النتيجة النهائية للجنه الفرز رقم 2 بطنطا في الأنتخابات البرلمانية    جامعة حلوان تنظم المعرض الخيري للطلاب بالمدن الجامعية لتخفيف الأعباء المعيشية    مدير تعليم القاهرة توجه بضرورة دراسة الحلول التنفيذية للفترات المسائية في المدارس    التموين.. الاحتياطي الاستراتيجي لجميع السلع الأساسية آمن    6 محاور رئيسية لتحقيق الاستدامة البيئية داخل المنشآت الصحية.. تعرف عليها    اتحاد السياحة: بروتوكول تعاون مع وزارة العمل لتنظيم السوق    التمثيل التجاري: خطة التوسع في إفريقيا تعتمد على تكامل الأدوار بين الدولة والقطاع الخاص    محافظ المنوفية يتفقد الموقف التنفيذي لأعمال تطوير ورفع كفاءة كوبري الميتين    رئيس الوزراء والوزير الأول لجمهورية الجزائر يترأسان أعمال الدورة التاسعة للجنة العليا المصرية الجزائرية.. مدبولى: العلاقات بين البلدين تاريخية.. غريب: مصر والجزائر تتمتعان بسجل اقتصادى حافل من التعاون النموذجى    بعثة الزمالك تصل فندق الإقامة في جنوب إفريقيا    بعثة الأهلي تصل المغرب استعدادًا لمواجهة الجيش الملكي    يلا كورة لايف.. مشاهدة مباراة النصر ضد استقلال دوشنبه مباشر دون تقطيع | دوري أبطال آسيا 2025    الجدة وحفيدتها.. انتشال جثتين من أسفل أنقاض انهيار منزل بنجع حمادي    ضبط المدير المسئول عن شركة للإنتاج الفني "بدون ترخيص" بالهرم    الطقس غدا.. انخفاض درجات الحرارة وشبورة كثيفة والصغرى فى القاهرة 15 درجة    تعليم القاهرة تعلن مقترح جداول امتحانات شهر نوفمبر لمراحل النقل    لجنة استشارية من فنون تطبيقية حلوان لإبداء الرأي في ترميم جداريات سور حديقة الحيوان    إلهام شاهين: سعاد حسنى كانت المرشحة الأولى لفيلم عادل إمام الهلفوت    رمضان 2026.. نيللي كريم وشريف سلامة ينتهيان من تحضيرات مسلسل "أنا"    قبل ما يضيع وقته وطفولته.. كيف تحمي أبناءك من السوشيال ميديا؟    إجراءات حاسمة تجاه المقصرين في الوحدات الصحية بقنا    خاطروا بحياتهم.. موظفو الحى ينجحون فى إنزال سور معلق من عقار كرموز.. فيديو    ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة بمنتصف تعاملات اليوم    الحصر العددى لقائمة دائرة أول الزقازيق بمجلس النواب 2025    الناقد الذي كان يشبه الكلمة... وداعًا محمد عبد المطلب    الاتحاد الأوروبي يستعد لتقديم نص قانوني لإصدار قرض لأوكرانيا ب140 مليار يورو    المدير السابق لجهاز الموساد يكشف أسرار سرقة الأرشيف النووى الإيرانى    رئيس الوزراء ونظيره الجزائرى يشهدان توقيع عدد من وثائق التعاون بين البلدين    الارتجال بين الفطرة والتعليم.. ماستر كلاس تكشف أسرار المسرح في مهرجان شرم الشيخ    دليل لحماية الأطفال من الخوف والأذى النفسي الناجم عن الأخبار الصادمة    بعد انتشارها بين الناس، الأطباء يكشفون سر سلالة الإنفلونزا الجديدة ويحذرون من حقن الموت    8 ملايين جنيه.. حصيلة قضايا الاتجار في العملات ب«السوق السوداء»    محافظ أسيوط يتفقد كليات جامعة سفنكس ويشيد بجودة الخدمات المقدمة للمواطنين    محمود فتح الله: تصريحات حسام حسن الأصعب تاريخيًا.. وكان يمكنه تجنبها    انطلاق أعمال اجتماع مجلس وزراء الإعلام العرب بالجامعة العربية    بركان كيلاويا في هاواي يطلق حمما بركانية للمرة ال37 منذ بدء ثورانه العام الماضي    البرهان: السلام في السودان مرهون بتفكيك الدعم السريع    قوات الاحتلال تفرض حظرًا للتجوال وحصارًا شاملًا على محافظة طوباس    حزب النور في المقدمة.. نتائج الحصر العددي الأولي عن الدائرة الأولى فردي بكفر الشيخ    «خطوات التعامل مع العنف الأسري».. جهات رسمية تستقبل البلاغات على مدار الساعة    وزير الدفاع يشهد تنفيذ المرحلة الرئيسية للتدريب المشترك "ميدوزا -14".. شاهد    قائمة بيراميدز في رحلة زامبيا لمواجهة باور ديناموز    وكيل صحة قنا يتفقد وحدة الترامسة ويحيل طبيبا للتحقيق    رئيس الرعاية الصحية: تطوير 300 منشأة بمنظومة التأمين الشامل    مقتل 8 أشخاص في إندونيسيا بفيضانات وانزلاقات تربة    السيسى يحقق حلم عبدالناصر    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 26-10-2025 في محافظة الأقصر    الري: نجاح حاجز التوجيه في حماية قريه عرب صالح من أخطار السيول    الأقصر: انقطاع المياه عن عدد من مناطق نجع علوان بالطود صباح اليوم    اتحاد السلة يعتمد فوز الأهلي بدوري المرتبط بعد انسحاب الاتحاد ويعاقب الناديين    بعد نجاح "دولة التلاوة".. دعوة لإطلاق جمهورية المؤذنين    دار الإفتاء تؤكد حرمة ضرب الزوجة وتحث على الرحمة والمودة    دار الإفتاء تكشف.. ما يجوز وما يحرم في ملابس المتوفى    ريهام عبد الحكيم تتألق في «صدى الأهرامات» بأغنية «بتسأل يا حبيبي» لعمار الشريعي    دعاء جوف الليل| اللهم يا شافي القلوب والأبدان أنزل شفاءك على كل مريض    بروسيا دورتمنود يمطر شباك فياريال برباعية نظيفة    بوروسيا دورتموند يفترس فياريال برباعية في دوري أبطال أوروبا    محمد صبحي عن مرضه: التشخيص كشف عن وجود فيروس في المخ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف اغتالت الكاميرا القصة؟ تأصيل الرواية اليهودية في السينما عبر التاريخ
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 23 - 11 - 2025


سعاد عوض الله
كل ما يعرفه العالم الحديث عن اليهود رأه أولًا في السينما ولم يسأل بعدها إن كان ما رأه صحيحًا بل اكتفى بالبكاء، ومنذ أن التقطت الكاميرا أول مشهد كان ثمة من يعرف أن الضوء سيغدو أكثر تأثيرًا من الحقيقة، وأن الفيلم إذا بُني على أسطورة مؤثرة لن يغدو أقوى من التاريخ فحسب، بل يمكنه أن يخلق تاريخًا ثم يزرعه في وجدان البشرية.
هذه ليست مقالًا عن أفلام تناولت قضية اليهود، ولا هي رصد سردي لتشوهات الخطاب الصهيوني في السينما، بل هي محاولة للقبض على اللحظة التي تحوّلت فيها السينما من فن إلى سلاح رمزي للإبادة، استهدف الوعي الغربي واغتال الضحية، ومنح جلادها ترخيصًا إنسانيًا بالقتل إلى الأبد.
كان يمكن لليهود أن يسردوا حكايتهم في كتب التاريخ، لكنهم اختاروا سردها على شاشة لا تنسى، فالتاريخ يُراجَع لكن الفيلم لا يُناقش كحقيقة، وهكذا وبينما نحن نكتب ونحاجج ونرصد الوثائق، كانت الكاميرا هناك تسبقنا دائمًا بخطوة، تبكي قبلنا وتبرر بعدنا وتبني وطنًا وهميًا من مشهد لا من أرض.
لقد فعلوا ما هو أكثر دهاءً من تزوير الماضي وسبقونا إليه، فقد صنعوا تاريخًا سينمائيًا موازيًا أقوى من الحقيقة وأكثر إثارة من الواقع، ثم زرعوه في وعي العالم، فكلما ماتت سردية ولد فيلم، وكلما ضعفت شرعية أُنتج سيناريو، وهكذا أصبح الظلم محتملًا لأن الفيلم كان مؤثرًا، وصار الاحتلال قابلاً للهضم لأنه مُنتَج بإتقان.
قد يجد البعض أن هذا الحديث ليس حياديًا، بل وحادًّا بعض الشيء، لا بأس في ذلك فهو يتعامل مع جريمة ناعمة ارتكبت ببطء وتحت غطاء فني، وبدموع اصطناعية غزيرة، إنه حديث عن تلك اللحظة التي مرّ فيها مشهد اللاجئ الفلسطيني بلمح البصر في فيلم ما، بينما توقفت الكاميرا لدقيقتين عند دمعة جندي صهيوني وحيد يفكر في أمه.
نعم؛ لقد تفوّقوا في الفن وأتقنوا الرواية وصنعوا أفلامًا عظيمة، لكنها عظيمة بما يكفي لقتل الحقيقة لا لنقلها.
نحن هنا لا نناقش ضعف الأفلام التي تحدثت عن اليهود ودعمت الرواية الصهيونية، بل نتناول قوتها المدمّرة، فعندما تكون الكذبة مكتوبة بشكل رديء يسهل فضحها، أما حين تأتي في فيلم يُبكيك ويُبهرك ويُعجب النقاد تصبح الكذبة أبدية.
سوف نتساءل كيف زُرعت سردية «الضحية الأبدية» في كل عدسة؟ وكيف صيغت المظلومية في مشهد افتتاحي طويل لا يزال ممتدًا منذ عقود حتى الآن؟ كيف أُبيد الفلسطيني من الشاشة بالتزامن مع إبادته من أرضه؟ وكيف فُتحت أبواب السينما لهجرة جماعية من الضمير، ومُنحت دولة الاحتلال جائزة أفضل دور إنساني عن جريمة مستمرة؟ وسنفتّش في الأفلام التي أبكت العالم لنرى من رسم تلك الدموع أولًا؟ وكيف يمكن لفيلم أن يمنحك إحساسًا أخلاقيًّا زائفًا، ثم يأخذك برقة إلى محرقة الحقيقة؟
ستكون هذه القراءة التفكيكية محاولة لاختراق الجدار السينمائي الذي اختبأت خلفه أسوأ جريمة تاريخية أُعفيت من المحاكمة لأنها قُدمت بإخراج مبهر.
صناعة المظلومية
كيف بدأت الكاميرا بالبكاء قبل أن تُطلق النار؟
حقيقةً لم تبدأ المظلومية اليهودية مع المحرقة، بل بدأت مع السينما نفسها قبل أن يُكتب أول سيناريو ناطق، فقد وجدت الكاميرا في اليهودي المضطهد خامة مثالية لتوليد التعاطف، وسط عالم حديث العهد بالمجازر، ويبحث عن نماذج أخلاقية سهلة الهضم، وبناء عليه لم تحتاج السردية اليهودية إلى إثبات تاريخي، بل فقط إلى لقطة مؤثرة ووجه باكٍ وموسيقى حزينة.
إلّا أّن هذه المظلومية لم تُروَ كقصة فقر أو تهجير أو ألم بشري مجرّد، بل قُدّمت منذ اللحظة الأولى كقضية تفوق المعاناة البشرية المعتادة، وتستحق امتيازًا أخلاقيًا دائمًا، وتدور حول جماعة استثنائية الألم، وبهذا تم ترسيخ أول كذبة سينمائية؛ أن ألم اليهود هو الألم الأكثر أخلاقيًا وخلودًا وتمثيلًا للمعاناة على الإطلاق.
من الغولم إلى رأس المال
إنّها سردية الخوف لا الشفقة، تلك التي تعيدنا إلى أحد أقدم الأدلة على ذلك؛ إنه فيلم The Golem (1920) – لبول فيغنر، وهو عمل ألماني صامت اعتمد على أسطورة يهودية قديمة، يتم فيها صناعة مخلوق طيني (الغولم) لحماية اليهود من خطر خارجي، إنّ النظر في هذا العمل يكشف عن مبادئ خطيرة في تكوين سردية الضحية؛ فاليهودي دومًا مهدد بالزوال والمجتمع المحيط به معادٍ بالفطرة، والنجاة تبرر استخدام القوة الخارقة أو الاستباقية، فالغولم نفسه لم يكن وحشًا بل رمزًا دفاعيًا، وهنا تكمن الفكرة، أنّ كل عنف تمارسه الضحية مسبوق بمظلومية وبالتالي مبرر أخلاقيًا.
أما The House of Rothschild (1934) وهو فيلم أمريكي كلاسيكي يُروّج للعائلة اليهودية الأشهر في التاريخ المالي، فرغم كونه تقنيًا عن المصرف والسلطة إلا أنه يصور اليهود في أوروبا على أنهم عباقرة مظلومون، مكروهون من الآخرين فقط بسبب ذكائهم وثرائهم، والمفارقة هنا أنّ الفيلم يعالج نقدًا لاذعًا ضد الرأسمالية اليهودية، ثم يحوّله إلى دفاع بطولي عن النجاح اليهودي، كما أنّه يرسخ فكرة أن العداء لليهود ليس نتيجة أفعالهم بل فقط بسبب وجودهم، وهكذا تحولت السينما من رصد الفعل إلى تكريس القدر، فاليهودي لا يُكره لأنه ظلم أحدًا بل لأنه وُجد.
ومع تصاعد النازية وجدت السينما فرصة لتثبيت معادلة سهلة أخلاقيًا؛ نازي يعني شر خالص ويهودي يعني ضحية نقية، وهذا ما ظهر في The Great Dictator (1940) تشارلي تشابلن، وهو تحفة فنية بامتياز، وموقف أخلاقي جريء ضد الفاشية، لكنه أيضًا تثبيت مبرمج لنموذج الضحية الصامتة النبيلة مقابل الوحش الصاخب القاتل، ورغم أنه لم يكن فيلمًا صهيونيًا لكنه منح الرواية اليهودية بعدًا رمزيًا قويًا؛ فقد أظهر العالم صامتًا بينما اليهود يُذبحون، وثبّت فكرة أنّ الصمت هو العار الأبدي الذي لا يُغتفر إلّا بالاعتراف الدائم بالمظلومية، وماذا يعني ذلك؟ إنه يعني ودون مبالغة أنّه تم تثبيت دين عالمي جديد، وهو تقديس ذكرى الضحية اليهودية ولو على حساب كل الضحايا الآخرين.
منذ تلك اللحظة لم تعد السينما توثق معاناة اليهود بل تصنعها وتعيد إنتاجها وتحويرها في كل الأزمنة، فقد تطورت السينما من الحزن على الماضي إلى منح المستقبل اليهودي ترخيصًا وقائيًا بفعل أي شيء تحت شعار «لن يتكرر ما حدث لنا»، وهكذا نشأت حصانة أخلاقية مسبقة، ومُنحت على إثره الدولة الصهيونية إذنًا بالعنف، لأن الضحية السابقة قد صارت الآن الجلاد الذي لا يُسأل.
تقنيًا، كيف نجح هذا السيناريو؟
فعليًّا لقد تمّ تمرير ذلك كله من خلال التركيز على الفرد لا الجماعة، حيث نرى الطفل اليهودي والأم والعجوز والشاب اليافع، ولا نرى المؤسسات أو المافيات ولا الجشع أو حتى الطموح السياسي، كل ذلك باستخدام الأبيض والأسود الأخلاقي، فلا توجد مناطق رمادية، فالشر مطلق والخير مطلق.
كما تمّ ذلك أيضًا بإلغاء التوازي الزمني، فبينما تُظهر أفلامهم المجازر ضد اليهود، لا يذكر شيء عما فعلته المنظمات الصهيونية ضد الفلسطينيين في نفس الفترة، وهناك دائمًا احتكار للمشهد النهائي، فدائمًا تنتهي القصة عند لحظة الانتصار الأخلاقي لليهودي ولا نرى أبدًا ما يفعله المنتصر بعد نهاية الفيلم.
وبذلك ندرك أن السينما لم تكن شاهدة على المعاناة اليهودية، بل كانت شريكة في إنتاج سردية متخيلة لها، فحوّلت الألم إلى منتج ترفيهي مربح، واستثمرته أخلاقيًا لبناء شرعية زائفة لكيان استعماري عنيف، ولأنها لم تكن مجرد مرآة بل عدسة توجيه كانت دائمًا تعرف أين تضع الكاميرا، ومتى تقطع ومن تُسقِط من المشهد، والمشهد الأزلي الذي قُطع دومًا هو مشهد الفلسطيني.
«الهولوكوست» الجريمة المقدسة التي منعت المحاسبة
حين تتحول الكارثة إلى كنز سياسي، عن الهولوكوست – أو المحرقة النازية لليهود – نتحدّث، إنه حدث مروّع بلا شك، لكن ما فعلته السينما الغربية بهذا الحدث تجاوز التوثيق والرثاء، وتحوّل إلى عقيدة بصرية لا تُمس، ليس لأنها أليمة بل لأنها مربحة سياسيًا ونفسيًا وفنيًا، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية نشأت قاعدة غير مكتوبة لكنها مطبقة بصرامة؛ وهي أنّ أي شك في رواية الهولوكوست هو معاداة للسامية، وأي مقارنة بينه وبين مأساة أخرى، هي تقليل من شأن الضحية اليهودية، وهكذا تم احتكار الألم وصار كل ما بعد الهولوكوست ظلًا أخلاقيًا له، وتم تجميد لحظة الموت الجماعي زمنيًّا لا لنتعلم منها، بل كي تظل خنجرًا في ذاكرة العالم يُشهَر عند الحاجة.
وهنا جاءت السينما لتتقمّص دور حارس معبد المحرقة في السينما الغربية بالمجمل، وبالأخص الهوليودية، إلا أنها لم تكتفِ بتوثيق الحدث، بل أسست له كمقدس رمزي له طقوسه ولغته وطاقمه الدرامي الخاص.
وبالحديث عن بعض أبرز هذه الأعمال يتصدر المشهد أمامنا فيلم Schindler's List – 1993 – Steven Spielberg، وهو التحفة التي لا يجرؤ ناقد أن يمسها، والذي حاز على 7 جوائز أوسكار، وصُنِّف كأحد أعظم الأفلام في التاريخ، لكن دعونا نعيد فتح الحديث حوله لا لنستخفّ به كمنتج فنّي، بل لنحلل ما الذي فعله؟ لقد قدم هذا العمل شخصية «أوسكار شندلر» الألماني كبطل أخلاقي أنقذ مئات اليهود، وحوّل الهولوكوست من حدث جماعي إلى فيلم نجاة فردي، وبذكاء فني هائل أعاد صياغة العلاقة بين الألم اليهودي والرحمة المسيحية، لترسيخ الحلف الأخلاقي بين الغرب واليهود.
وبالتساؤل عن كيف انحرف طرح هذا العمل؟ سنجد أنه لم يذكر شيئًا عن البروتوكولات الصهيونية أثناء الحرب، ولم يناقش تخاذل أو صمت المنظمات الصهيونية التي كانت تفضل موت يهود الشتات كي يكونوا وقودًا للمشروع الإسرائيلي، كما تجاهل أفكار المؤرخين الجدد مثل إسرائيل شاحاك ونورمان فنكلستاين الذين فضحوا تلك المرحلة. وماذا كانت النتيجة؟ جريمة مروّعة، لكن السينما استخدمتها كذريعة مسبقة لجرائم قادمة.
The Pianist – 2002 – Roman Polanski الفيلم الذي يدهشنا فنيّا كلما شاهدناه مرة أخرى، إنه الأكثر حساسية والأعظم تماسكًا دراميًّا والأكثر إبهارًا صوتًا وصورة، إنه عمل آخر يستنزف المشاهد إنسانيًا، لكنه يفعل شيئًا أكثر دقة، فهو يصور الهولوكوست من الداخل البولندي ليظهرها بوصفها عارًا أوروبيًا جماعيًا، ويقدّم اليهود كضحايا لا يقاتلون بل يُذبحون بصمت، لترسيخ فكرة النقاء الأخلاقي مقابل الوحشية المطلقة.
ولكن الأخطر من ذلك كله، أنه بُني على مذكرات عازف حقيقي (فلاديسلاف شبيلمان)، الذي لم يكن صهيونيًا، لكنه قُدم على الشاشة وكأنه رمز لإسرائيل القادمة، إنّ ما فعلته السينما في هذا الفيلم هو استعادة الأموات وتحويلهم إلى مواد دعائية تروّج لمنتجها.
ثم توقف هنا عند فيلم Life is Beautiful – 1997 – Roberto Benigni هذه المرة، كوميديا درامية عن الهولوكوست، هل يُعقل هذا؟ نعم، بل وتم ذلك ببراعة مطلقة حين تم تقديم الأب وهو يخفي فظائع المعسكرات عن ابنه، فيتحول الجحيم إلى لعبة تبدو كأنها مزيج من الدموع والضحك والألم والموت، لكنها في النهاية ليست سوى عرض جميل للحياة اليهودية وهي تُسحق.
والمفارقة هنا ان الفيلم يعيد إنتاج معسكر الاعتقال كمساحة للعاطفة، ويغيّب تمامًا أي بعد سياسي، وكأنّ النّازية ظهرت من الفراغ، وحين ينتهي الفيلم، لا يخبرك أين ذهب الناجون، ولا كيف انتقلوا من وضعية الضحيّة إلى وضعيّة المحتل، وكأنه يقول لك فقط تعاطف وامض.
ووفقًا لبحث Rich Brownstein في Holocaust Cinema Complete، هناك ما يقارب 440 فيلمًا سرديًا تم إنتاجها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عن المحرقة، تتوزّع بين السينما والتلفزيون والفيديو المنزلي، ومعظم هذه الأعمال تركّز على الذبح والاضطهاد والمعاناة الإنسانية ونسج صورة الضحية، بينما عدد أقل منها يتطرق إلى التساؤلات حول ما بعد الأحداث؛ أثر الناجين، إعادة البناء، الهوية، والمخلفات المعنوية، حيث تمّ تغييب تلك اللحظات النقدية والتساؤلية مقارنة بحجم المعاناة الممثّلة على الشاشة.
كما لم يكن هناك فيلم واحد يسأل لماذا لم تحتج المنظمات اليهودية في أمريكا على إبادة يهود أوروبا مبكرًا؟ ولماذا فشلت الحركة الصهيونية في إنقاذهم قبل موتهم؟ وكيف استُثمرت جثث الهولوكوست في تأسيس الدولة اليهودية؟ السينما هنا لا تكذب فقط، بل تختار بعناية ما لا تقوله.
ثم إنّها وضعت المقدّس ضد أي نظير، فكل محاولة لمقارنة الهولوكوست بنكبات أخرى تُقابل بالرفض، سواء كانت النكبة الفلسطينية عام 1948، أو الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915، أو الإبادة في رواندا عام 1994، أو المجازر في البوسنة والهرسك في التسعينيات، أو الإبادات الجماعية خلال الاستعمار في الكونغو البلجيكية أو في رواندا/ بوروندي في القرن العشرين، أو حتى المذابح الجماعية في ميانمار ضد الروهينغا، جميعها تروي مآسي بشرية هائلة، لكنها لا تحظى بنفس القدر من التقديس الرمزي في الثقافة الغربية، ولا تدخل في خطاب المقدّس التاريخي بنفس الطريقة التي تُقدَّم بها المحرقة اليهودية، رغم حجم الألم والمعاناة وكمية الضحايا، والسينما الغربية بهذا المعنى لا ترى أن الهولوكوست أحد أسوأ الكوارث، بل تراه المرجعية الكارثية الوحيدة التي تُقاس عليها كل مآسي البشرية، وهو ما أطلق عليه المفكر الأمريكي Norman Finkelstein اسم صناعة الهولوكوست – The Holocaust Industry حيث يقول: «لقد تم تحويل الهولوكوست إلى تجارة، ومصدر ابتزاز، وسلاح أخلاقي لمنع أي نقد لإسرائيل». لكن هوليود لم تلتفت لهذه الآراء لأنها لا تُبكي أحدًا، بل تكشف الجميع.
خلاصة القول إن الهولوكوست حدث، لكنه تحول إلى سلطة، والسلطة لا تُسائَل، والسينما كانت الذراع الأكثر فاعلية في تحويل جريمة إلى شهادة براءة طويلة الأمد لكل جريمة لاحقة، وهو ما يجعلنا أمام أخطر استثمارغير بريء للآلام.
دولة بلا تاريخ تصنع لنفسها تاريخًا... بالكاميرا
إنه إعادة اختراع الماضي على يد الكاميرا، و حين يحل الخيال محل الأرشيف، فما الحاجة إلى الوثيقة؟ فالصورة هنا بالتأكيد ستكون أبلغ، ولماذا ننقب في الماضي إذا كانت السينما قادرة على خلق ماضٍ بديل أكثر إقناعًا. وهكذا تأسست إسرائيل أولًا كخيال سينمائي مقنع قبل أن تُغرس واقعًا داميًا في الجغرافيا، فلم تكن الدولة اليهودية بحاجة إلى سردية تاريخية متينة، بل إلى سردية مرئية قابلة للتصديق العاطفي، سردية يُعاد بثّها لا التحقق منها.
ومن هنا تبدأ واحدة من أخطر المهام التي باشرتها السينما الغربية، وهي أن تمنح كيانًا بلا جذور شرعيةً تاريخيةً من خلال اختراع ذاكرة، وأن تصوغ لأمة مختلَقة ماضٍ يُبكي، وأرضًا تستدعيها، ومصيرًا تستحقه، فلم تكن السينما فيما يخص الرواية اليهودية تنقل التاريخ، بل كانت تكتبه بأثر رجعي، فبينما المؤرخ يعمل على الأدلة، كان المخرج السينمائي دائما يعمل على الإيحاء، والعالم يؤمن بالثاني أكثر من إيمانه بالأول، وهكذا أصبحت الرواية الصهيونية للتاريخ رغم هشاشتها، أكثر ثباتًا في الوجدان العالمي من الروايات ذات الأسانيد، فما فعلته السينما هنا ليس إعادة سرد الوقائع بل إعادة تخليقها، كما يُخلق الكائن المعدل وراثيًا؛ محسّن عاطفيًا، جذّاب بصريًا، وغير قابل للفحص المخبري.
وبالحديث عن تأسيس الدولة اليهودية، فقد تم ذلك بالفيلم قبل الخرائط، ف Exodus – 1960 – Otto Preminger، لم يكن فيلمًا، بل مناورة جيوسياسية بملامح درامية، هذا الفيلم الذي لعب دورًا في إقناع الرأي العام الأميركي والأوروبي بعدالة الحق اليهودي في أرض بلا شعب، لم يكن كحكاية لبطولة فردية فحسب، بل أعمق من ذلك، فقد كان يؤرخ لبداية سردية الدولة، ويمنحها رخصة أخلاقية سينمائية، حيث لم يكن فيه البطل مجرد مقاتل يهودي، بل عرّاب التاريخ الحديث، الذي يعيد ترتيب الماضي وفق منظور المنتصر، وكان الفلسطيني غائب تمامًا من أحداثه، والوجود العربي مختزل في نماذج متخلفة أو عدوانية أو صامتة، كما أنّ الخطاب السينمائي فيه يتماهى مع الخطاب الديني، ليصبح التوسع الاستيطاني «عودة»، والاحتلال «تحررًا»، إنّ الخطورة في هذا الفيلم تكمن في تحويله للمشروع الصهيوني من حركة سياسية استعمارية إلى حركة تحرر وطني، وذلك كله تمّ فقط بإعادة توزيع اللقطات، وهنا تظهر عبقرية التزوير، بحيث تُظهر الغازي محررًا والمحتل منفيًا.
أمّا عن قَلب الأدوار بلغة السينما الأخلاقية، فقد ظهر ذلك ببراعة في Munich – 2005 – Steven Spielberg ، فلم يكن هذا الفيلم عن مجزرة ميونيخ، بل عن محاولة إعادة تدوير الأخلاق، حيث قام بتقديم فريق اغتيالات إسرائيلي كمجموعة ممزقة داخليًا تبحث عن معنى الانتقام، وكأنها ضحية حتى وهي تقتل، وأظهر الفلسطيني كتهديد ضبابي لا هوية له، بل مجرد ظل على هامش حوار داخلي إسرائيلي.
لقد حوّل هذا الفيلم الفعل الوحشي إلى تأمل وجودي، وصوّر القاتل كإنسان متعب يبحث عن السلام، دون أي ذكر للسياق التاريخي للاحتلال ولا لنكبة 1948، وكأن العالم بدأ حين طُعِن الإسرائيلي، لكنّ المفارقة كانت أنّه كلما اغتالت الحكومة الإسرائيلية شخصية فلسطينية حقيقية في الفيلم، تموت معها شخصية إعتبارية أخلاقية داخل البطل الإسرائيلي، وكأن الاغتيال لا يتم في شوارع بيروت أو أثينا، بل في أعماق الضمير اليهودي، وبذلك تصبح السينما هنا غرفة للاعتراف تساعد على تطهير خطايا القتل والتي بالأصل تظهرها مبررة، لكن لعظم نقاء وحضور الضمير لدى القتلة من الجنود الإسرائيليين تظهر هذه المفارقات.
ولأنّ السينما مرآة الواقع كما يرَوج لها فكان لابدّ من التطرّق لقضية النسويّة ودعمها، لتكون من أسس التمكين للمرأة في العالم، فقدمت لنا Golda – 2023 – Guy Nattiv هذا الفيلم الذي يجمّل صورة غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل خلال حرب أكتوبر، ويقدمها كامرأة محاصرة بالقرارات وضحية للذكورية السياسية، فيحيد تمامًا عن المجازر التي أشرفت عليها والمواقف العنصرية التي تبنتها.
إنه يقوم بتبييض رموز العنف عبر مظهرهن النسوي، فيصبح الحديث عن غولدا مائير حديثًا عن الإرهاق والصداع والسيجارة، لا عن السياسة والعنصرية والاحتلال، وهذه هي الأداة الأخطر للسينما؛ أن تُحوّل المجرم إلى إنسان مُنهك، وتغلّف الجريمة بجرعة من المعاناة الشخصية، فيذوب الحد الفاصل بين المجرم والضحية.
أمّا بالحديث عن السينما بوصفها جهاز دولة، فيظهر لنا أنّ أخطر ما أنتجته السينما الصهيونية – والغربية الداعمة – ليس الأفلام ذاتها، بل ما قبلها وما بعدها، فهي تختار القصص التي تُروى وتُنسى، وتفرض الخرائط الذهنية قبل الخرائط الجغرافية، وتُخضع الوجدان العالمي لرؤية واحدة، ثم تقول للعالم هذه هي الحقيقة، وبذلك تعمل كمؤرخ رسمي وقاضٍ أخلاقي ومشرّع سياسي بذات الوقت، فبينما يُحاكَم التاريخ الإنسان العربي على الشكوك، يُعطى الصهيوني تأشيرة دخول إلى الوعي العالمي فقط لأنه صُوّر بإضاءة جيدة.
كل ما سبق يؤكد أنّ إسرائيل وُلدت في ذاكرة العالم كقصة سينمائية قبل أن تكون واقعًا سياسيًا، وأنّ تاريخها لم يصمم بوقائع بل بمشاهد، ولم يتم تبرير جرائمها بالوثائق، بل بالموسيقى التصويرية، فإذا أردنا إعادة التاريخ إلى نصابه علينا أولًا أن نُخرج الكاميرا من غرفة كتابة التاريخ.
تغييب الفلسطيني من خلال الصمت السينمائي المتعمد، وجرائم الفن تحت شعار «الحياد»
هل الفلسطيني غير موجود في رواية هوليود والسينما الأوروبية لعجز الكاميرا عن الوصول إليه، أم هناك توجيه صريح بمحوه؟
عندما تُسجّل السينما التاريخ، يجب أن تُظهر كل الأطراف، لكن الفلسطيني على عكس اليهودي، غائب في معظم إنتاجات السينما الغربية والصهيونية، وهو ليس غيابًا عفويًا بل غيابًا مخططًا ومَحوًا منهجيًا استثنائيًا، فتغييبه ليس فقط إقصاءً من المشهد السينمائي، بل إلغاء لوجوده الحضاري والإنساني على الشاشة، ليصبح كما لو أنه شبح بلا تاريخ ولا معاناة ولا حق في مقاومة محتله.
وكل هذا تفعله السينما لصالح الضحية الحصرية، ففلسطين التي شهدت أكثر من نكبة على مدار قرن، وتعرضت لكل هذا التّدمير والفتك بالأرواح الذي وصل حدّ الإبادة الجماعية الآن، لم تُقدَم إلا نادرًا، وكان ذلك إمّا كخلفية أو جمهور صامت في مسرح الاحتلال، وفي أحسن الأحوال تم تقديمها كضحية مؤقتة في نصوص هزلية أو شبه وثائقية.
والمفارقة الأعظم والأكثر إثارة للدهشة هو كيف يُشاهد المحتل فيلمًا عن نفسه كضحية؟ في هذا المشهد السينمائي العبقري لشدة كذبه، أصبحت إسرائيل تُنتج أفلامًا تعيد تمثيل نفسها كضحية، تستغيث بالعالم، وتحول العدوان إلى دفاع أخلاقي، فداخل الكيان المحتل نفسه هناك استوديوهات تنتج أفلامًا تحمل عناوين واقعية، أو يذكر أنها عن أحداث حقيقية، لكنها في الحقيقة أدوات تزييف تجرّم الفلسطيني بشكل ممنهج، حيث يتم إعادة تمثيل الأبطال الصهاينة كضحايا مزعومين، وتصوير الفلسطيني كمتوحش ومتخلف لا يمتلك أخلاق الحرب، فهو دائما بدور الإرهابي بلا وجه، فتُسند إليه التهمة لتقديم تبرير القتل ضمن السياق، ويتم تجميل العمليات العسكرية وتحويلها إلى مهام إنسانية أو واجبات أخلاقية، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ ف Waltz with Bashir (2008)، وهو فيلم رسوم متحركة عن حرب لبنان، يحاول التخفيف من جرائم إسرائيل عبر تأملات نفسية، لكنه يتجاهل مجازر صيدا وصبرا وشاتيلا، ويغلق الباب على النقد المباشر. وLebanon (2009) الذي يركز على مشاعر الجنود الإسرائيليين في الحرب، ويغفل الألم الذي سببته إسرائيل للبنانيين والفلسطينيين، وOperation Finale (2018) وهو فيلم عن عملية اختطاف أدولف أيخمان، يقدَّم فيه الصهاينة كأبطال في مهمة إنسانية، بينما غابت أي إشارة للفلسطينيين تحت الاحتلال أو دورهم في سياق ما يحدث.
إنّ السينما الغربية بشكل عام لا تقدم الفلسطيني كشخصية كاملة، بل تختصره إلى صراع بلا هوية، أو إلى قاتل مجهول الدوافع، وإذا ما أظهرته كضحية - وهذا نادرا- يكون بشكل مشهد عابر، وهذا ما يسميه الباحثون الحياد الزائف – وهو حياد لا ينصف، بل يساهم في تبييض الجرائم ويخفف من وقع الحقيقة.
هذا الإخفاء والتجاهل الذي تتعرض له القضية الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال لعقود طويلة، يتجليان بوضوح عند استعراض النتاج السينمائي الغربي عن الشرق الأوسط، فوفقًا لدراسات نقدية واسعة مثل أعمال جاك شاهين في Reel Bad Arabs، يظهر العرب (والفلسطينيون ضمنهم ) في الغالبية الساحقة من الأفلام بوصفهم «آخر» خطِرًا، فهو إمّا إرهابيًا أو متمرّدًا أو مخربًا، بلا أي سرد إنساني متماسك، أمّا الأعمال القليلة التي حاولت الاقتراب من صورة الفلسطيني، فقد قدّمتها ضمن قوالب نمطية، أو ركّزت على التوترات والعداء بدلًا من كشف واقع الاحتلال والتهجير، وهكذا تحوّلت الشاشة إلى أداة لإنتاج حالة عدائية مبرمجة ضد الفلسطينيين بدلًا من أن تكون نافذة على مأساتهم.
إنّ السينما التي تتجنب الموقف وتتصنع الحياد في القضية الفلسطينية الصهيونية، تفعل أكثر مما يفعل السياسيون أو الإعلام، فهي تخلق حالة تضليل نفسي واسعة النطاق، وتمحو حقيقة الاحتلال وتجعل منها نزاعًا قديمًا بين طرفين متساويين، مشوهة بذلك حقائق التاريخ لتتماشى مع سردية الاحتلال لا مع الوقائع، وإن إغفال الفلسطيني على الشاشة هو قتل فني منظّم، ففي عالم الصورة الذي يُصنع فيه الوعي يعتبر الإقصاء جريمة أخلاقية قبل أن تكون سياسية، ومن يسيطر على الصورة يسيطر على الحقيقة، والفلسطيني لأنه بلا صورة حقيقية في الوعي العالمي فهو بلا حق في الوجود وبلا قضية تثير الرحمة، ولا أمل له في الانتصار حتى السياسي، والنتيجة؛ تجريد الفلسطيني من شرعية المقاومة، مما يمهد للمشاهد العالمي التعايش مع استمرارية الاحتلال، فالمنطق يقول أنه لا يمكن في عصرنا لأي مقاومة حقيقية أن تنجح، ما لم تُعطَ قضيتها فرصة للظهور البصري، كقضية إنسانية وسياسية وحقيقة لا يُشكك بها.
رأس المال اليهودي وصناعة السينما
في قلب صناعة السينما يكمن نظام مركزي ومعقد من العلاقات الاقتصادية والسياسية، التي لا تشكل فقط الإنتاج الفني، بل إنتاج الحقيقة والسرديات المعرفية التي تُبنى عليها الذاكرة الجماعية، وهنا لا يمكن فهم السينما بمعزل عن أطر الاقتصاد السياسي التي تحكم تدفق رؤوس الأموال، وتتحكم في خطوط الإنتاج ومآلات التوزيع الإعلامي، وفي سياقنا يشكل رأس المال اليهودي محورًا رئيسًا في صناعة السينما العالمية، ليس كمجرد فاعل اقتصادي، بل كقوة ثقافية سياسية تتحكم في أدوات إنتاج وتمثيل الواقع.
منذ نشأة هوليوود، كان العديد من مؤسسي استوديوهاتها الكلاسيكية مثل (Warner Bros, Paramount, Universal, MGM) من مهاجرين يهود من أوروبا الشرقية. وقد ساهم ذلك في تركيز نفوذهم الثقافي والاقتصادي داخل صناعة السينما الأمريكية منذ بدايات القرن العشرين.
ومع مرور الوقت لم تعد هوليوود مجرد فضاء فني، بل تحولت إلى إمبراطورية صناعية ضخمة قادرة على تجاوز حدود الفن نفسه والتأثير المباشر في تشكيل الوعي الجماهيري فقد رسّخت استوديوهات كبرى مثل Metro-Goldwyn-Mayer وWarner Bros مكانتها عبر إنتاج ضخم متواصل، مدعوم بشبكات علاقات استراتيجية مع مؤسسات سياسية أمريكية وأوروبية، ومن هنا بدأ توظيف السينما كوسيط ثقافي فعّال، ليس فقط في الترفيه أو بناء الخيال بل أيضًا في تثبيت مشروعية الرواية الصهيونية وإضفاء الشرعية السياسية عليها.
إنّ الهيمنة الاقتصادية على صناعة السينما ليست مجرد ضخ موارد، بل استراتيجية متعددة المستويات تشمل التمويل الانتقائي، والرقابة الذاتية المؤسسية، حيث يخضع السينمائيون لضغوط غير معلنة تحصر الإبداع ضمن سرديات معينة، كذلك التحكم بالتوزيع والترويج لضمان وصول الأفلام إلى أسواق عالمية واسعة، والتمويل والتوزيع هنا ليسا فقط أدوات اقتصادية، بل وسائل إنتاج سرديات متكاملة، تُكرّس تصورات محددة عن الصراع في الشرق الأوسط، خصوصًا القضية الفلسطينية، وتعمل على تحوير التاريخ وفرض سردية احتكارية تتماهى مع الخطاب الصهيوني، من خلال إنتاج صور نمطية تقوم على تشويه الفلسطيني وتبرير الاحتلال كاستجابة شرعية، وتشكيل ذاكرة بصرية لا تعترف بمقاومة الفلسطيني للاحتلال، أو تصنفه كفعل إرهابي، مؤكدة بذلك على تهميش صوت الفلسطينيين في صناعة صورة ذاتية لهم تتخطى الحدود الوطنية والثقافية، أو تتمكن من الانفتاح على العالم.
في النهاية؛ ما فعلته السينما لم يكن مجرد فن، بل هندسة للوعي وإعادة تشكيل للتاريخ وصناعة سرديات يختفي خلفها الواقع. لقد صنعت حكاية وأخفت أخرى، وأبقت العالم أسير المشهد لا الحقيقة، ففي حين يُختزل التاريخ في لقطة، ويُختطف الضمير عبر الشاشة، يصبح الظلم قابلاً للتصديق، والغياب أعمق من الحضور.
والصور التي نراها على الشاشة لم تعد مجرد انعكاس للواقع، بل أداة لتوجيه المشاعر وإعادة صياغة المفاهيم، لتتحكم في ما يُنظر إليه على أنه صحيح أو مشروع، وما يُمحى أو يُنسى وكأنه خطأ وتزييف، وهكذا تتحوّل القوة الحقيقية للسينما إلى أداة لإعادة كتابة التاريخ، فيُحكم على الواقع عبر العدسة، ويُمنح التأثير الأكبر لمن يحسن توظيف الصورة لا من يمتلك الحقيقة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.