«ظلت صداقتنا دائمًا مساحةً من الصدق، تتجاوز الشهرة والضوء، رغم تغير الملامح والأوقات، صداقة امتدت عقودًا طويلة، بكل ما حملته من نجاحات وتحدياتٍ، اقتسمنا فيها الحلو والمر، عبرناها جنبًا إلى جنب، وتعلمنا سويًّا من الأيام، كيف نتماسك أمام تقلبات الزمن. منذ أكثر من ثلاثين عامًا، كنت فى بداية الطريق، أكتب بحبر الشغف، وأحلم بعيون العاشق بالتاريخ. كتبت خبرًا بدا لى آنذاك بعيدًا، كنجمة لا تُطال، عن صرحٍ عظيم تمنّيته لمصر، وها أنا اليوم، بعد ثلاثة عقود، أقف أمام معجزةً من نورٍ وحجر، أمام حلم وُلد فى قلب عاشق للتاريخ، وقد صار صرحًا يصوغ عجيبة جديدة فى القرن الواحد والعشرين. ألمس جدرانه، وأشم رائحة الزمن فى ممراته، وأشعر أننى لم أكتب فقط عن مشروع، بل كنت أكتب عن قدر مصر. هنا، عند أقدام الأهرامات، وعلى أرضٍ سجدت لها الحضارات، شُيّد المتحف المصرى الكبير، كقصيدة نحتها الزمان تخليداً لعظمة مصر لا، لم يُشيَّد فحسب، بل نُحت من نور الفكرة، وعرق العمال، وحلم الوطن، متحف لم يُشيد ليكون مستودعًا للكنوز، بل مسرحًا للدهشة، وسفرًا بصريًا وروحيًا فى حضارة امتدت عبر آلاف السنين، وتحدت عوامل الفناء. قصة من قلب الشمس كنت « ولا أزال » مؤمنة أن هذا الوطن يستحق متحفًا يليق بعظمته، يروى قصة الحضارة لا من خلف الزجاج، بل من قلب الشمس، إنه ليس مجرد أكبر متحف أثرى فى العالم، بل هو شهادةُ ميلادٍ جديدة لحضارة لم تغب، وأنا، الكاتبة التى حملت الفكرة فى قلبها شابًة، أراها اليوم تتجلى أمامي، كأنما الزمن منحنى شرف أن أكون شاهدًا على الحلم من مهد الكلمة إلى مجد التحقق. قبل نحو ثلاثين عامًا، كنتُ شابةً فى بداية مشوارى الصحفي، مسؤولة عن تغطية أخبار وزارة الثقافة، حين اقتنصت من بين زوايا الأفق خبرًا استثنائيًا منحنى إياه الفنان والصديق العزيز فاروق حسنى -أهم وزير ثقافة عرفته مصر منذ عهد د. ثروت عكاشة إلى يومنا هذا- لم يكن مجرد خبر عابر، بل كان بمثابة شرارة أشعلت فى داخلى وهج حلمٍ عظيم؛ يشق طريقه بين ظلال الزمن ليشرق على أرض مصر، وكأننى أضع للعالم مفتاحًا جديدًا لعظمة لا تنضب، حكاية عشق حضارة خلّدها الفراعنة، وها نحن أحفادهم نعيد صياغتها، نصنع من التراب والنور صرحًا يفوق الوصف. يسمو فوق هضبة «منف» القديمة، حيث يتربع المتحف المصرى الكبير، تحفة حضارية تفوق الوصف وتحتضن أعظم إرث فى تاريخ الإنسانية. معجزة من حجر ونور انفردت بذلك الخبر على صدر الصفحة الأولى، وكأننى أروى للعالم بداية ملحمة جديدة، حكاية عشق مصر لتاريخها، ونبض أجدادها الذين حفروا مجدهم فى صخور الزمن. هذا المتحف ليس مجرد مبنى يحوى قطعًا أثرية، بل هو قصيدة صامتة من حجر ونور، يعانق خيوط الشمس التى تشرق على أهرامات «خوفو» العظيمة، ليخبر العالم أن مصر لم تكن فقط دولة تاريخ، بل هى الحضارة التى سبقت التاريخ. شاهدتُ الفكرة تولد بين الأوراق، وعشت تفاصيلها، ورأيت كيف تحول الحلم إلى صرح يفوق الخيال، كيف انتقلت القطع من خزائن الظل إلى أعظم عرش للنور، لتروى قصص أبطالها من ملوك وملكات عبر الأزمان. كل حجر فيه يحمل روح مصر، وكل ركن فيه ينبض بحكاية عشق لا ينتهي، إنها المجد والخلود التى لا تنتهي. اليوم، لا تشرق الشمس على القاهرة وحدها، بل على أعظم متحف أثرى فى العالم، هدية مصر التى تتلألأ فى سماء الإنسانية كلها، معجزة معمارية وثقافية ستظل تضيء دروب التاريخ، وترسم بفخر وجه حضارة لا تموت. صديقة اسمها.. ليلى علوي بعض العلاقات لا تصنعها المصادفات، بل يُنبتها الزمن فى القلوب لتنمو وتبقى، لكن ليست كل الصداقات تُروى، فبعضها يُحسّ ويُعاش كأنها فصول من كتاب العمر، وحين يكون اسم الصديقة «ليلى علوي»، تصبح الحكاية أكثر من مجرد علاقة إنسانية؛ تصبح دفقة ضوء تمتد عبر السنين، هكذا كانت علاقتى بصديقتى -ليلى- لم تكن مجرد صداقة عابرة، بل كانت رحلة عمرٍ حقيقية، فما بين البدايات البسيطة والحكايات التى كبرنا فيها سويًّا، تمتد خيوط صداقتنا كأغنية قديمة حفظنا كلماتها عن ظهر قلب، وظلت صداقتنا دائمًا مساحةً من الصدق، تتجاوز الشهرة والضوء، رغم تغير الملامح والأوقات، صداقة امتدت عقود طويلة، بكل ما حملته من نجاحات وتحديات، وبكل ما فيها من لحظاتِ وهجٍ وانكسارٍ، اقتسمنا فيها الحلو والمر، الأفراح والمحن، عبرناها جنبًا إلى جنب، وتعلمنا سويًّا من الأيام، كيف نتماسك أمام تقلبات الزمن، كما تعلمنا من بعضنا معنى أن تكون الإنسان أولًا قبل أى لقبٍ أو منصب أو شهرة. حين تصبح الصداقة عمرًا مرّت علينا فصول كثيرة، تغيّر فيها كل شيء تقريبًا، إلا تلك المودة التى ظلت ثابتة، كجذع شجرة تضرب جذورها فى الأرض، نبتسم حينًا ونصمت حينًا آخر، لكننا لم نفقد يومًا صدق المشاعر ولا نقاء النية، وبقيت رحلتنا معًا مدرسة فى الوفاء، دروسها من الحياة نفسها، شهادتها ليست ورقة، بل قلب مطمئن يعرف من أين أتى وإلى من ينتمي. وبين كل محطة وأخرى، كنت أزداد يقينًا أن الصداقة الحقيقية لا تحتاج إلى إعلان أو تبرير، يكفيها أن تبقى حاضرة فى المواقف قبل المناسبات، وفى الصمت قبل الكلام. عرفت ليلى من بيتٍ دافئٍ تغمره مشاعر المحبة والاحترام، وعرفت والدتها الراقية ستيلا - رحمها الله - المرأة التى علمت كل من عرفها أن الرقى الإنسانى سلوكٌ قبل أن يكون مظهرًا، وعرفت شقيقتها الحبيبة لمياء، وزوجها الكابتن الطيار حافظ، وشهدت بعينى كيف تنبض تلك الأسرة بالذوق والأصالة، ويسكن الصدق والحب بيتهما كما يسكن الضوء النافذة. وكبرت أمام عينى ابنتاهما «فرح» و»هنا» بخُطاهما المطمئنة نحو الحياة، ورأيت خالد -ابن ليلى- واحتضنته بقلبى منذ اليوم الذى ضمته ليلى بين يديها بفرحة وخوف ومسؤولية الأم، حتى صار اليوم شابًا ناضجًا ناجحًا كما حلمت به دائمًا. كل ذلك جعل ليلى بالنسبة إليَّ ليست مجرد فنانة وصديقة فحسب، بل جزء من تفاصيل العمر ذاته. حضور يمنح الكاميرا حياة ليلى لم تكن يومًا مجرد «نجمة كبيرة» كما يراها الجمهور، بل إنسانة تعرف كيف تحتفظ بجمالها الداخلى قبل الخارجي، تمتلك ذكاءً عاطفيًّا يجعلها تفهم الآخرين بنبضهم الأول، وصدقًا يجعلها تمثّل من قلبها لا من الورق، منذ بدايتها فى عالم السينما، كانت ليلى تعرف طريقها جيدًا؛ لم تبحث عن النجومية بقدر ما بحثت عن الصدق. عن أدوارٍ تتنفس، وتعيش، تلمس القلب وتترك أثرًا، فى كل شخصيةٍ جسدتها، رأينا ملامح المرأة المصرية الجدعة، القوية، الرقيقة، الحنونة التى تجمع بين صلابتها وضعفها، فتبدو فى النهاية إنسانة كاملة الحضور. أما إذا تحدثتُ عن ليلى كناقدة، أقول إنها تمتلك كاريزما تأسر الكاميرا دون عناء، فالكاميرا تحبها بصدق؛ وهى تمنحها الحياة وتلتقط منها النور، وأنها تمتلك إحساسًا يجعل المشاهد يصدقها، مهما كان الدور صعبًا أو معقدًا، أتحدث عن قدرتها أن تملأ الكادر بحضورها الطاغي، هى فنانة تبحث عن المعنى، لا عن البريق، لهذا بقيت حاضرة فى ذاكرة الجمهور، راسخة فى مكانها بين القلوب. جعلتِ من الضوء جسرًا وما يجعلها استثنائية بحق، هو إنسانيتها، فرغم كل ما حققته من مجدٍ فني، ظلت بسيطة، محبة، وفية لأصدقائها، صادقة مع نفسها ومع من حولها، تمنح المحبة بلا حساب، وتصون صداقاتها من زوابع الزمن، لا يعرف الغرور طريقًا إلى قلبها، ولم تسمح يومًا للضوء أن يخطف روحها، بل جعلتِ منه جسرًا يصل بين الفن والإنسان، من يعرفها عن قرب يدرك أن طيبتها جوهرٌ أصيل فى تكوينها، هى روحٌ حاضرة حتى فى غيابها، ودفءٌ لا ينطفئ مهما ابتعدت المسافات، لذا ستظل ليلى علوى دائمًا الصفحة الأجمل فى حكاية الفن، والوجه الأكثر صدقًا فى ذاكرة الحياة. الاحتفاء بقيمةٍ مصريةٍ وإنسانيةٍ وحين يهدى مهرجان الإسكندرية دورته لاسم ليلى علوي، فهو لا يكرّم ممثلةً عظيمة فقط، بل يحتفى بقيمةٍ مصريةٍ وإنسانيةٍ راسخة، وامرأةٍ اختارت أن تكون النور لا مجرد انعكاسه، فالتكريم لم يكن مجرد احتفاءٍ بتاريخ فنى حافل، بل اعترافٌ برحلة إنسانية نادرة، صادقة فى تفاصيلها، ملهمة فى مسيرتها، خاضتها ليلى بشجاعةٍ وصبر وإصرار واتزانٍ وتسامح وصدق نادر، وتتويج لمسيرة من العمل والإخلاص والوفاء أثبتت خلالها أن النجاح لا يصنعه الضوء وحده، بل القلب الذى يظل وفيًّا رغم كل شيء، واستحقاق طبيعى لامرأةٍ أعطت الفن أجمل سنوات عمرها، وبقيت كما عرفناها دائمًا، نقية القلب، مشرقة الوجه، صادقة الحضور. أما «ليلى علوي» الصديقة فستظل فصلًا دافئًا فى كتاب أيامي، وصوتًا يهمس فى الذاكرة بأن الصداقة الحقيقية مثل الفن الجميل: تبقى خالدة، مهما تغيرت الفصول.