التنظيم يخطف الأنظار ودهشة الزوّار تروى الحكاية فى مشهدٍ استثنائى تتقاطع فيه الأصالة مع الحداثة، استقبل المتحف المصرى الكبير صباح اليوم موجات جديدة من الزوّار المصريين والأجانب، فى ثانى أيام افتتاحه للجمهور، ليبدأ أول اختبار فعلى لأكبر صرح حضارى وثقافى فى العالم، بعد عقود من الانتظار والتحضير. منذ اللحظة الأولى لفتح البوابات، بدا التنظيم على درجة عالية من الانضباط؛ طوابير مرتبة أمام نقاط التفتيش، ومسارات واضحة تقود الزائر إلى البهو العظيم، حيث يقف تمثال الملك رمسيس الثانى فى وقارٍ مهيب تحت قبّة الضوء الطبيعية التى تخترق الواجهة الزجاجية العملاقة. وعلى وقع أنغام الموسيقى التراثية التى تبثها مكبرات الصوت فى الممرات، وقف الزائرون فى دهشة أمام عظمة المشهد، تتعالى أصوات الإعجاب بلغاتٍ متعددة، وتختلط ابتسامات الأطفال بعيون الشغف لدى كبار السن، وكأن الجميع يعيش لحظة ميلاد جديد للحضارة المصرية. من داخل ساحة الدخول الرئيسية وحتى قاعات العرض المفتوحة، يلمس الزائر حالة من الجاهزية الكاملة فى الخدمات والتسهيلات، بدءًا من اللافتات التعريفية والإرشادية الموزعة بعناية، وحتى طاقم المرشدين والمتطوعين المنتشرين لتقديم المساعدة. وتبرز تجربة الدليل الصوتى التى أطلقها المتحف أمس كإحدى الخدمات المبتكرة التى بهرت الزوّار إذ تتيح لهم التجول بحرية مع شرح تفاعلى بعدة لغات عن المعروضات وقصصها التاريخية. يقول أحد الزائرين من إسبانيا: «شعرت كأننى داخل قصة فرعونية حقيقية، كل قطعة هنا تنطق بالتاريخ، والمكان منظم بشكل مدهش». أما الزائرة المصرية مها عبد الرحمن، فتشير إلى أنها قررت زيارة المتحف فى اليوم الثانى تحديدًا لتتجنب الزحام، لكنها فوجئت بالإقبال الكبير، مؤكدة أن «كل شىء محسوب بدقة، حتى أماكن الراحة ودورات المياه والخدمات». لقاء الزمان بالمكان فى جولة داخل البهو العظيم والسلالم الكبرى، بدا المشهد أقرب إلى لوحة حية تجمع ملوك مصر القديمة بزوّار القرن الحادى والعشرين. تتراص التماثيل الضخمة فى تناسق بصرى مدروس، بينما تنساب الإضاءة لتكشف عن ملامح الآلهة والملوك والنقوش فى سحرٍ خاص.. عدد من المرشدين كانوا يشرحون تفاصيل القطع المعروضة، فيما حرص موظفو المتحف على توجيه الزائرين إلى المناطق المسموح بدخولها فى المرحلة الأولى، فى إشارة إلى أن الافتتاح الكامل لجميع القاعات ما زال تدريجيًا وفق خطة العرض المتحفى الشامل.. يؤكد محمد محمود أحد المرشدين الشباب ل «الأخبار» أن الإقبال فى اليوم الثانى فاق التوقعات، موضحًا أن معظم الزوّار يبدأون جولتهم بالبهو العظيم ثم ينتقلون إلى قاعة المقتنيات الملكية، وأن أكثر ما يلفت الانتباه هو تفاعل الأطفال وأسئلتهم الذكية حول حياة الفراعنة. وأضاف أن «المتحف يقدم تجربة حسية وثقافية متكاملة، فكل ركن فيه مدروس بعناية ليروى قصة مصر من منظور معاصر». فى الساحة الخلفية، استقبلت الكافيتريات والمطاعم زوّارًا يبحثون عن لحظات راحة وسط الأجواء المبهرة، بينما جذب متجر الهدايا الرسمى الأنظار بمنتجات تحمل الطابع الفرعونى بروح حديثة، من التماثيل المصغّرة إلى النماذج النادرة للمجوهرات الملكية. ويظهر بوضوح اهتمام إدارة المتحف بتوفير خدمات شاملة لذوى الهمم، من ممرات مخصصة للكراسى المتحركة إلى شاشات تفاعلية مزودة بلغة الإشارة.. على صعيد الإجراءات الأمنية، تواجدت عناصر شرطة السياحة والآثار بشكل منظم عند نقاط الدخول والخروج، مع تيسير حركة الحافلات السياحية ووسائل النقل التى تنقل الزائرين من المواقف الخارجية إلى بوابات المتحف. الزائر فى قلب الصورة ورغم ضخامة المبنى، إلا أن روح المكان تبقى إنسانية الطابع، فى أحد الممرات، تجلس أسرة مصرية صغيرة تلتقط صورة تذكارية أمام تمثال «حتشبسوت»، بينما يقف شاب من اليابان يحاول نطق اسم الملك «توت عنخ آمون» بطريقة صحيحة.. وفى مشهد آخر، تلتف مجموعة من طلاب المدارس حول مرشدة شابة تشرح لهم كيف كان المصرى القديم يكتب على ورق البردى، كل لقطة داخل المتحف تحكى أن الحلم تحقق، وأن الزائر أصبح بالفعل فى قلب الحضارة. وأكد عدد كبير من العاملين بشركات السياحية المنظمة للوفود المتواجدة أن فتح المتحف أمام الجمهور سيمثل نقطة تحول فى خريطة السياحة الثقافية، مشيرين إلى أن تزامن الافتتاح مع موسم الشتاء يعزز فرص جذب الوفود الأجنبية، و إن المتحف أصبح الوجهة الأولى للبرامج السياحية فى القاهرة، مضيفًا: «نعمل على تضمين زيارة المتحف فى كل البرامج الجديدة، لأنه ببساطة ليس مجرد مكان للعرض، بل تجربة حضارية متكاملة».. ومع اقتراب غروب الشمس، كان الزوّار ما يزالون يتجولون بين السلالم والردهات، يلتقطون الصور وسط خلفية الأهرام البعيدة. مشهد ختامى يلخص الحكاية كلها: مصر التى تحفظ تاريخها، تقدمه للعالم فى ثوب جديد يليق بعظمتها.