محمد إسماعيل قبل سنوات قليلة كانت أغاني المهرجانات تتصدر المشهد الغنائي في مصر وتغزو المقاهي والحفلات والمواصلات العامة، حتى أصبحت ظاهرة فنية واجتماعية متكاملة تمثل صوت الشارع ولغته، كانت الأغنية الشعبية الجديدة رمزا للتمرد وتعبيرا عن جيل يبحث عن أغان تعبر عنه.. لكن اليوم ومع إعلان المطرب عمر كمال وحودة بندق أحد أبرز نجوم هذا التيار عن اتجاههما إلى لون غنائي آخر وهو موسيقي البوب وهو مختلف تماما عن أغانى المهرجانات، وهو ما يفتح باب الجدل حول مستقبل هذا اللون.. هل انتهى زمن المهرجانات؟ ولماذا تراجع بريقها بعد سنوات من الصعود الصاروخي؟ في هذا التحقيق طرحت "أخبار النجوم" تساؤلاتها على عدد من النقاد الموسيقيين للوقوف على أسباب التراجع، وتأثيراته المحتملة على الوسط الغنائي، وما إذا كانت الظاهرة قد استهلكت نفسها، أم أن ما يحدث هو مجرد بداية لمرحلة جديدة أكثر نضجا؟ في البداية يرى الناقد الموسيقي أمجد جمال أن تراجع أغاني المهرجانات أمر طبيعي ومتوقع لأنها ظاهرة احترقت نتيجة الإفراط في التكرار وغياب التطوير، فالمهرجانات بدأت كتعبير عفوي وصادق عن واقع الناس في الأحياء الشعبية، لكنها مع الوقت تحولت إلى صناعة تجارية هدفها الربح السريع ففقدت روحها الأولى، فالأغنية التي كانت مرآة للشارع أصبحت سلعة والمطرب الذي كان يعبر بصدق عن طبقته أصبح أسيرا للسوق. ويضيف أن الجمهور الذي انجذب في البداية إلى جرأة المهرجانات وإيقاعها المختلف ثم بدأ يشعر بالملل بعد أن أصبحت معظم الأغاني متشابهة في اللحن والكلمة والأداء، فكل أغنية تشبه الأخرى تقريبا، نفس الإيقاعات الإلكترونية السريعة ونفس الموضوعات السطحية حتى المفردات تكررت إلى درجة فقدت معناها، فالجمهور لم يعد يشعر بالدهشة، والدهشة هي ما تصنع النجاح. ويشير أمجد إلى أن قرار عمر كمال بالتحول إلى لون غنائي آخر يعكس وعيا فنيا ونضجا شخصيا أكثر مما هو انسحاب من الساحة، فهو أدرك ببساطة أن السوق تغير وأن الناس بدأت تميل مجددا إلى الكلمة المحترمة واللحن المتقن بعد فترة من الضجيج الصوتي الذي فقد هدفه. ويرى أن المهرجانات لن تختفي تماما لكنها فقدت موقعها في مقدمة المشهد فستظل موجودة كتنويع شعبي له جمهوره لكنها لم تعد قادرة على قيادة الذوق العام كما فعلت قبل خمس سنوات. أما الناقد الموسيقي عبد الرحمن طاحون فيرى أن أسباب التراجع لا يمكن قراءتها بعيدا عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها المجتمع المصري في السنوات الأخيرة، فالمهرجانات ازدهرت في فترة كانت فيها الطبقة الوسطى في حالة ارتباك والمجتمع يبحث عن متنفس فوجد في هذا اللون الشعبي الصاخب وسيلة للتعبير والاحتجاج غير المباشر لكن مع تغير المناخ الاجتماعي وعودة بعض أشكال الانضباط، لم تعد الأغنية نفسها تعبّر عن روح اللحظة. ويضيف طاحون أن المهرجانات لم تكن مجرد لون موسيقي بل حالة اجتماعية ارتبطت بعالم السوشيال ميديا ومفهوم الشهرة السريعة حينها، كان يكفي أن تصدر أغنية بكلمات مثيرة وإيقاع راقص لتصبح ترند، أما اليوم فالجمهور أكثر وعيا والناس بدأت تميز بين الأغنية التي تسمع مرة من باب الفضول والأغنية التي تبقى في الوجدان. ويشير طاحون إلى أن القيود النقابية التي فرضت على عدد من مطربي المهرجانات ثم تراجع الحفلات العامة بعد فترة الازدهار ساهما في إضعاف انتشار هذا اللون، فحين تقل فرص الغناء المباشر وتغيب المساحات الإعلامية يفقد هذا النوع بريقه لأنه قائم بالأساس على الاحتكاك بالجمهور. كما يرى طاحون أن التحول في منظومة الإنتاج لعب دورا مهما، فبعد أن كانت الأغنية تنتج من خلال ورشة فنية تضم الشاعر والملحن والمطرب أصبحت المهرجانات تنتج بشكل فردي وسريع، فأغلب مطربي المهرجانات يعملون بشكل مستقل يصنعون الأغنية في استوديو منزلي ويرفعونها مباشرة على المنصات، لا توجد مراجعة فنية ولا جهة إنتاج تضع معايير للجودة وبالتالي تنتشر الأغاني الضعيفة أكثر من القوية. ويؤكد طاحون أن قرار عمر كمال بالتحول إلى لون غنائي أكثر تقليدية هو انعكاس لمتغيرات السوق وليس خيانة للنوع الذي بدأ منه، فهو يدرك أن الجمهور تغير وأن النجومية في هذا العصر لا تبنى فقط على الجدل بل على الاستمرارية، وهذا ما لن تحققه المهرجانات بصورتها الحالية. أما الناقد محمد شميس فينظر إلى الأمر من زاوية ثقافية أوسع معتبرا أن المهرجانات لم تستطع التطور مع جمهورها، فكانت النتيجة أن الجمهور تجاوزها، فجيل المهرجانات الأول كان في العشرينات من عمره حين ظهرت، والآن هو في الثلاثينات فهذا الجيل نفسه تغير، أصبح أكثر نضجا واستقرارا بينما ظلت المهرجانات تدور في نفس الفلك، لهجة الشارع، موضوعات الصداقة، الخيانة والمشاجرة نفس المفردات والأداء ففقدت قدرتها على تمثيل هذا الجيل. ويضيف شميس أن صعود ألوان موسيقية جديدة مثل الراب والبوب والموسيقى المستقلة (الإندي) استحوذ على مساحة كانت في السابق حكرا على المهرجانات، فالراب يقدم تعبيرا أكثر عمقا وصدقا عن الواقع دون أن يتخلى عن الطاقة الشعبية، أما الإندي فيخاطب فئة تبحث عن التجديد والهوية وهو ما لم تفعله المهرجانات. ويرى شميس أن التراجع الحالي لا يعني نهاية أغاني المهرجانات، بل هو بداية لإعادة تشكيله في صورة أكثر احترافية، فربما نشهد بعد سنوات مهرجانات بمفردات راقية وتوزيع موسيقي متطور.. هذا النوع لن يختفي لكنه سيتطور كما تطورت الأغنية الشعبية القديمة على يد أحمد عدوية مثلا، فالفرق أن التطور هذه المرة سيكون ضرورة للبقاء. ويؤكد شميس أن الجمهور هو العامل الحاسم في كل تحول فني، فحين يتغير الذوق يتغير كل شيء، فالناس لم تعد تريد الضجيج بل الإحساس الحقيقي حتى لو كان بسيطا، ولذلك فهي مرحلة انتقالية في الغناء المصري وأن انحسار المهرجانات سيفتح المجال أمام ألوان أخرى لتستعيد حضورها. ويستطرد شميس إن أحد الأسباب الرئيسية أيضا وراء تراجع المهرجانات هو فقدانها للهوية الفنية التي تميزها في بدايتها، ففي البداية كان هناك مشروع واضح حتى وإن لم يكن معلن وهو تقديم صوت جديد للشارع المصري بموسيقاه الخاصة وكلماته البسيطة، لكن مع الوقت ضاعت هذه الملامح وسط التقليد الأعمى والبحث عن الترند، فتحولت المهرجانات إلى مجرد شكل موسيقي بلا مضمون، مؤكدا أن جزءا من الأزمة يتعلق بما يسميه السطحية الجمالية، أي غياب الرؤية الفنية عند الجيل الجديد من صناع المهرجانات، فالكثير من المطربين الجدد لا يهتمون ببناء أغنية متكاملة بقدر اهتمامهم بلقطة فيديو تنتشر على تيك توك أو عبارة ساخرة تصبح ترندا، فالموسيقى أصبحت وسيلة للدعاية لا غاية فنية. يشير شميس إلى أن السوق الفني المصري لم يمهد بيئة تساعد هذا اللون على التطور الطبيعي، فلم يكن هناك منتجون أو نقاد متخصصون يأخذون المهرجانات بجدية، ولذلك ظهرت العشوائية، فلو وجدت إدارة واعية وفهمت روح هذا الفن لكان تطور في اتجاه إيجابي بدلا من الانحدار الذي نراه الآن، فالفن لا يعيش بالصدفة بل بالتخطيط، والمهرجانات افتقدت التوجيه ولهذا تراجعت. اقرأ أيضا: احتفاء بالأغنية الشعبية.. فاطمة عيد ضيفة شرف مهرجان قنا للفنون والحرف التراثية