لم تعلم أنها تُزف إلى رجل لا تعرفه، مقابل تسوية دين، أو عقد عمل لشقيقها، أو مبلغ يكفي أسرتها للنجاة من الجوع لشهور، ترتدي الفتاة فستان الزفاف، وتُدفع إلى المجهول في صفقة لا تختلف كثيرًا عن بيع سلعة، إلا أن السلعة هذه المرة هي روحها ومستقبلها، «زواج الصفقة» ظاهرة تتسلل بصمت في قرى ومدن مصر، تحت عباءة الشرع، لكنها في جوهرها أقرب لتجارة البشر منها إلى الزواج.» ففي الوقت الذي يُفترض فيه أن يكون الزواج مؤسسة قائمة على المودة والرحمة، ظهر في بعض المجتمعات نمط زواج تحركه المصلحة لا المشاعر، ويُستخدم كغطاء لصفقات تقترب كثيرًا من مفهوم «الإتجار بالبشر»، وهو ما كشفته دراسة حديثة صادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية سلّطت الضوء على ما يسمى ب»زواج الصفقة»، والذي يشمل أنماطًا متعددة مثل زواج القاصرات، الزواج الموسمي، وزواج المصلحة، معتبرة إياه صورة من صور الاستغلال الجسدي للفتيات. والآن الى تفاصيل الدراسة. تهدف الدراسة إلى تحليل وتحقيق فهم أعمق لظاهرة زواج الصفقة باعتبارها واحدة من الصور المستحدثة لجرائم الإتجار بالبشر في المجتمع المصري، تركّز الدراسة على ما يحدث في مناطق معينة داخل البلاد، حيث تنتشر الظاهرة تحت شعارات مموّهة من العادات والتقاليد والفقر، وحتى أحيانًا تحت غطاء ديني أو شرعي وبعض فتاوى السلفية. كما تكشف الدراسة عن ظاهرة معقدة ومتشابكة، لا تُحل فقط بالقوانين، بل تحتاج إلى تغيير ثقافي واجتماعي عميق، فهل يمكن اعتبار الفتاة مسئولة عن قرار لم تتخذه؟، وهل يمكن الاستمرار في الصمت تجاه جرائم تُرتكب باسم «الستر والزواج»؟ وهل حان الوقت لربط الزواج في مصر بفحوص نفسية واقتصادية واجتماعية إلزامية قبل عقد القِران؟ زواج الصفقة ليس حالة فردية بل جرس إنذار. جاءت أهمية الدراسة أيضا كما وردت في تقرير المركز حيث يتزايد هذا الشكل من الزواج في ظل الجهل، ويكون ضحيته في الغالب فتاة دون 18 عامًا، غير مؤهلة عاطفيًا أو نفسيًا لتحمل مسئوليات الزواج، يشمل الزواج في هذه الحالات زواج أطفال، وهو مجرّم قانونيًا. قد ينتج عنه أيضا طفل لا يتحمل أحد مسئوليته، مما يعرضه للحرمان من حقوقه في التعليم والعلاج والجنسية. يصعب مواجهة الظاهرة نظرًا لتكرارها واستمرارها في بعض البيئات المحلية. تعريف زواج الصفقة كما ورد في الدراسة بأنه: «زواج يتم بموجب اتفاق مصلحي، يُبرم بين طرفين غالبًا أسرة الفتاة وأسرة الرجل أو أحد الوسطاء ويهدف لتحقيق مكسب مادي أو معنوي مباشر، بغض النظر عن أهلية الفتاة، أو رغبتها، أو القواعد القانونية المنظمة للعلاقات الزوجية. وتكشف الدراسة أن لهذا الزواج أنماط مختلفة ضحاياها في الأغلب من القاصرات اللاتي يتزوجن من أثرياء عرب مقابل مبالغ مالية كبيرة، وغالبًا ما يكون زواج قصير الأجل. وأحيانًا يكون الزواج مقابل تسوية ديون أو مشكلات عائلية، نمط آخر منه وهو زواج الشنطة: حيث يتم الزواج في جلسة واحدة داخل قرى نائية، بحضور مأذون، وينصرف العريس بالفتاة في نفس اليوم. الأسباب أسباب الظاهرة كما حللتها الدراسة حيث حددت الأسباب في 3 مستويات متشابكة، أولها المستوى الاقتصادي، ويشمل الفقر وانعدام مصادر الدخل، النظرة للفتاة ك «عبء مادي» يجب التخلص منه.، أما المستوى الثاني فيكون باستخدام المهر كمصدر تمويل للأسرة، وأخيرًا «المستوى الثقافي والاجتماعي». ويعتمد علي العادات التي تعتبر زواج البنت المبكر «ستر» مع غياب الوعي القانوني. وتشير الدراسة الى دور الوسطاء والسماسرة، والذين غالبًا ما يكونون من داخل القرية أو الجيران أو حتى الأقارب. «المستوى النفسي» حيث تقبّل الضحية (الفتاة) لهذا النوع من الزواج، أحيانًا بسبب غسيل الدماغ المجتمعي والإحساس بانعدام القيمة الذاتية. سماسرة العرائس كما رصدت الدراسة دور ما يُعرف ب»السمسار المحلي»، الذي قد يكون مأذونًا، أو محاميًا، أو حتى امرأة من نساء القرية ذات شبكة علاقات، ويتقاضى نسبة من «المهر»، في مقابل التوفيق بين العريس والأسرة. بعض هؤلاء الوسطاء يتنقلون بين القرى بحثًا عن «فتيات صغيرات جميلات»، ويمكنهم تنظيم عقود زواج صوري لغير المصريين. مظاهر الإتجار بالبشر داخل الزواج؛ حيث أشارت الدراسة إلى أن هذا النوع من الزواج غالبًا ما يكون قصير المدة لا يُسجل رسميًا، ويعتمد على وثائق «عرفية» غير موثقة يتم خلاله نقل الفتاة من مكان لآخر (أحيانًا خارج مصر) ينتهي باستغلال جسدي أو معنوي، وأحيانًا يُعاد بيع الفتاة. وهنا ترى الدراسة أن عناصر الإتجار بالبشر، كما حددها القانون، متوافرة. رغم وجود قانون مكافحة الإتجار بالبشر رقم 64 لسنة 2010، إلا أن الدراسة تؤكد وجود ثغرات تطبيقية، منها، ضعف الإبلاغ عن هذه الجرائم، صعوبة إثبات النية التجارية للزواج، غياب وعي المجني عليهن بحقوقهن القانونية، تقاعس بعض الجهات في التعامل مع هذه الحالات باعتبارها «شأن عائلي». الفيوم تتصدر كشفت دراسة لوحدة الإتجار بالبشر في المجلس القومي للطفولة والأمومة؛ أن نسب انتشار الظاهرة وصلت في محافظة الفيوم إلى 33.9% في المجموع، وخصوصًا في مركز يوسف الصديق (46.4%)، بينما انخفضت إلى 23.9% في مركز طامية . أما في محافظاتالقاهرةوالجيزة والشرقية، أجرى المجلس القومي للمرأة دراسة تحليلية لكشف أبعاد الظاهرة، وجدت الدراسة انتشارًا ملحوظًا، كما حددت المناطق الأكثر تضررًا مثل المنيل ومصر القديمة، وفي الجيزة مناطق البدرشين والحوامدية، وغيرها . اكانت الأسباب التي دفعت لانتشار مثل هذه الزيجات هي الفقر والبطالة الأبرز وفق الدراسات، حيث بلغت نسبتها نحو 73.2% كما تشير دراسات أخرى إلى أن النظرة التقليدية إلى المرأة، الأمية، الفساد، وغياب الحماية القانونية، بالإضافة إلى فتاوى السلفيين التي تسهّل الظاهرة، كلها عوامل مركزية . أبعاد قانونية أشارت الدراسة أن القانون رقم 64 لسنة 2010 لمكافحة الاتجار بالبشر يعتبر زواج الصفقة جريمة يعاقب عليها، ومعاقبة تشمل الأب، السمسار، أو المأذون، لكن الضحية نفسها لا تُعاقب. وفي مؤتمرات جنيف، مثلت القاضية أمل عمار أن مصر تسعى لتعزيز التشريعات من خلال تأكيد السن القانوني للزواج ب 18 عامًا وفرض عقوبات واضحة على كل من يشارك في زواج الأطفال . أما عن الإشكاليات الناتجة عن زواج الصفقة عرضتها الدراسة، أولا الاشكاليات القانونية صعوبة إثبات الجريمة بسبب غطاء الزواج الشرعي، إشكاليات اقتصادية، يحث يُستخدم الزواج كوسيلة لسداد ديون أو تحقيق منافع مادية، خلافًا عن الإشكاليات الاجتماعية والثقافية، حيث أن الفقر والجهل والعادات تمثل بيئة خصبة لاستمرار الظاهرة كذلك بعض المعتقدات الدينية أو الثقافية قد تُستخدم لتبرير هذه الزيجات. توصيات قدمت الدراسة أيضًا توصيات مقترحة ومنها تغليظ العقوبات على المتورطين في زواج القاصرات، والتحقق من صحة وثائق الزواج خاصة في المناطق المعروفة بهذه الزيجات بالإضافة الى التوعية المجتمعية بآثار هذه الزيجات، خاصة من خلال المدارس والدراما والإعلام. تمكين الفتيات اقتصاديا وتعليميًا للحد من تعرضهن للاستغلال. وأخيرا أكدت الدراسة على أن زواج الصفقة ليس فقط انتهاكًا لحقوق المرأة والطفل، بل هو جريمة مغطاة بستار شرعي، تستدعي تكاتفًا من الدولة والمجتمع والمؤسسات الدينية والتربوية من أجل القضاء عليها ما بين القانون، والتوعية، وتمكين الضحايا، يجب أن نتحرك جميعًا لإغلاق هذا الباب الذي يُستخدم للاتجار بالبشر تحت اسم الزواج. اقرأ أيضا: عصابات الإتجار بالبشر| كشافون لاستدراج الضحايا واحتجازهم بشقق سكنية