أنا مصر... لا أحتاج إلى مقدمة تُعرّفنى، فاسمى وحده يكفى ليوقظ الذاكرة فى ضمير الإنسانية. أنا الأصل الذى منه ابتدأت الحكاية، والنبض الذى علّم العالم كيف تتحول الرمال إلى حضارة، والحلم إلى واقع تشهد عليه الأعين وتلمسه الأيادى. أنا مصر.. أول من رفعت للسماء عمود العدالة، وأقمت فى الأرض ميزان الحق. على ضفّتى وُلدت القوانين الأولى، وسُطرت الشرائع التى جعلت الإنسان يعرف أن العدل أساس الملك، وأن الرحمة ليست ضعفًا بل جوهر القوة. أنا مصر.. منحت العالم أول فكرة عن الخلود، حين فهمت أن الروح لا تفنى وأن الجمال لا يموت. من معابد طيبة إلى أهرامات الجيزة، خططت بيدى خريطة الوجود الإنسانى بين الأرض والسماء، لأقول إن الحضارة ليست بناء من حجر، بل إيمان بالعقل وقدرته على صنع المعجزات. أنا مصر.. أول من صاغ العلم فكرًا، وحوّله إلى نظام يربط الفلك بالنيل والزراعة بالمواسم. فى مدارى ونجومى تعلم الإنسان كيف يقيس الزمن، وكيف يقرأ فى حركة الكواكب سر الحياة. أنا مصر.. علمت العالم أن الفن ليس ترفًا بل وعى، وأن الموسيقى التى تخرج من القلب قادرة على تهذيب الأمم قبل أن تهز وجدانها. علمتهم معنى الجمال، حين نحتت وجهى على الحجر بطمأنينة الخالدين. أنا مصر.. منحت البشرية أول درس فى السلام، ورفعت شعار «المجد للحياة». لم أكن يومًا غازية، بل صانعة للأمان. عبرت العصور لا بالسيوف، بل بالكلمة والعلم والفكر، وحين قاتلت كان دفاعى عن الإنسان قبل الأرض. أنا مصر.. التى تعود اليوم من بوابة المتحف المصرى الكبير، لا لتستعرض ماضيها، بل لتبعثه حيًّا فى ضمير العالم. أقف على تخوم الأهرامات، لا لأُذكِر بعصور مضت، بل لأقول إن الإبداع ما زال يجرى فى عروقى، وإن الذين بنوا المعجزة الأولى هم أحفاد من يشيدون اليوم معجزة الحاضر. أنا مصر..التى لم تغب يومًا، بل كانت تنتظر اللحظة لتعلن للعالم أن الحضارة لا تُورث بالزمن، بل تَثبُت بالعمل والإرادة. أنا مصر.. لم أخرج من التاريخ، لأننى التاريخ نفسه. ولم أعد إلى النور، لأننى كنت النور منذ البدء، وما زلت.