روايات إحسان عبد القدوس ومقالاته حاضرة وتعيش معنا، وتشعر أنك أمام قلم يصنع فكرًا ويوقظ ضميرًا ويُشعل فى القلوب جذوة الوعى، وتربّى فى أروع مدارس الصحافة والفكر. أساتذة إحسان كانوا عمالقة عصره، محمود عزمى بعقله المتقد، ومحمد التابعى بسحر قلمه والعقاد بفروسية فكره، واقتطف من كل واحد شيئًا فصار قلمه مزيجًا من التقدم والشجاعة والجمال، فكر عزمى وروح التابعى وقلب العقاد، ويسكنه وطن بأكمله. من التابعى تعلّم سحر الكلمة وأناقة الأسلوب، والتابعى هو عميد الأسلوب الصحفى الحديث، وكان يؤمن بأن الصحافة ليست نقلًا للأخبار بقدر ما هى فن سرد الحقائق بلغة تأسر القلوب قبل العقول، فكتب إحسان بأسلوب قريب من الناس، يجمع بين المتعة والفكر وبين الجرأة والجمال. ومن محمود عزمى استمد إحسان نظرته التقدمية للحياة، التى ترى فى التجديد ضرورة لا ترفًا، وفى التنوير رسالة لا مغامرة، وكان عزمى من دعاة التحديث حتى فى أدق التفاصيل، إلى حد الدعوة إلى استبدال «العمامة» ب «القبعة» كرمز لعصرٍ جديد، وأصبح إحسان يرى فى كل فكرةٍ قديمة فرصةً للهدم وإعادة البناء، وفى كل رأى جامد خصمًا من حرية الإنسان. ومن العقاد تعلم إحسان جرأة المواجهة وفروسية القلم الذى لا يعرف الخوف ولا الممالأة ولا الإسفاف، وكتب بروعة الفكر لا بحدة اللسان، وانتقد الأنظمة والسياسات دون أن يُسقط هيبة الكلمة أو شرف المهنة. وتحولت رواياته إلى أفلام تغوص فى أعماق المجتمع وتتناول قضايا حساسة بطريقة جذابة ومؤثرة، ومنها «العذراء والشعر الأبيض» عن الحرية الشخصية والصراع بين الأجيال، «لا أنام» تأثير العواطف فى اتخاذ القرارات، «فى بيتنا رجل» الظلم السياسى قبل قيام الثورة، «الوسادة الخالية» الحب المثالى والواقع الاجتماعى. وكان إحسان إلى جانب كونه كاتبًا كبيرًا، قائدًا صحفيًا من طراز نادر وراقٍ، لم يكتف بأن يكتب بل صنع أجيالًا من الكتاب، واكتشف أحمد بهاء الدين، الذى بدأ مشواره بمقال تركه فى استعلامات روزاليوسف، وفوجئ به على غلاف المجلة فى الأسبوع التالى، بأمر من إحسان الذى رأى فى السطور موهبة واعدة، وكذا كان يصنع المبدعين، بعيونٍ تقرأ بين الكلمات لا فوقها. علّم إحسان الأجيال أن القلم ليس آلة حادة تُشهر فى وجه الناس، بل ضمير ناطق يجرح ليشفى ويكشف ليبنى، وأن النقد السياسى لا يكون بالصوت العالى، بل بالحجة القوية والفكرة الهادئة التى تصيب الهدف دون أن تُريق دمًا أو كرامة. الحديث عن إحسان عبد القدوس ليس استدعاء لماضٍ جميل، بل تذكير بحقيقة أن الصحافة كانت ويجب أن تظل «صاحبة الجلالة».. لم تكن يومًا مهنة من لا مهنة له، بل عرشًا فكريًا يحرسه فرسان الكلمة الذين آمنوا أن الحرية مسئولية، وأن الكلمة الصادقة تساوى وطنًا متعافيًا.