إذا صح ما يقال بأن لكل كتاب قصة، فإن للمقالات ايضا قصصها، وقصة هذا المقال، بدأت ذات ضحى قاهري، قبل بضعة اعوام، عندما كنت مع الصديقين ايمن الصياد وغسان طهبوب فى زيارة للأستاذ محمد حسنين هيكل بمكتبه. وحدث فى ذلك اليوم ان «ابراهام بورغ» الذى شغل مناصب رفيعة فى اسرائيل، كان قد اصدر تصريحات صادمة، منها ان اسرائيل تأسست على اطلال شعب آخر، مما دفع الحاخامات ومنهم «عوفاديا يوسف» الى اصدار فتوى تحرمه من الدفن فى ارض الميعاد. لهذا غيرت تصريحات «بورغ» مسار الحديث بيننا وكان لابد ان نتوقف عنده، على حساب اسئلة اخرى كنت احملها للأستاذ هيكل، الذى اثار انتباهه قولى إننى كعربى لم أعد أشعر بالاطمئنان كلما قرأت أو سمعت تصريحات ليهود ضد الصهيونية وخارج السرب. وبالفعل دفعنى موقف «بورغ» الذى عاد ليغير بعض مواقفه الى قراءة «شاحاك» ولانغر» و»أفنيري» و»غروسمان» واخرين. هؤلاء بالطبع مبادرون لإنقاذ اليهود من الكمين الصهيوني، وجديرون بالرصد والإنصاف السياسى والاخلاقى لأن منهم من دفع الثمن مثل «اسرائيل شاحاك» والمخرجة السينمائية فيليسيا لانغر التى كرست كتابا بعنوان «رأيت بأم عيني» لتوثيق جرائم الاحتلال وانتهاكاته. لكن ما قلته للأستاذ هيكل هو بإختصار قلقى من افراز الصهيونية لنقيضها من داخلها بحيث ينوب هؤلاء عن الضحية بمرور الوقت، وبالتالى يطرد العربى من التاريخ اضافة الى الجغرافيا، والتاريخ لا منفى له ولا خيام ولا وكالة غوث، ان منفاه هو العدم، وكان للأستاذ هيكل رأى آخر رغم تحفظه الى حدّ ما على ما يصدر من كتاب يهود ضد المشروع الصهيوني. منذ ذلك الوقت بدأت اشعر بأن القراءات العربية لهذه الظاهرة انتقائية بل رغائبية واتضح ذلك على نحو مباشر فى الترجمات التى تقدمها الصحف العربية عن الصحافة الإسرائيلية، بحيث لم تقدم بانوراما لكل الاطياف بقدر ما تختار ما يلائم القارئ العربى الذى يتعامل بشغف مع كتابات يهودية مضادة للصهيونية، وذلك من طبيعة سيكولوجيا المغلوب الذى يتشبث حتى بحبال من ورق. وقد تكون عبارة اطلقها «شلومو رايخ» المفتاح النموذجى لهذه الظاهرة، قال ان اسرائيل ستظل تقفز من نصر الى نصر بإتجاه هزيمتها، فإلى اية رؤية وأى حاسوب سياسى ذكى احتكم «رايخ» ليجد ان حاصل جمع الانتصارات قد يؤدى الى هزيمة، وبالمقابل فإن حاصل جمع الهزائم قد ينتهى الى انتصار!. هذا المنطق هو ما يثير الهلع لدى الصهيونية فى مرحلتها الثانية، لأن مقياس النصر ليس عسكريا فقط، ففى الصراع بكل انماطه ومنه الصراع العربى الإسرائيلي، ثمة حيثيات شديدة التعقيد، جيوسياسية وديموجرافية، اضافة الى تعلق هذا الصراع بموازين القوة الدولية. وقد اصدر «فتكلشتاين»وهو من خارج السرب ايضا كتابا ينذر فيه اسرائيل بأن الولاياتالمتحدة ليست حليفا ابديا، وان هناك من يهمسون الان بأن اسرائيل بدأت تتحول الى عبء اخلاقى اضافة الى الاعباء التقليدية المعروفة، حتى اللوبى اليهودى فى امريكا بدأ يتململ من هذا العبء، ذلك لأن امريكا لا تعانى مما يسمى «الذاكرة الآثمة» إزاء اليهود، لأنها كانت خارج مدار الإضطهاد النازي، بل القوة التى انحازت الى اوروبا ضد التمدد النازى وبالتحديد فى فرنسا اثناء الاحتلال فى اربعينات القرن الماضي. وهذه مناسبة للإعتراف بفضل رواد من المفكرين العرب الذين جازفوا برصد هذه الظاهرة فى زمن كان الفصل فيه بين اليهودية والصهيونية محظورا لدى اغلبية العرب، وما قدمه غسان كنفانى ود. عبدالوهاب المسيرى وابراهيم البحراوى وغيرهم، كان تأسيسا منهجيا لقراءة هذه الظاهرة الملتبسة. والملاحظ بقوة ان عدد اليهود الذين خرجوا عن السرب تضاعف فى الأعوام الأخيرة وكانت اطروحة الشاب الذى اكتشف فيها مذبحة الطنطورة نقطة تحول فيما يسمى مرحلة المؤرخين الجديد، وفى الاعوام الاخيرة صدرت عدة كتب ليهود عزفوا على الوتر ذاته، وبعكس المعزوفات الصهيونية المتكررة منهم «ايلان بابيه» صاحب كتاب «الفلسطينيون المنسيون»، و»أفى شلايم» الذى اصدر كتابا عن الجدار الحديدى او عزلة اسرائيل. والحكاية قدر تعلقها بتطور هذا الصراع وافرازاته التى تخطت السياسى الى الثقافى والاجتماعي، وأبعد من النوم فى العسل أو الخلّ، وحين تتصاعد وتيرة الدعوة الى «يهودية الدولة» يأتى الرد من داخل اليهود انفسهم، فيكتب «أبراهام بورغ» مؤخرا ان الدولة الثيوقراطية التى يريدها السياسى اليمينى والحاخام والجنرال والمؤدلج، ليست هى حلم اليهود. والتعامل العربى فى اغلبه مع هذا التطور الدرامانيكى لصراع مزمن لا تلوح له نهاية، ولا يزال مضطربا، فمراكز الأبحاث المتخصصة فى هذا الشأن محدودة، وتأثيرها محدود، فى اطار نخبوى وأكاديمي، وحين تعالج قضايا بهذا التعقيد، بأساليب تقليدية وانفعالية، فإن الخسارة تصبح مزدوجة، لأن من لا يعى الآخر ويجهله، قد يجهل نفسه ايضا، وبالتالى يصبح الصراع دونكوشيتيا، لا علاقة له بالواقع ومتغيراته العاصفة والمتسارعة. وهنا اذا كان لابد من مثال فهو ما كتبه «ألن غريش» وهو يهودى من أصل مصرى عن «برنارد ليفي» الصهيونى المتطرف تحت قناع فلسفى وأكاديمي، فكيف يمكن تصنيف «غريش» الى جوار «ليفي» فى خانة يهودية واحدة، وكان «غريش» قد افتضح تحت عنوان طريف هو «برنارد ليفي» الذى تنقل خلال السنوات الثلاث الماضية، بين عدة اطلال فى عواصم عربية مهندسا وراعيا لما سمى «الفوضى الخلاقة». هنا تجدر الاشارة الى ان الراحل احمد بهاء الدين الذى كان من اوائل الذين كتبوا فى «الإسرائيليات»، وأول من كتب عن رواية «طوبى للخائفين» ل»يانيل دايان» إبنة الجنرال «موشى دايان» والتى كتبت مذكراتها كمجندة فى الحرب خلال احتلال سيناء، فهى تقول ان التربية الاسبارطية لأطفال اليهود والتى تستهدف نزع الخوف من داخلهم، تنتهى الى عكس الهدف، فالخوف يتحول الى فوبيا. ان اليهود سواء كانوا من المثقفين او الناشطين الذين حلقوا خارج السرب، وحاولوا الهديل بدلا من النعيق، ينبغى لنا كعرب ان نقرأهم باهتمام، فهم رغم الإحتراز من كونهم ينوبون عن الضحية فى الإدانة والذين يقدمون وثائق بالغة الأهمية بسبب بعدها الوجدانى عن مذابح وانتهاكات، منها مذبحة قانا فى لبنان، وبحر البقر فى مصر، اضافة الى فضيحة قتل الأسرى المصريين. أما الدعوة الى القراءة الحذرة لهؤلاء فهى قد تكون مبررة منهجيا، لأن ما بين السطور يستحق التأمل ايضا، لهذا كان المترجمون العرب لنصوص عبرية قادمة من اسرائيل، يقدمون لترجماتهم باحتراز وخشية من سوء التأويل. والموقف الرسمى فى اسرائيل من هؤلاء هو محاولة التهميش، ونزع الثقة، وهذا ما ترويه زوجة «اسحق دوتشير» عن زوجها الذى ألف الكتاب الشهير بعنوان «اليهودى اللايهودي، والذى تعرض فيه لسؤال الهوية كما تطرحه الفلسفة الصهيونية، فتقول انه عندما التقى «بن غوريون» رفض هذا الأخير مصافحته. والمفارقة اننا نشهد فى هذه الأيام يهودا ضد الصهيونية مقابل يمينيين متطرفين فى الغرب ذوى نزعة صهيونية بالغة الغلّو. لهذا تتطلب الظاهرة فك اشتباك وتبديد التباس مزمن بين اليهودي.. والصهيوني. لمزيد من مقالات خيرى منصور