أول يناير 1919 هو تاريخ ميلاد «فارس القلم النبيل» إحسان عبد القدوس، الذى تنبأ بالمستقبل فى كثير من أعماله، وكأنه يعيش بيننا اليوم، ورصد التحولات الجذرية فى العلاقات الإنسانية وتفكك القيم نتيجة متغيرات العصر. إحسان كان صاحب مدرسة فى النقد السياسى العنيف الذى يحقق الهدف، دون أن يجرح أو يُدمى، ومن يقرأ مقالات إحسان وهو يشرّح الواقع السياسى المصرى، يتأكد أنه سبق عصره فى زمن تحمل فيه الصحافة لقب «صاحبة الجلالة»، ويحرسها صحفيون بدرجة أمراء ونبلاء. وتحولت رواياته الى أفلام تغوص فى أعماق المجتمع وتتناول قضايا حساسة بطريقة جذابة ومؤثرة، «العذراء والشعر الأبيض» عن الحرية الشخصية والصراع بين الأجيال» ،«لا أنام» عن تأثير العواطف فى اتخاذ القرارات، «فى بيتنا رجل» عن الظلم السياسى قبل قيام الثورة،«الوسادة الخالية» عن الحب المثالى والواقع الاجتماعى. ومن أعماله أيضاً: «لا تطفئ الشمس، نساء بلا رجال، شىء فى صدرى، يا عزيزى كلنا لصوص، لن أعيش فى جلباب أبى، الرصاصة لا تزال فى جيبى».. ورسمت شخصيات تعيش بيننا بواقعيتها وتعقيداتها. ولم تكن موهبته فى الكتابة فقط، بل قدرته على اكتشاف المواهب الجديدة وإفساح الطريق لها، وأبرزهم: الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، الذى كان يعمل فى إحدى الإدارات القانونية، وذات يوم ترك مقالاً فى استعلامات «روزاليوسف» وانصرف، وفوجئ بالمقال فى الأسبوع التالى على الغلاف، ولما ذهب ليترك مقالاً آخر، أمسك به عامل الاستعلامات، ولم يتركه إلا فى مكتب إحسان.. وصار بعد ذلك واحدًا من أعظم الكتاب فى مصر. إحسان تعلم من الأساتذة فى عصره، كيف يكتب وكيف يمسك بالقلم: محمود عزمى ومحمد التابعى وعباس محمود العقاد، ومن التابعى تعلم إحسان أسلوب الكتابة، والتابعى هو عميد الأسلوب الصحفى المعاصر بلا منافس، أو ساحر الكلمة ومعلم الأجيال. وتعلم من محمود عزمى: نظرته التقدمية لمشاكل الحياة والمجتمع والإنسان، حيث كان عزمى من أعظم دعاة التجديد والتقدم، ووصل به الأمر إلى حد الدعوة إلى لبس «القبعة» بدلاً من «العمامة»، ومن العقاد تعلم جرأة الكاتب وفروسية صاحب القلم، والاشتباك العنيف مع الأفكار الخاطئة، التى ينبغى هدمها وإفساح الطريق أمام عالم جديد. فى زمن إحسان كانت المنافسة الصحفية تعنى الفروسية والشهامة، ورغم أن والدته فاطمة اليوسف كانت صاحبة المؤسسة العريقة التى تحمل اسمها إلا أنها لم تجامله، وتعمدت أن تصنع منه كاتباً قوياً يستطيع أن يشق طريقه بين العمالقة، وأطلقت بينه وبين الكتاب الكبار سباقًا صحفياً شرساً، ومنعت نشر مقالاته الأدبية والشعرية حتى لا يُقال إنه ابن صاحبة الدار، وعندما أرسل مقالاً لم يوقعه باسمه، احتل صدر الصفحة الأدبية، وتحقق لها ما أرادت، وأصبح إحسان أحد النبلاء العظام فى بلاط صاحبة الجلالة. فى زمن الصحافة الجميل كانت المفردات النظيفة هى اللغة التى يكتب بها الصحفيون مقالاتهم، يتحاورون ويتعاركون، وفى النهاية يدشنون « ثقافة الاختلاف والاحترام».