منذ اللحظة الأولى لصدور البرومو الدعائي لفيلم «الست» بطولة منى زكي، وجد العمل نفسه في قلب جدل صاخب بين من رأى فيه مغامرة جريئة للاقتراب من أسطورة أم كلثوم، وبين من استبق الحكم عليه انطلاقًا من إعلان تشويقي لا يكفي لقراءة فيلم بهذا الثقل، ولذا جاءت مشاهدة العرض الخاص أمس لتضع الأمور في سياقها الحقيقي، وتكشف أننا أمام تجربة تتجاوز حدود السيرة التقليدية نحو مساحة إنسانية أعمق وأكثر هشاشة. على مدى ساعتين ونصف – مدة تُعد طويلة نسبيًا – يأخذنا الفيلم إلى ما وراء الصورة المقدّسة التي ترسّخت لأم كلثوم في الأعمال السابقة، سواء في مسلسل"أم كلثوم" بطولة صابرين أو فيلم "كوكب الشرق" الذي أدّته فردوس عبد الحميد، هنا في «الست» لا نرى رمزًا فقط، بل امرأة من لحم ودم، تخاف، تُخذل، تنهار، ثم تنهض، امرأة تعيش بين القوة والضعف، بين اليقين والشكّ، بين وهج النجومية وظلام الوحدة. منى زكي تخوض الامتحان الأصعب في مسيرتها، لا بتقديم نسخة مستنسخة من كوكب الشرق، بل بمحاولة القبض على الروح الداخلية للشخصية، تتألق في مشاهد عديدة، وتتعثر في أخرى، لكنها في المحصلة تقدم شخصية كاملة الملامح، قابلة للتصديق، محمولة على توتر نفسي معقّد تُعطي الدور صدقه ووزنه. اختيار المخرج مروان حامد أن يبدأ الفيلم بحفل أولمبيا الشهير في باريس عام 1967، بعد هزيمة يونيو لدعم الإنتاج الحربي والتعبير عن التضامن العربي، كان اختيارًا شديد الذكاء، هنا تتكثف المعاني: السياسة، الفن، التمرّد، المخاطرة، والسيطرة الكاملة لصوت يقف بثبات فوق جرح الهزيمة العربية بعد نكسة يونيو. مشهد سقوط أم كلثوم على المسرح – بعد اندفاع أحد المعجبين لتقبيل قدمها – ليجسد لحظة انكسار وقوة في آن واحد، كما يشكّل لحظة درامية مكثفة، تُستخدم كقوس افتتاحي يسمح بالعودة إلى الجذور: الطفولة، القرية، التحوّلات، والأثمان التي دفعتها حتى صارت الأسطورة الخالدة. السيناريو الذي يقدمه أحمد مراد يرفض فخ الاستعراض التاريخي الذي يملأ السير الذاتية عادةً، لا يقدم خطًّا زمنيًا متتابعًا، ولا يتعامل مع أم كلثوم كأيقونة لا تُمس، بل يذهب لما هو أصعب.. تفكيك الصورة، إعادة بناء المرأة خلف المجد، هنا لا وجود للفانتازيا، ولا لتهويل مجاني، هناك واقع إنساني، وتدرّج نفسي، ومساحات صمت تحمل من المعنى أكثر بكثير مما تحمله الجمل الحوارية. الرؤية الإخراجية لمروان حامد توازن بين الضخامة البصرية والتفاصيل الحميمية، الكادرات تلتقط التوتر الداخلي للشخصيات في أدقّ لحظاتها، فيما تمنح المشاهد الكبرى – الحفلات، التحولات التاريخية، صراع أم كلثوم مع المؤسسة الذكورية – حضورًا لافتًا دون مبالغة، الإيقاع، رغم طول المدة، يحافظ على شدّه الفني، مع بعض التباطؤ في المنتصف، لكنه تباطؤ محسوب، يخدم طبيعة الحكاية النفسية أكثر مما يعيقها. يقدّم محمد فراج في شخصية أحمد رامي أحد أكثر الأدوار تركيبًا في الفيلم، لأن العلاقة بين رامي وأم كلثوم لم تكن قصة حب تقليدية، ؛حيث يُظهر الفيلم، من خلال أداء فراج، أن رفض أم كلثوم الزواج من أحمد رامي لم يكن قسوة ولا غموضًا، بل كان اختيارًا واعيًا لحماية مصدر إلهام نادر، أرادت أن يكون رامي المرآة الشعرية التي ترى ذاتها من خلالها، لا الزوج الذي يشاركها التفاصيل اليومية بما قد يطفئ وهج الخيال، فالعلاقة بينهما تُقرأ بوصفها علاقة مجازية: شاعر يكتب حبه لأنه لا يقدر على امتلاكه، ومطربة تسمعه لأنها تعرف أن الفن يولد من المسافة لا من الاقتراب المفرط. يشكّل ظهور كريم عبد العزيز في شخصية شريف صبري باشا (خال الملك فاروق وشقيق الملكة فريدة) أحد أكثر محاور الفيلم إثارة للانتباه، ليس فقط من منظور الأداء، بل من حيث الوظيفة الدرامية التي تمنح السرد بُعدًا طالما جرى تهميشه في الأعمال السابقة: البعد الطبقي والسياسي للعلاقات التي أحاطت بأم كلثوم. العمل يستند إلى أداء جماعي قوي، أبرزهم: سيد رجب في دور الأب إبراهيم البلتاجي: صلب، قاسٍ حينًا وحنون حينًا.. حضور يُصدّق، أحمد خالد صالح يقدّم شقيقها خالد بواقعية رصينة ، تامر نبيل وصدقي صخر يضيفان حضورًا موسيقيًا تاريخيًا دقيقًا، كل هؤلاء يعملون كأوتار داعمة لصوت البطولة دون أن يبتلعهم الدور الرئيسي. من التصوير الفاتن لعبد السلام موسى، إلى مونتاج أحمد حافظ المتماسك، إلى موسيقى هشام نزيه التي تلتقط جوهر الزمن لا مجرد صدى الأغاني، كل عناصر الفيلم تعمل بتناغم يجعل من «الست» مشروعًا كبيرًا لا فيلمًا عابرًا، واستعانة العمل بأسماء عالمية في تصميم الصوت والمؤثرات (واين باشلي وجايسون بيرد) يعكس طموحًا إنتاجيًا يصعب تجاهله، ويظهر بوضوح على الشاشة. «الست» ليس فيلماً عن الأسطورة، بل عن الإنسان الذي صنع الأسطورة، ليس فيلمًا عن الصوت، بل عن القرار، وليس فيلمًا عن الماضي، بل عن معنى أن تصبح امرأة في عالم يطالبها بالانحناء بينما تصرعلى الوقوف، إنه عمل ناضج، راقٍ، وجريء، يضع منى زكي أمام أهم تحدياتها، ويثبت أن ثنائية مراد–حامد ما زالت قادرة على تقديم سينما تجمع بين العمق والجماهيرية. «الست» واحد من أهم أفلام السيرة الذاتية في السينما العربية الحديثة، لأنه يقدّم سيرة لا تتباهى بالمجد، بل تبحث عن الحقيقة.