الأطروحة الصهيونية الأولي يمكن وصفها بالكلاسيكية، ليس فقط لأنها تعود الي مؤتمر »بال«عام 1897 بل الي ما قبل هذا التاريخ، وبالتحديد في سعيها الي مقاومة الاندماج بعد الثورة الفرنسية، لأن اقانيم تلك الثورة التي بشّرت بالمساواة تتيح ليهود العالم ان يندمجوا في السياقات التاريخية والجغرافية والثقافية التي ولدوا فيها، ومن أسس تلك الاطروحة ان فلسطين أرض بلا شعب، وان لليهود حقا تاريخيا في فلسطين يعود الي ما قبل ألفي عام، ولأن هذه الاطروحة باتت معروفة خصوصا في بعدها الأسطوري فقد تعرّضت لنقد شديد بدءا من المقولة الشهيرة لكارل ماركس وهي »ان اليهود عاشوا بفضل التاريخ وليس رغما عنه«حتي الكتابات الاوروبية المعاصرة ومنها ما كلف صاحبه غاليا كما حدث للأب بيير وجارودي في فرنسا، فهي اطروحة مضادة للتاريخ، ورهينة فلسفة غيبية تصنّف البشر الي يهود وآخرين او جوييم، لكن الاطروحة الثانية التي لم تصل بعد الي حدّ يبرر تسميتها بالمضادة فهي ظاهرة المؤرخين اليهود الجدد . في مرحلة ما بعد الصهيونية، وهذه الظاهرة بدأت تلفت الانتباه في ثمانينيات القرن الماضي وإن كانت رسالة جامعية لشاب يهودي في جامعة حيفا هو ثيودور كاتز الذي كشف عن مجزرة »الطنطورة«قد اصبحت المثال الساطع لهذا الاتجاه، فما ان تقدم هذا الشاب برسالته عام 2000 حتي اثار استنكار اتباع الصهيونية التقليدية، وفي مقدمتهم «الاسكندرون «الذين مارسوا جريمة الطنطورة، لكن كل محاولات الصدّ لاجهاض هذا التوجه لم تفلح في منع صدور مؤلفات تعتبر بعدة مقاييس انقلابية بالنسبة لتاريخ الصهيونية، ومنها كتب بيني موريس الذي تعرّض لضغوط أضعفت ارادته، لكن الكاتبين ايلان بابيه وشلومو ساند مضيا بعزيمة نحو المزيد من الكشف عن المسكوت عنه منذ بدأت مرحلة الأسرلة، فأصدر ايلان بابيه كتابه الصادم لساسة الدولة العبرية وجنرالاتها وحاخاماتها ايضا بعنوان «الفلسطينيون المنسيون «، وقد كان بابيه في السادسة من عمره عام 1948 ويحتفظ في ذاكرته ببعض المشاهد التي حسمت انحيازه للضحية فهو مؤيد لحق العودة، ولحقّ المقاومة ما دام الاحتلال قائما، وثمة من يرون انه بمقارباته الراديكالية يذكّرنا بنعوم تشومسكي الذي أخذ علي عاتقه افتضاح الاحتلال اضافة الي نقده اللاذع للولايات المتحدة رغم ان تشومسكي في الاساس عالم لغة ، وقد تحدث بابيه مطولا في كتابه الضخم عن الحكم العسكري في اسرائيل وعن تضييق الخناق علي الفلسطينيين في المناطق التي احتلت عام 1948، وقبل كتابة هذا المقال بأيام قليلة كنت في حوار مع الصديق د . احمد الطيبي عضو الكنيست ورئيس الحركة العربية للتغيير، وسمعت منه وهو الشاهد من الداخل ما دفعني الي الاعتقاد بأن بابيه رغم كل ما قاله لم يقل الحقيقة كلها، ليس لقصور لديه فهو اكاديمي بارز في جامعة اكستر البريطانية بل لأن اهل فلسطين هم الأدري بتلك الشعاب . والمؤرخ اليهودي الآخر الذي يثير الآن سجالا واسعا في اوساط يهودية بسبب ما يطرحه ويعتبر بمقياس الصهيونية التقليدية عقوقا قوميا وتخطيا للخط الأحمر هو شلومو ساند ، واكثر ما كتبه إثارة للسجال هو »اختراع الشعب اليهودي«، وهو ايضا كتاب ضخم يقع في اربعمائة صفحة مكرّسة بكل فصولها لدحض ما يسميه خرافة الشعب اليهودي، فلم يكن في التاريخ ذات يوم مثل هذا التعريف علي ارض الواقع، ويري ان اسرائيل منذ تأسيسها عام 1948 تعيش كإثنوقراطيا ليبرالية، وبقاء الاسس المركزية الاثنية للدولة يشكل عائقا امام تطورها، وينتهي الي القول بأن الاساطير التي وجّهت بناء الدولة القومية يمكن ان تسهم مستقبلا في تقويضها، إنها اذن مفارقة تاريخية بامتياز بحيث يكون سبب التكوين في مرحلة ما هو سبب الهدم والتقويض في مرحلة اخري، وقد اختار شلومو ساند لكتابه اسلوبا غير تقليدي فقال رغم انه توثيق تاريخي وليس خياليا فإن بدايته ستكون مجموعة قصص مستوحاة من الذاكرة، ومن تلك القصص ما رواه عن الشاعر الراحل محمود درويش بعد كتابة قصيدته »جندي يحلم بالزنابق البيضاء«وهي عن مجنّد يهودي يشعر بالضيق والاختناق من المهمة القذرة الملقاة علي عاتقه، ولا يريد ان يقضي عمره كله كسائر ابناء جيله من اليهود في دولة هي في حقيقتها ثكنة، حيث لا حق لهم في الحياة الحرة الدافئة والعلاقات الانسانية البريئة وكذلك الحب ! في كتاب شلومو ساند تمهد حكايات ذات مغزي تاريخي عميق لمقاربة انثروبولوجية يقرأ من خلالها وجود اليهود في التاريخ والشغف في ابتكار وقائع هي من محض المخيلة، ولأن التفكير الرغائبي ينكر الواقع الموضوعي فإن ما يفعله هو اسقاطات وافرازات لكبت مزمن خصوصا فيما يتعلق بالبعد القومي لنشوء امة او دولة . واذا كان عنوان شلومو ساند صادما وهو اختراع الشعب اليهودي، فإن ما كتبه المؤرخ اليهودي فتكنشتاين تحت عنوان »صناعة الهولوكوست«كان وقعه اشد وصدمته اكبر بالنسبة لثقافة تغذّت علي الهولوكوست، وحاولت ان تنسج »الناراتيف«او ما نسميه في اللغة العربية السرديّة الوطنية منه . ومن عباراته الشهيرة هي ان دموع احفاد الهولوكوست هي دموع تماسيح لهذا تعرّض هذا المؤرخ الي ردود افعال عنيفة في الأوساط الصهيونية لكنه نجاحتي الآن علي الأقل مما لحق بالبروفسور الفرنسي فريسون الذي كان اول من نبش ملف الهولوكوست واخضعه لقراءة علمية خالصة . ولا يمكن لقارئ هذه المحاولات التي تحتشد في اطروحة مضادة للصهيونية التقليدية بمعزل عمّا يكتب في اسرائيل من أدب، سواء تعلق بالشعر او القصة او الرواية، فالخطان يتقاطعان عند عدة محاور منها ادانة الاحتلال والانحياز للضحية واصرار الصهيونية التقليدية علي السباحة ضد التاريخ . وقد تكون قصص ميشيل مزراحي القصيرة جدا نموذجا لهذا كله، ومنها مثلا ان اليهودي بدأ يعرف الفلسطيني من عينيه اليهوديتين، والكتاب الذي اصدره شلومو رايخ في باريس بعنوان »يوميات يهودي«ساخط ذهب الي ما هو أبعد وكان كتابه بمجمله بمثابة اعتذار عن جرائم لم يقترفها لكنها ارتكبت باسمه . إن هذه الظاهرة تتنامي رغم كل المصدات وهي علي وشك استكمال شرطها المعرفي لتصبح أطروحة مضادة بامتياز ! لمزيد من مقالات خيرى منصور