فى ظل الاستعدادات الكبيرة التى تمت لافتتاح المتحف المصرى الكبير، المشروع الأضخم من نوعه فى العالم المخصص للحضارة المصرية القديمة، لفتت الدعوة الرسمية للافتتاح الأنظار بجمالها ودقتها الاستثنائية، والتى جاءت فى شكل تابوت مصغّر للملك توت عنخ آمون.. عن فكرة التصميم، فلسفته، مراحل التنفيذ، والتحديات التى واجهت الفريق، أجرينا هذا الحوار مع محمد نصير أحمد اخصائى ترميم الآثار ومدير التشغيل والإنتاج بالشركة التى تولت تنفيذ هذا العمل الفنى الفريد بأيدٍ مصرية خالصة. اقرأ أيضًا | مشروع قومى للهوية |علماء اجتماع عن «حمى الزى الفرعونى»: تعبير عن وعى المصريين المتجدد بتاريخهم فى البداية، كيف جاءت فكرة تصميم الدعوة الخاصة بالافتتاح؟ منذ اللحظة الأولى التى أُسند فيها إلينا هذا المشروع، كنا ندرك أننا لا نصمم مجرد دعوة، بل نقدّم رسالة رمزية باسم مصر وحضارتها، بما أننا متخصصون فى مجال الآثار والمستنسخات الأثرية، كان من الطبيعى أن نستلهم التصميم من أيقونة فرعونية شهيرة. ونظرًا لأن مجموعة الملك توت عنخ آمون، التى تضم أكثر من 5000 قطعة أثرية، ستكون من أبرز ما يُعرض داخل المتحف المصرى الكبير، قررنا أن تكون الدعوة مستوحاة من إحدى قطعه المميزة. درسنا عدة اختيارات، بين تماثيل مجسمة للملك أو القناع الذهبى الشهير، لكن فى النهاية وقع اختيارنا على التابوت الخارجى لتوت عنخ آمون، لما له من رمزية عميقة، ولأنه يتكوّن من جزأين يمكن استثمارهما فنيًا ليُحتضن داخله نص الدعوة، وكان الهدف أن تكون الدعوة تحفة فنية قائمة بذاتها تعكس فخامة الحدث وعظمة التاريخ المصري. التصميم يحمل رمزية فلسفية واضحة، هل يمكن أن توضح لنا فكرته؟ بالفعل، الفكرة لم تكن شكلية فقط، وفلسفة التصميم استلهمت من الفكر المصرى القديم المرتبط بفكرة البعث والخلود والحياة بعد الموت، وهى الفكرة التى عبّر عنها المصرى القديم فى كتاب الخروج إلى النهار. ومن هنا جاءت رمزية التابوت، فهو ليس رمزًا للموت، بل رمزٌ للبعث من جديد، فإخراج الدعوة من داخل التابوت فى حد ذاته يمثل بعثًا للحضارة المصرية القديمة بروح جديدة، وإعادة تقديمها للعالم بطريقة حديثة تُبرز أصالتها وعظمتها، وفى الوقت نفسه تنظر إلى المستقبل برؤية معاصرة، ففتح التابوت فى تصميم الدعوة لم يكن مجرد حركة فنية، بل رمز لافتتاح فصل جديد من فصول الهوية المصرية، يجمع بين الماضى العريق والمستقبل المشرق. ما أهم مراحل تصنيع الدعوة، وما المواد أو التقنيات التى استخدمت؟ العمل مر بعدة مراحل دقيقة جدًا، لأن القطعة المطلوبة كانت بحجم صغير جدًا مقارنة بالأصل، لكننا كنا حريصين أن تحافظ على نفس التفاصيل والزخارف والنسب. بدأنا بمرحلة النحت اليدوى ثلاثى الأبعاد للمجسم، حيث تم تنفيذ كل النقوش والزخارف يدويًا لضمان دقة التفاصيل، وبعدها جاءت مرحلة السبك والاستنساخ لإنتاج عدد من القطع بنفس الجودة، تلتها مرحلة التذهيب باستخدام خامات عالية الجودة تمنح الإحساس بالفخامة دون استخدام الذهب الحقيقي، ثم مرحلة التلوين التى أُجريت بعناية لتعكس الطابع الفرعونى الأصيل. فى النهاية، قمنا بتبطين الجزء الداخلى من الدعوة ب قماش قطيفة فاخر باللون الكحلى الغامق ليُكمل الإحساس الملكى بالقطعة، وكل مرحلة من هذه المراحل تمت بأيادٍ مصرية 100٪ ما جعلنا فخورين بأن العمل خرج بأعلى مستوى من الإتقان المحلي. بالتأكيد واجهتكم تحديات أثناء تنفيذ المشروع، ما أبرزها؟ أهم التحديات كانت دقة التفاصيل فى القطعة المختارة، لأننا كنا نتعامل مع رمز أثرى عظيم لا يحتمل أى خطأ، وكان علينا مراجعة كل تفصيلة ونقش وزخرفة لتكون مطابقة للأصل قدر الإمكان.. كذلك واجهنا تحديًا فى عدد القطع المطلوب إنتاجها، ما تطلب منا العمل على مدار الساعة فى ورديات متتالية لضمان الالتزام بالمواعيد دون التأثير على الجودة. ماذا عن الفريق الذى نفّذ هذا العمل، خاصة وأن الشركة تضم شبابًا كثيرين؟ فى الحقيقة، نحن نعتز جدًا بفريقنا لأنه يمثل نموذجًا للشباب المصرى المبدع، ولدينا مجموعة متميزة من الفنيين والمصممين، بعضهم لديه خبرة سابقة فى مجال المستنسخات، وآخرون من خريجى كليات الفنون الجميلة، والفنون التطبيقية، والتربية الفنية، وأقسام الترميم. نحرص داخل الشركة على تدريب وتأهيل الشباب عمليًا ليصبحوا فنيين محترفين، ولدينا اليوم عدد من الكفاءات التى تعلمت داخل الشركة من الصفر وأصبحت من أفضل المتخصصين فى هذا المجال. كيف ترون تأثير أعمالكم فى دعم السياحة والترويج لمصر؟ بكل تأكيد، المستنسخات والنماذج الأثرية التى نُنتجها تلعب دورًا كبيرًا فى الترويج لمصر ثقافيًا وسياحيًا، وقطعنا تُعرض اليوم فى متاحف ومؤسسات كبرى مثل المتحف المصرى بالتحرير، متحف الحضارة، المتحف المصرى الكبير، متحف الأقصر، مكتبة الإسكندرية، ومنطقة الأهرامات، وكما تُعرض بعض النماذج فى معارض دولية بالخارج، لتكون سفيرًا للحضارة المصرية القديمة فى كل مكان. فكل قطعة تمثل رسالة تقول إن المصريين الحاليين هم امتداد طبيعى لأجدادهم العظماء، قادرون على الإبداع بنفس الروح والإتقان، وإن الجين الحضارى المصرى ما زال حيًا ومضيئًا، يقودنا من الماضى المجيد إلى مستقبل مشرق بإذن الله.