خبراء وإعلام عالمى: المتحف يعزز جهود استعادة القطع النادرة المُهربة مع افتتاح المتحف المصرى الكبير وتوسع صالاته لتعرض كنوز الحضارة المصرية القديمة فى مكان واحد قرب أهرامات الجيزة، كانت ولا تزال جهود الدولة المصرية لتجميع أكبر عدد ممكن من القطع الأثرية حول العالم، فيما يمكن وصفه ب «سباق لاستعادة التاريخ» قبل أن تُعرض تلك القطع على أرضها أمام جمهور محلى ودولي.. ولكى تروى القصة كاملة، وحتى لا تفقد حلقة من حلقات التاريخ .. كانت مصر علي موعد مع الملحمة التى لا تقتصر على نقل حجارة أو تابوتٍ إلى قاعة عرض، بل هى عملية قانونية ودبلوماسية طويلة الأمد تجمع بين البحث الأثري، التحرى الجنائي، العمل الدبلوماسي، والإطار القانونى الدولي. فى السنوات الأخيرة شهدت القاهرة استرجاع دفعات متعددة من المعروضات من دول عدة، وهو ما يعطى افتتاح المتحف الكبير بعدًا رمزيًا وسياسيًا وثقافيًا.. فى هذا التحقيق، ترصد «الأخبار» جهود الدولة فى استعادة تراثها، وتستعرض آراء المتخصصين حول ما تحقق وما يجب أن يُستكمل من خطواتٍ حتى تعود كل قطعة أثرية إلى موطنها الأصلى. كواليس عودة أكثر من 30 ألف قطعة فى 10 سنوات نكشف جزءًا من جهود استعادة أكبر قدر ممكن من هذه القطع التى تمثل جزءًا أصيلًا من هوية الوطن وتاريخه الممتد لآلاف السنين.. فوفق بيانات رسمية، تمكنت مصر من استعادة أكثر من 30 ألف قطعة أثرية منذ عام 2014 وحتى 2024، فى واحدة من أضخم عمليات الاسترداد فى تاريخها الحديث. وتستند هذه الجهود إلى اتفاقية «اليونسكو» لعام 1970 المنظمة لاسترداد الممتلكات الثقافية المسروقة، إلى جانب قوانين محلية وإجراءاتٍ دبلوماسية دقيقة تشارك فيها وزارات السياحة والآثار والخارجية والعدل. وتحمل كل قطعة عادت إلى القاهرة سطورًا من التاريخ والجهد؛ من الجزء العلوى لتمثال استُعيد من بلجيكا عام 2013، إلى مشكاتين من الزجاج عادتا من إنجلترا والإمارات عام 2016، ثم غطاء تابوت ذهبى للكاهن «نجم عنخ» اسُترد من الولاياتالمتحدة عام 2019، وصولًا إلى «التابوت الأخضر» الذى عاد فى ديسمبر 2022، ورأس تمثال الملك رمسيس الثانى من سويسرا وغيرها الكثير ، ولذا فإن إضافة قطع مُستردة إلى مقتنيات المتحف لا تعنى فقط زيادة عدد القطع؛ بل تعيد بناء سردٍ تاريخى موحّد على أرض مصر، مما يعزز قيمة العرض المتحفى ويزيد من جذب السياح والباحثين، ويُحَسّن موقف مصر فى مفاوضات مستقبلية حول قطع كبيرة مثل: حجر رشيد أو رأس تمثال نفرتيتى.. فهو يعطى دفعة رمزية وسياسية لهذه الجهود، إذ يُعرض نتيجة سنوات من المطالبات والعمل القانونى والدبلوماسي. قصص نجاح وهو ما أكده د.عبد الرحيم ريحان عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة ورئيس حملة الدفاع عن الحضارة المصرية، أن افتتاح المتحف المصرى الكبير فى نوفمبر 2025 يمثل حدثًا عالميًا يعيد تقديم الحضارة المصرية للعالم فى أبهى صورها، ويؤكد أن مصر استعادت جزءًا كبيرًا من كنوزها التى نُهبت عبر العقود، بعد نجاحها فى استرداد أكثر من 30 ألف قطعة أثرية خلال الفترة من 2014 حتى 2024.. وأوضح ريحان أن اتفاقية «الويبو» لتسجيل حقوق الملكية الفكرية تجاهلت حقوق الشعوب فى تراثها الحضاري، مما سمح بعرض وبيع واستنساخ القطع المصرية فى الخارج دون مقابل، وهو ما يستوجب تحركًا قانونيًا دوليًا لإقرار حق الدول الأصلية فى عائدات تراثها. وأشار إلى أن من أبرز قصص النجاح فى ملف الاسترداد قصة التابوت الذهبى للكاهن «نجم عنخ» الذى تم تهريبه عام 2011 إلى الولاياتالمتحدة وبيعُه لمتحف المتروبوليتان فى نيويورك عام 2017، قبل أن تستعيده مصر فى سبتمبر 2019 بعد تحقيقات مُوسعة أثبتت تزوير مستندات خروجه. وأكد أن التابوت بطول مترين والمُغطى بالذهب الخالص يمثل قطعة استثنائية تجسد عبقرية المصرى القديم وإيمانه بالعالم الآخر، ويُعد استعادته نموذجًا لما يمكن أن تحققه الدبلوماسية الثقافية حين تتكاتف مع الجهود القانونية الدولية. وأوضح ريحان أن التحدى الأكبر فى الوقت الراهن يتمثل فى الآثار التى خرجت من مصر عبر الحفر خلسة أو دون توثيق رسمي، وهو ما يجعل إثبات ملكيتها معقدًا أمام المحاكم الأجنبية، مشددًا على ضرورة تعديل المادة الثامنة من قانون حماية الآثار لتصبح جميع الآثار المصرية أموالًا عامة لا يجوز التصرف فيها تحت أى ظرف، وبذلك يمكن لمصر المطالبة بها دوليًا وفق مبدأ الملكية العامة للدولة. رسالة للعالم وأشار د. محمد عبد المقصود رئيس قطاع الآثار المصرية الأسبق إلى أن المتحف المصرى الكبير لا يُعد مجرد مشروع حضارى ضخم، بل رسالة قوية للعالم بأن مصر دولة عظمى فى مجال حماية آثارها واستعادة ما خرج منها، مشيرًا إلى أن حملات ومطالبات كثيرة جرت على مدار عقود لاسترداد الآثار المصرية، لكنها لم تسفر كثيرًا إلا بعد اتباع الأساليب القانونية والدبلوماسية المُعترف بها دوليًا. وأضاف: أن من حق المصريين المطالبة بعودة آثارهم سواء التى خرجت قبل صدور قانون حماية الآثار عام 1970 أو بعده، مؤكدًا فى الوقت نفسه أهمية الحفاظ على الآثار الموجودة داخل مصر لأنها تمثل الثروة الحقيقية التى يجب حمايتها بكل الوسائل، إذ أن استرداد ما فُقد من الخارج يظل عملية شديدة الصعوبة. واختتم عبد المقصود تصريحاته مؤكدًا أن افتتاح المتحف المصرى الكبير يمثل ذروة هذا الجهد المتكامل، ويبعث برسالة إلى العالم كله أن مصر قادرة على حماية تراثها واستعادة ما فقدته، وأن حضارتها ما زالت تتحدث بأصوات أبنائها فى كل زمن. الوعى الأثري كما أكد أ. د. محمد أحمد عبد اللطيف أستاذ الآثار وعميد كلية السياحة والفنادق بجامعة المنصورة ومساعد وزير الآثار السابق أن عرض القطع المُستردة حديثًا فى المتحف المصرى الكبير يمثل رسالة واضحة للعالم بأن مصر لا تكتفى بعرض آثارها فى الخارج، بل تعتبر استردادها حقًا حضاريًا وتاريخيًا لا يمكن التنازل عنه، مشيرًا إلى أن اتفاقية اليونسكو لعام 1970 التى وقّعت عليها مصر تُعد مرجعية قانونية تدعم موقفها فى المطالبة بكل قطعة خرجت بطرق غير شرعية فى فترات سابقة. وأشار إلى أن أبرز المشكلات التى تواجه عمليات الاسترداد تتعلق بإثبات شهادة المنشأ وعمليات الحفر الخلسة التى كانت تتم فى بعض المناطق الأثرية، مؤكدًا ضرورة الإسراع فى توثيق جميع الآثار حتى تلك الموجودة فى المخازن أو المُستخرجة بمعرفة البعثات الأجنبية، حتى لا تضيع معالمها أو حقوق مصر فيها. نسيج تاريخي فيما أكد د. أحمد مصطفى الباحث فى مجال الآثار أن افتتاح المتحف المصرى الكبير يمثل حدثًا عالميًا استثنائيًا سيحضره أكثر من عشرين ممثلًا لدول مختلفة، مشيرًا إلى أن مصر اختارت التوقيت الأمثل لافتتاحه ليكون أفضل دعاية وتسويق لحضارتها وآثارها أمام العالم. وأوضح أن الدولة أولت خلال السنوات الأخيرة اهتمامًا غير مسبوق بملف الآثار واستردادها، خاصة بعد أن كانت عمليات تهريب القطع الأثرية تتم قبل صدور قانون حماية الآثار عام 1983، وهو ما جعل بعض الكنوز المصرية تخرج فى ظروفٍ غير قانونية أو بدون توثيق كافٍ. وأضاف أن المتحف المصرى الكبير لن يكون مجرد صرح أثرى أو متحف للعرض، بل منصة عالمية لتسويق الهوية المصرية وتعزيز الوعى الدولى بقيمة التراث الإنسانى الذى خرج من أرض مصر إلى العالم. حجج قانونية وإلى الإطار القانونى حيث أكد الدكتور محمد محمود مهران أستاذ القانون الدولى العام وعضو الجمعيتين الأمريكية والأوروبية للقانون الدولى فى حوار خاص ل «الأخبار» أن مصر تمتلك حججاً قانونية دولية قوية لاسترداد آثارها المنهوبة حتى تلك التى خرجت قبل قانون حماية الآثار لسنة 1983 ، مشيراً إلى أن افتتاح المتحف المصرى الكبير يمثل فرصة تاريخية لتكثيف جهود الاسترداد. وحول القطع الأثرية التى خرجت قبل عام 1983 أوضح الدكتور مهران أن مصر يمكنها الاستناد لعدة حجج قانونية دولية قوية لاستردادها، تتمثل أولاً فى مبدأ السيادة الدائمة على الموارد الثقافية الذى يؤكد أن الآثار جزء لا يتجزأ من التراث الثقافى للشعوب ولا يمكن التصرف فيها بشكل يخالف مصلحة الدولة صاحبة السيادة. وحول فعالية اتفاقية اليونسكو 1970 أكد أنها تمثل الإطار القانونى الدولى الأساسى لمكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية لكنها ليست كافية وحدها، موضحاً أن أى اتفاقية لا تسرى بأثر رجعى ، لافتاً إلى أن الاتفاقية تتطلب تعاوناً فعالاً من الدول المستوردة وهو ما لا يتحقق دائماً خاصة من دول مثل: بريطانيا وألمانيا التى تمتلك متاحف كبرى تحوى آثاراً مصرية منهوبة، مؤكداً أن بعض الدول تضع عراقيل قانونية وإجرائية تُعقِد عملية الاسترداد. وحول الاتفاقيات الثنائية أكد أنها أكثر فعالية من الاتفاقيات الدولية العامة ، لأنها تكون مُصممة خصيصاً لتلبية احتياجات الدولتين، مشيداً بالاتفاقية الثنائية بين مصر والولاياتالمتحدة لعام 2016 التى أدت لاسترداد آلاف القطع الأثرية، وموضحاً أن الاتفاقيات الثنائية توفر آليات تنفيذية أوضح وأسرع وتلزم السلطات الجمركية والقضائية فى الدول المستوردة بالتعاون المباشر مع مصر، داعياً لتوسيع شبكة الاتفاقيات الثنائية لتشمل جميع الدول التى تستضيف آثاراً مصرية مهمة. وأضاف الدكتور مهران حجة قانونية بالغة الأهمية تتمثل فى اعتبار سرقة الآثار وإخفائها جريمة مستمرة وفقاً للقانون الدولى وليست جريمة وقتية، موضحاً أن الجريمة المستمرة هى تلك التى يستمر تنفيذها عبر الزمن طالما بقيت الآثار المسروقة خارج مصر وفى حيازة غير مشروعة، وبالتالى فإن الجريمة لا تنتهى بمجرد خروج القطعة الأثرية من مصر بل تظل قائمة ومستمرة. وأكد أن هذا المفهوم القانونى يتيح لمصر تطبيق القوانين والاتفاقيات الحديثة حتى على القطع التى خرجت قبل صدورها ، لأن الجريمة لا تزال مستمرة حتى اللحظة الراهنة، مشيراً إلى أن عدم وضوح التوقيت الدقيق لسرقة أو تهريب العديد من القطع الأثرية يعمل لصالح مصر ، حيث يمكن افتراض أن الجريمة مستمرة وبالتالى تنطبق عليها القوانين والاتفاقيات السارية حالياً. ويرى مهران أن افتتاح المتحف المصرى الكبير يجب أن يكون نقطة انطلاق لحملة دولية شاملة لاسترداد الآثار المصرية مؤكداً أن القانون الدولى يدعم الحق المصرى فى استعادة تراثه الثقافي. قوة ناعمة كما أكدت د. نهى بكر أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية أن جهود استرداد الآثار المصرية المُهربة تمثل أحد أبرز مظاهر القوة الناعمة المصرية وأداة فعالة من أدوات الدبلوماسية الثقافية الحديثة، مشيرة إلى أن كل قطعة أثرية تستعيدها مصر لا تُعد مجرد كنز مادى ، بل تعد جزءًا من رواية الهوية الوطنية ورسالة تؤكد رفض مصر التخلى عن تراثها الحضاري. وأوضحت بكر أن عملية الاسترداد فى حد ذاتها تعزز صورة مصر كحارس للتراث الإنسانى بأكمله، وتعيد تقديمها للعالم كدولة ذات تاريخ عريق وإرادة سيادية حاضرة، كما أنها تُسهم فى تصحيح الصور النمطية وإبراز الجانب الحضارى والثقافى للدولة المصرية بما يُحسن من صورتها الذهنية دوليًا. وأضافت أن نجاح مصر فى استرداد آثارها من دول كبرى ومتاحف عالمية يعكس كفاءة مؤسساتها وقدرتها على العمل ضمن الأطر القانونية الدولية، خاصة عبر الالتزام باتفاقية اليونسكو لعام 1970، مما يعزز ثقة المجتمع الدولى فى مصر كشريك جاد يحترم القانون ويؤمن بالشرعية الدولية. واختتمت د. نهى بكر تصريحاتها بالتأكيد على أن التعاون فى مجال التراث الثقافى يخلق مساحة آمنة للحوار بين الدول، حتى فى ظل الخلافات السياسية، لأنه يقوم على قيم إنسانية مشتركة ويعزز مكانة مصر كدولة رائدة فى حماية التراث العالمى وصناعة الحوار الحضاري. حملة دعائية فيما أشار د. حسام النحاس أستاذ الإعلام بجامعة بنها إلى أن حفل افتتاح المتحف المصرى الكبير يمثل فرصة تاريخية لمصر كى تطلق من خلاله استراتيجية إعلامية شاملة تعيد تسليط الضوء على قضية استرداد الآثار المصرية المهربة للخارج، مشددًا على أهمية استثمار الزخم العالمى المتوقع خلال هذا الحدث الضخم الذى سيحظى بمتابعة واسعة من وسائل الإعلام الدولية. وأوضح النحاس أن البعد الأول فى هذه الاستراتيجية يجب أن يكون إطلاق حملة دعائية كبرى فى الصحافة ووسائل الإعلام العالمية، من خلال التعاون مع إحدى شركات العلاقات العامة الدولية الكبرى، بما يخلق حالة من الاهتمام الإعلامى العالمى ويركز على حق مصر التاريخى فى استعادة آثارها المنهوبة. وأكد النحاس ضرورة خلق حالة من الرأى العام الداخلى الضاغط، من خلال تكثيف التناول الإعلامى للموضوع وربطه بالهوية الوطنية والحضارة المصرية، إلى جانب استثمار منصات التواصل الاجتماعى والمؤثرين والمشاهير والبلوجرز فى نشر الوعى ودعم قضية استرداد الآثار المصرية، مشيرًا إلى أن هذه الجهود إذا تكاملت فستشكل جبهة إعلامية وشعبية مؤثرة على المستويين المحلى والدولي.