديد شعاره "أمريكا أولا" فاستراتيجية الأمن القومى الأميركى وما جاء بها يعلن نهاية حقبة تاريخية امتدت منذ عام 1945 أى مرحلة ونظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، فالوثيقة تفسر بأن نظام ما بعد الحرب العالمية كان الهدف منه هو احتواء الاتحاد السوفيتى وعقب انهياره تحملت واشنطن أعباء النظام العالمى بتكاليف باهظة فى حين استفاد الحلفاء دون تكلفة. العالم الجديد حسب وثيقة ترامب يحدد أبرز أولويات الولاياتالمتحدة الأميركية وتتضمن، الأمن الداخلى والحدود بما فيها الهجرة، الكارتيلات وعصابات الاتجار فى المخدرات، نصف الكرة الغربى، فالوثيقة تجعل من منطقة الأميركيتين أولويتها القصوى وليست الصين. بما يعنى استعادة مبدأ مونرو الذى تم الإعلان عنه عام 1823 ويحدد موقفٌ السياسة الخارجية الأمريكية الذى يعارض الاستعمار الأوروبى فى نصف الكرة الغربى. وينص على أن أى تدخل فى الشؤون السياسية للأمريكيتين من قِبل قوى أجنبية يعتبر عملاً عدائياً محتملاً ضد الولاياتالمتحدة. وقد شكّل هذا المبدأ محوراً أساسياً فى الاستراتيجية الأمريكية الكبرى فى القرن العشرين. وتؤكد الوثيقة أن الولاياتالمتحدة ستعمل على إبقائه مستقرًا وقادرًا على منع الهجرة الجماعية للولايات المتحدة، والتعاون ضد الكارتلات والجريمة العابرة للحدود، وإبعاد أى نفوذ أو وجود معاد أو امتلاك لأصول استراتيجية، وكبح الضرر الاقتصادى القادم من الخارج وضمان حرية الملاحة وسلاسل الامداد فى منطقة الاندو- باسفيك فى المحيط الهندى والهادئ. وبالنسبة لأوروبا فتشير الوثيقة إلى دعم الحلفاء لحماية حرية وأمن أوروبا، مع تشديد على استعادة الثقة الحضارية والهوية الغربية. والدفع لأن تقود التكنولوجيا والمعايير الأميركية العالم، خصوصًا فى الذكاء الاصطناعى والبيوتكنولوجيا والكمّ. أما عن رؤية الوثيقة لمنطقة الشرق الأوسط، فقد تراجعت تراجع أولوية المنطقة من منطقة صراع إلى مساحة استثمار، فالشرق الأوسط- حسب الوثيقة- لم يعد مصدر تهديد وجودى للولايات المتحدة، بل صار بيئة اقتصادية واعدة. وتشير إلى الصراع مع إيران وحرب غزة، لكن بطريقة تؤكد أن «محور إيران» تعرض لهزيمة إقليمية كبرى. والمهم هو منع قوة معادية من الهيمنة على المنطقة ومواردها وممراتها، وتجنب "الحروب الأبدية". وفيما يتعلق بالوجود العسكرى، تقول الوثيقة أن ذلك يعنى، إعادة ضبط وجودنا العسكرى العالمى للتعامل مع التهديدات العاجلة فى نصف كرتنا الأرضية، والابتعاد عن المسارح التى تراجع تأثيرها النسبى على الأمن القومى الأميركى خلال العقود أو السنوات الأخيرة. ما يلفت انتباه الخبراء فى وثيقة الأمن القومى الأميركية أن الصين لم تعد تُصنف على أنها "التهديد الرئيسي" أو "التحدى الأكثر أهمية" أو "التهديد المُحدد للوتيرة" وهى تعبيرات كانت أساسية فى الوثائق السابقة. وبذلك تُخفض مكانتها الاستراتيجية بوضوح. لكن فى المقابل الوثيقة لا تصف الصين كحليف أو شريك، بل منافس اقتصادى، ومصدر هشاشة فى سلاسل الإمداد وإن كانت أيضاً شريكاً تجارياً. كما ترى الوثيقة أن الصين قوة ينبغي—من الناحية المثالية—منعها من تحقيق الهيمنة الإقليمية لأنها تحمل آثاراً كبيرة، إشارة إلى احتمال تفوق الصين عسكرياً حيث تذكر الوثيقة أن ردع نزاع بشأن تايوان، ويفضل عبر الحفاظ على التفوق العسكرى، هو أولوية، وكلمة "يفضل" تعنى بوضوح أن التفوق ليس مضموناً. كما أن وصف ردع النزاع بأنه مجرد "أولوية" يشير ضمنياً إلى أنه لم يعد مصلحة استراتيجية عليا كما كان يُنظر إليه سابقاً. وتؤكد الوثيقة أن الولاياتالمتحدة ما زالت لا تدعم أى تغيير أحادى للوضع القائم فى مضيق تايوان، الا أن هناك غياب كامل للبعد الأيديولوجى تجاه الصين على عكس الوثائق السابقة، لا توجد أى إشارة إلى "صراع الديمقراطية مقابل الاستبداد"، "النظام الدولى القائم على القواعد" و"معركة قيم". فالوثيقة تعامل الصين باعتبارها قضية عملية يجب إدارتها، لا عدواً أيديولوجياً يجب هزيمته. وفى خطوة غير مسبوقة، تذكر الوثيقة صراحة أن السياسة الأميركية الآن ليست مبنية على أيديولوجيات سياسية تقليدية، وأن واشنطن "تسعى إلى علاقات طيبة وتجارية سلمية مع دول العالم دون فرض تغييرات ديمقراطية أو اجتماعية تتعارض مع تقاليدها وتاريخها"، وأنها تسعى إلى "علاقات جيدة مع الدول التى تختلف أنظمتها الحاكمة عن نظامنا." وهو تحول مذهل عن الخطاب الأميركى على مدى العقود. أما أوروبا فقد رأى الخبراء أن تركيز الوثيقة على النصف الغربى، يعنى تراجع الاهتمام الأوروبى، فواشنطن لم تعد ملتزمة بتحالفات طويلة المدى مع أوروبا، بل أصبحت تعتمد على تحالفات محدودة ومباشرة حسب مصالحها فقط. تصف الاستراتيجية نفسها بأنها «براغماتية فلسفيًا، عملية، غير عدوانية، وغير مهادنة»، وتستند إلى مبدأ "أمريكا أولًا". هذا ليس مجرد شعار انتخابى، بل تعريف حديث لدولة قومية إمبريالية تسعى إلى إعادة هندسة تحالفاتها بصورة تجعل كلفتها أقل وأرباحها أكبر، على قاعدة المصالح القومية الخالصة لا الشعارات الليبرالية. ولا تراهن الوثيقة على القوة العسكرية وحدها، بل تضع إعادة توطين الصناعات داخل الولاياتالمتحدة وبناء طبقة وسطى قوية كشرط أساسى لاستمرار الهيمنة العالمية. فالنموذج المقترح يقوم على، خفض الاعتماد الاقتصادى على الصين، جذب الاستثمارات الصناعية إلى الداخل، توفير فرص استثمارية جاذبة لدول الجوار، واستعادة قوة الاقتصاد الأمريكى لرفع الناتج المحلى إلى 40 تريليون دولار والرسالة السياسية هنا واضحة.. فقد انتهت مرحلة الصراع المباشر، والباب مفتوح لمن يريد الدخول فى منظومة إقليمية جديدة تحت السقف الأمريكى. بما يعنى أن الوثيقة تؤسس لنظام دولى يشبه وضع العالم قبل الحرب العالمية الأولى ركائزه، دول قومية قوية، تحالفات قصيرة المدى، مصالح مباشرة، وانكماش دور المؤسسات الدولية. هذا التحول سيؤدى بالضرورة إلى تراجع القدرة التنظيمية للحركات المدنية التى تعمل خارج إطار الدولة القومية، وانحسار الخطاب الليبرالى، وبروز الحاجة لتيارات اشتراكية ديمقراطية وشيوعية كخطاب اجتماعى مضاد لحماية الطبقات المهمشة أمام موجة القومية الرأسمالية الصلبة. وفى ظل هذا التحول، ستكون السنوات المقبلة مرحلة إعادة فرز كبرى، دول ستصعد وأخرى ستتآكل، واقتصادات ستُعاد هيكلتها، ونخب سياسية ستختفى لأنها لم تعد قادرة على التعامل مع عالم أطاح بكل المسلّمات التى حكمت العقود الأخيرة. العالم قبل وثيقة ترامب يختلف كليا عن عالم ما بعدها.. انتظروا عالم جديد شعاره " أميركا أولا" وعلينا أن نستعد لذلك.