أصدرت الولاياتالمتحدة استراتيجية الأمن القومي لعام 2025، والتي تعتبر وثيقة فارقة في التاريخ الاستراتيجي الأمريكي، ليس لأنها تحدد أولويات جديدة فحسب، بل لأنها تعيد تعريف ماهية الدور الأمريكي في النظام الدولي برمّته.. فالوثيقة تعلن بوضوح غير مسبوق نهاية حقبة امتدت منذ الحرب الباردة حيث اضطلعت واشنطن بدور "قائد النظام الليبرالي العالمي"، وتطرح بديلًا يقوم على الواقعية المرنة والقومية الدفاعية، والقومية الاقتصادية، وإعادة بناء الدولة من الداخل، وتقليص الالتزامات الخارجية إلى حدود ما يُعدّ تهديدًا مباشرًا للمصلحة القومية. «الناتو» في حيرة.. كيف سيتفاوض مع روسيا بعد اتفاق السلام في أوكرانيا؟ ولذا تعد الوثيقة تحوّلًا جذريًا من عقيدة "الانخراط العالمي" نحو مقاربة واقعية- قومية براجماتية تُقدّم القوة الاقتصادية، وحماية الحدود، وإعادة التصنيع كأسس جديدة للأمن القومي، وتضع حدًا لإيمان عميق بالعولمة، وهي بذلك لا تراجع أولويات السياسة الخارجية الأمريكية فحسب، بل تعيد هندسة هوية القوة الأمريكية نفسها، عبر دمج غير مألوف بين الأمن القومي والهوية الثقافية والروح الوطنية والاقتصاد المنتج. كما تتجلى أهمية الوثيقة في أنها ترسم خريطة صراع القرن؛ صراع يقوم على الاقتصاد والتكنولوجيا وسلاسل التوريد أكثر من اعتماده على القوة الصلبة التقليدية، وتعيد توزيع الثقل الجيوسياسي ليتمركز حول آسيا والنصف الغربي من الكرة الأرضية، مع تراجع واضح لمركزية الشرق الأوسط، كما تكشف عن رؤية ترى في الصين المنافس الأكبر، وفي أوروبا شريكًا آخذًا في الضعف، وفي النظام الدولي بنية يجب إعادة تشكيلها من منظور "أمريكا أولًا" لا من منظور القيادة العالمية. والنجاح في تطبيقها مرهون بقدرة واشنطن على فرض شروطها على الحلفاء دون دفعهم للانهيار أو التمرد، وإدارة المنافسة مع الصين دون الانزلاق لحرب شاملة. واستخدمت الاستراتيجية الأمريكية عقيدة مونرو الجديدة والتي تؤسس لعودة الهيمنة الإقليمية المطلقة، والتحول من الدفاع إلى المنع الاستباقي لأي نفوذ أجنبي، ليس فقط عسكرياً بل اقتصادياً (ملكية الأصول) في نصف الكرة الغربي. كما تعتمد على مبدأ السلام من خلال القوة المفرطة ولذا فالوثيقة تتبنى نهج الردع القائم على التفوق الساحق، مستشهدة بعملية مطرقة منتصف الليل ضد إيران كدليل على أن الردع يتطلب إخماد الخصوم عسكرياً عند الضرورة، وليس احتوائهم دبلوماسياً فقط. أما إسرائيل، فتعطيها الوثيقة الضوء الأخضر المطلق والدمج الإقليمي وحسم الملف الإيراني وتعزيز التفوق الإسرائيلي، وبالتوازي مع ذلك تنظر إلى التطبيع كاستراتيجية أمن قومي من خلال توسيع "اتفاقيات إبراهيم" كهدف مركزي، وتعتبر أن أمن إسرائيل مصلحة جوهرية. وبالنسبة للجمهورية الإسلامية الإيرانية هذه الوثيقة تعتبر طهران ليست استراتيجية تنافس، بل وثيقة تصفية حسابات ضد التهديد الوجودي الإيراني، حيث تشير إلى تدمير البرنامج النووي الإيراني كإنجاز وتصف إيران بأنها القوة المزعزعة للاستقرار التي تم إضعافها بشدة. كما تتخلى الاستراتيجية عن مركزية الشرق الأوسط التقليدية التي كانت قائمة على النفط ودعم الحلفاء في الخليج، وتتبنى نموذجا يعتمد على "تقاسم الأعباء" والتدخل العسكري الجراحي ضد التهديدات كإيران نموذجا من خلال عملية "مطرقة منتصف الليل" في يونيو 2025 ضد المنشآت النووية الإيرانية (فوردو، ونطنز، وأصفهان) باستخدام قاذفات B-2 وقنابل GBU-57 الخارقة للتحصينات، وهي التطبيق العملي لعقيدة "السلام من خلال القوة" بحسب الوثيقة. ولذا تعتمد الاستراتيجية من التحول من "حروب الاستنزاف" طويلة الأمد إلى "الضربات العقابية" التي تهدف إلى إزالة تهديد نوعي محدد (البرنامج النووي) واستعادة الردع دون التورط في احتلال بري. كما تركز على دبلوماسية الصفقات، ويُعد "مؤتمر السلام" الذي عُقد في أكتوبر 2025 نموذجا للدبلوماسية الجديدة التي تفضل الاتفاقيات المباشرة لإنهاء الصراعات (مثل حرب غزة) وفرض ترتيبات أمنية جديدة، بدلا من العمليات السياسية المفتوحة.