في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي أسس الكاتب الكبير سعد الدين وهبة اتحاد الفنانين العرب وتبوأ رئاسته، وقرر أن يبدأ أول انتاج مسرحي للاتحاد بعرض مسرحي يجتمع فيه أكبر كم من الفنانين العرب، وقرر أيضا أن يكون أول إنتاج مسرحي للاتحاد يدور حول قضية محورية ومركزية لكل العرب، فكان الاتفاق علي أن مدينة القدس الشريف هي الرمز العربي لقضية فلسطين بوجه عام، فتم تكليف الكاتب المسرحي الكبير يسري الجندي بكتابة النص في أول تعاون بين اتحاد الفنانين العرب مع الدائرة الثقافية بمنظمة التحرير، وانتهي يسري الجندي من كتابة المسرحية الدرامية الوثائقية . »واقدساه» في فترة وجيزة، وأسند إخراجها للمخرج التونسي الراحل الكبير المنصف السويسي، واختير لبطولتها 25 ممثلا من 10 دول عربية، يتقدمهم النجم الكبير محمود يس، وفاطمة التابعي، وتوفيق عبد الحميد،وعبد العزيز مخيون، ويوسف إسماعيل، مصطفي طلبة، خليل مرسي، خالد الذهبي، أحمد فؤاد سليم »من مصر»، إلي جانب محمد المنصور »الكويت»، ابراهيم بحر »البحرين»، علي مهدي »السودان»، مني واصف »سوريا»، عبد الإله السناني »السعودية»، عزيز خيون »العراق»، غسان مطر وحسن ابو حسنة وابراهيم بعلوشة »فلسطين»، وتضمنت المسرحية أشعارا لمحمود درويش وسميح القاسم وخيري منصور، لحنها الموسيقار علي سعد، ودعم الفنان فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق المسرحية بعرضها علي خشبة المسرح القومي فحققت نجاحا جماهيريا لا بأس به، وقام فاروق حسني بتكريم كل ابطال العرض في ختام لياليها بالقاهرة. وبدأ الراحل سعد وهبة في التخطيط لعرض المسرحية في كافة العواصم العربية لتقديم أول إنتاج مسرحي عربي يؤسس عليه لإنتاج عروض اخري لكنها كانت للأسف الشديد اول وآخر تجربة، الرحلة بدأت بالمشاركة في مهرجان بغداد المسرحي عام 1988، ورافق العرض وفد إعلامي بعضه مختار من ادارة مهرجان بغداد، وبعضه الآخر مدعو من اتحاد الفنانين العرب، وكنت من بين هؤلاء مع الأساتذة الكبار: حسن عبد الرسول وصلاح درويش ود. عبد المنعم سعد وآخرين، وجاء الرئيس ياسر عرفات لمشاهدة المسرحية في مسرح مفتوح لكنه غادر المسرح في منتصف العرض عندما تم استدعاؤه لأمر هام علمنا فيما بعد ان الاستدعاء كان من الرئيس العراقي صدام حسين. في ظهيرة اليوم التالي للعرض اصطحبنا الفنان غسان مطر لمقر إقامة الرئيس ياسر عرفات الذي وجدناه يستقبلنا علي مدخل باب مقر الاقامة بالأحضان والقبلات، وتناولنا معه غداء فلسطينيا صرفا، وبعد انتهاء الغداء تحدث أبو عمار مبديا إعجابه بالجزء الذي شاهده من العرض، معتذرا لانصرافه لأمر هام جدا، وتطرق الحوار معه حول آخر مستجدات الموقف في الأراضي المحتلة والغطرسة الاسرائيلية والدعم الامريكي المطلق للكيان الإسرائيلي، وأذكر أن الرئيس ياسر عرفات لام كثيرا علي اجهزة الإعلام العربية التي تملك المال والانتشار لكنها لا تقدم الكثير تجاه القضية الفلسطينية بينما تعمل الآلة الصهيونية في أمريكا وأوروبا ومناطق كثيرة من العالم علي جلب التعاطف مع الحق اليهودي المزيف في فلسطين، وتصف في نفس الوقت الفلسطينيين الذين يقاومون الاحتلال بأنهم إرهابيون ! وقال الرئيس ياسر عرفات أنه يدرك تماما قوة المسرح في المقاومة والمواجهة، وأكد ان دائرة الثقافة في منظمة التحرير وفرت كل الإمكانيات للفنانين الفلسطينيين في الداخل والخارج لتجسيد القضية الفلسطينية بكافة اللغات وتقديمها داخل الاراضي المحتلة وخارجها، لكن اسرائيل تطارد هؤلاء الفنانين في الداخل وتلغي العروض بالقوة، وتطارد الفنانين الفلسطينيين في أوروبا لكي لا يقيموا عروضهم المسرحية في أي قاعات بالتواطؤ مع اللوبي اليهودي المؤثر في تلك الدول. وقال أيضا أنه يناشد كل وزارات الثقافة في الدول العربية بأن توجه فرقها المسرحية لتناول القضية الفلسطينية، وقضية »القدس» التي يعمل الكيان الصهيوني علي تهويدها وتغيير ملامحها بالكامل، خاصة أن الفرق المسرحية المصرية والعربية تستطيع تقديم هذه العروض في أوروبا ومهرجانات كثيرة في العالم دون أن تجد نفس المضايقة والحصار المفروضين علي الفرق الفلسطينية، وقال إنه كلف الفنان غسان مطر بأن يكون حلقة الوصل بين الدائر الثقافية بمنظمة التحرير وكل الفرق المسرحية العربية. لقد استشعرت في هذا اللقاء الكثير من الوجع والألم الذي يتحدث به الرئيس ياسر عرفات حول عدم إدراكنا للقوة الناعمة ودور الفنون في تحريك المشاعر التي تنافس الحجر، وقال يومها: »صدقوني.. نحن أقوي بالحق والإيمان ولو اردنا أن نصل للعالم كله بفنونا وقضيتنا سوف نصل.. المهم ان يكون هناك إرادة». بقي أن أقول ان مسرحية »واقدساه» كانت كصرخة استغاثة غير مكتومة في الصدور، مصحوبة ببكائية ونحيب علي ما آلت إليه أوضاع المدينة المقدسة من احتلال وسيطرة وتهويد بقوة الآلة العسكرية الصهيونية، المسرحية استدعت من التاريخ عصر صلاح الدين الأيوبي وتحريره لبيت المقدس، ومزجت بين الماضي والحاضر، مؤكدة علي التخطيط المحكم الممنهج الذي تقوم به دولة الاحتلال لهدم الإقصي وإعادة الهيكل المزعوم، ولكي يتسني لها ذلك فلابد ان تقوم بتهويد المدينة بالكامل وضمها لإسرائيل كعاصمة ابدية لها. المسرحية كانت تستصرخ الضمير العربي والعالمي لكي لا تسقط القدس التي تنادينا جميعا فنلبي النداء »واقدساه»، لكن العجز والمؤامرات ظلت تلاحق الجسد العربي بالتمزيق والتفتيت والصراع والتناحر، ليأتي ترامب بعد بعد اكثر من ربع قرن ليمنح القدس عاصمة لإسرائيل !