سجلت فى أجندتى الخاصة ذكرى رحيله فى 11 نوفمبر 2004، فى هذا اليوم بكيته مثلما بكته الملايين، وعندى ثقة بأنه لم يمت قهراً من الحصار الصهيونى لمقره فى رام الله لمدة عامين كاملين، لأنه مناضل صلب ومناور لا يتم كسره أو هزيمة إرادته المقاتلة بالسلاح وغصن الزيتون، تدهورت صحته فى الأشهر الأخيرة من 2004، دخل فى غيبوبة ونقل لمستشفى « بيرسي» العسكرى بباريس التى أسلم فيها الروح عن عمر يناهز 75 عاماً، دون أن نعرف السبب الحقيقى للوفاة التى لخصها الأطباء بتليف فى الكبد !! 21 عاماً مرت أول أمس - الثلاثاء - على غياب الزعيم ياسر عرفات الذى يكنى بأبى عمار ويلقب بالختيار المولود بالقاهرة فى 4 أغسطس 1929 باسمه الحقيقى محمد عبد الرءوف عرفات القدوة الحسينى، والمساحة لا تتحمل سرد حياته ونضاله بالبندقية وغصن الزيتون. وتعود بى الذاكرة لشهر أغسطس 1988 عندما شرفت بلقاء معه بمقر إقامته فى بغداد، كنت ضمن الوفد المصرى المرافق لعرض «واقدساه»، وعرض «القضية 88» وكلاهما من تأليف الصديق يسرى الجندى، والأول كان باكورة إنتاج اتحاد الفنانين العرب الذى أسسه سعد الدين وهبة عام 1986 للمشاركة به فى مهرجان بغداد فى ظل توترات بين مصر وصدام حسين الذى قاد الدول العربية لمقاطعة مصر التى استمرت 10 سنوات عقب توقيع الرئيس السادات لاتفاقية «كامب دافيد»!! اعتذرت للكاتب سعد الدين وهبة عن الدعوة التى وجهها لى لمرافقة العرض لموقف حدث قبلها بعام عندما رافقت عرض «ابن البلد» الذى عرض فى نفس المهرجان، وتم تدبير حشد من نقاد العراق ودول عربية أخرى فى ندوة العرض لشن هجوم حاد وغير مبرر على مصر والرئيس السادات الذى لم يكن له أى موقع فى العرض، وامتص د. سمير سرحان رئيس الوفد المصرى الغضب الذى فى صدورنا عندما وصل الأمر لأشتباكات لفظية كادت تنتهى بما لا يحمد عقباه، لكن صديقى الفنان غسان مطر أحد أبطال «واقدساه» طمأننى بأن العرض مقام برعاية الزعيم ياسر عرفات، وأخبرنى أنه سوف يلتقى بنا على الغداء بمقر إقامته، وكان من المقرر أن تعرض «واقدساه» لليلة واحدة، لكن الإقبال جعل العرض يمتد لثلاث ليالٍ، خاصة وأنه يجمع محمود ياسين وفاطمة التابعى وخليل مرسى وتوفيق عبد الحميد من «مصر»، بالعراقى عزيز خيون، والكويتى محمد المنصور، والسودانى على مهدى، والفلسطينى غسان مطر، واللبنانى زياد مكوك، والبحرينى إبراهيم بحر، ويقود كل هؤلاء النجوم العرب المخرج التونسى المنصف السويسى، وللأسف حالت مشاغل ياسر عرفات عن مشاهدة «واقدساه»، وفى اليوم التالى حملنا الباص لمقر إقامته فى بغداد، استقبل سعد وهبه ومحمود يس بالقبلات والأحضان، واستقبل كلاً منا بنفس الأحضان والقبلات، مائدة الغداء كانت عامرة بالمنسف الفلسطينى الذى ادعى الكيان الصهيونى بأنها أكلة إسرائيلية، وقال ياسر عرفات ضاحكا: «إنهم لصوص، يسرقون الأرض والكحل من العين، يسرقوا اكلاتنا وفنونا وموسيقانا الشعبية وينسبونها لأنفسهم لأنهم أتوا غزاة من الشتات وليسوا على ثقافة واحدة، وهم فقراء جداً فى الإبداع، سرقوا أغانى أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وفريد الأطرش وفيروز ووضعوا على ألحانها كلمات عبرية! كان الزعيم ياسر عرفات يتكلم بحديث سلس منمق وجذاب، يكشف عن شخصية مثقفة واعية بالتاريخ ولديه سعة اطلاع، فقال ضمن كلامه إنه مصرى الهوى، درس الهندسة بالقاهرة، وتطوع للمشاركة مع الفدائيين لصد العدوان الثلاثى عام 1956، وبعد انتهاء الغداء أتت أكواب الشاى بأعواد النعناع وفتح أبو عمار أطراف الحوار عاتبا بمرارة عن خيبة رأس المال العربى فى مقابل ملايين الدولارات التى تنفقها الماسونية والصهيونية العالمية فى أعمال فنية لتشويه الإنسان العربى وتقديمه للرأى العام الغربى فى صور نمطية توحى بأنه همجى متخلف، جاهل يحترف القتل ومدمر للحضارة الإنسانية، ويشكل خطراً على أمريكا والغرب والإنسانية كلها، ويتم التركيز أكثرعلى شخصية الفلسطينى وتحقر من نضاله المشروع لاسترداد أرضها واستعادة حقوقه المشروعة، وأثنى أبا عمار على فكرة تأسيس اتحاد الفنانين العرب ككيان يستطيع أن يقدم أعمالاً فنية مشتركة لخدمة القضايا العربية، وقال : «ونحن فى منظمة التحرير على استعداد لدعمها فى حدود إمكانياتنا المحدودة، ونطلب من الأشقاء فى وزارات الثقافة والإعلام تدعيمها، ونطالب الجامعة العربية بأن يكون لها دور، لأن الصورة المرئية تغيير اتجاهات الغرب المتحيز للاحتلال، اتحادنا على كلمة واحدة وهدف واحد سوف يخدم قضايانا المشتركة، والظروف التى نمر بها تتطلب من المثقفات العربيات نفس الوعى الذى تحلت به السيدة هدى شعراوى التى كان لها دور رائد فى ثورة 1919، فهى من قالت «فلسطين ليست أرضاً بلا شعب حتى تصبح وطناً لشعب بلا أرض». وقال الزعيم الفلسطينى وهو يربت على كتف الفنان محمود يس : « أتذكر أنى شاهدت لك عام 1970 رائعة «النار والزيتون» التى كتبها الفريد فرج من معايشته للفدائيين الفلسطينيين فى غور الأردن، وكتب أشعارها محمود درويش، وأنا قرأت نصوصاً كثيرة كتبها أحمد على باكثير تنصف الحق الفلسطينى وأتمنى أن يعاد تقديمها فى كل العواصم العربية، ومنها مسرحيات «شيلوك الجديد - شعب الله المختار - إله إسرائيل»، فعقب محمود يس قائلاً «أنا شخصياً جاهز ومستعد لتقديم كل هذه الأعمال فى كل بلاد العالم لنصرة الحق العربى وبدون أجر، ودخل على الخط سعد الدين وهبة مؤكداً أن اتحاد الفنانين العرب سوف يدرس إعادة تقديم هذه الأعمال مثلما أنتج «واقدساه»، واقترح الزعيم ياسر عرفات تصوير هذه الأعمال بترجمات باللغة الفرنسية والانجليزية لكى تصل للمتفرج الغربى والأمريكى، وفى اليوم التالى ذهب ياسر عرفات لمشاهدة عرض «القضية 88» وفى نهاية الجزء الأول مال عليه حارسه الشخصى وهمس فى أذنه بكلمات نهض على أثرها معتذراً لسعد الدين وهبة ووزير الثقافة العراقى لأنه مضطر للانصراف لمقابلة هامة، ورحم الله الزعيم ياسر عرفات رمز الصمود والنضال الذى حاول الاحتلال الإسرائيلى اغتياله أكثر من مرة وبأكثر من أسلوب، ووصل الإجرام بقصف مقره فى تونس بست طائرات إسرائيلية وكتب الله له النجاة، مثلما كتب له النجاة فى لبنانوالأردن، وحاصرته دبابات العدو فى مقر الرئاسة الفلسطينى وخرج من الحصار للعلاج فى فرنسا التى لقى بها ربه وأصابع الاتهام تتشكك فى أسباب وفاته.