في مشهد كان يوما رمزا للبذخ والعصر الذهبي لثقافة "الإنستجرام"، يواجه الطاهي التركي الشهير نصرت جوكجه، المعروف عالميا باسم "سولت باي"، واحدة من أصعب مراحل مسيرته التجارية، فبعد أن تحولت حركته الشهيرة في رش الملح إلى ظاهرة عالمية، تتهاوى اليوم إمبراطوريته في عالم المطاعم الفاخرة مع إعلان خسائر ثقيلة وإغلاق فروع بارزة في الولاياتالمتحدة، في إشارةٍ إلى تغير أذواق المستهلكين نحو مفهوم جديد للرفاهية،أكثر هدوءا وأقل استعراضا. اقرأ أيضا| ليس الضغط فقط.. تقليل الملح يقلل الإصابة بالخرف قبل أعوام قليلة، اجتاح العالم يظهر فيه رجل يرتدي نظارة شمسية داكنة وقميصا أبيض ضيقا، يرش الملح بطريقة مسرحية تنساب على ساعده قبل أن تسقط على قطعة لحم فاخرة، كان ذلك الرجل نصرت جوكجه، الذي أصبح لاحقا رمزا عالميا بفضل هذه الحركة التي اشتهر بها باسم "سولت باي". ومن مقطعٍ لا يتجاوز الثواني، بنى نصرت إمبراطورية مطاعم راقية امتدت إلى لندنونيويورك ودبي، وحققت ضجة إعلامية ضخمة عندما افتتح فرعه الشهير في نايتسبريدج عام 2021، حيث وصلت أسعار شرائح اللحم إلى 680 جنيها إسترلينيا، فيما بيعَت الحلوى المغطاة بالذهب بنحو 50 جنيها إسترلينيا. لكن تلك الأضواء بدأت تخفت. فقد كشفت وثائق مالية حديثة أن شركة "سولت باي" في المملكة المتحدة تكبدت خسارة بلغت 5.5 ملايين جنيه إسترليني، رغم تحقيقها مبيعات تجاوزت 10 ملايين جنيه. وفي الولاياتالمتحدة، أغلقت معظم الفروع باستثناء اثنين فقط في نيويورك وميامي، بعد أن بلغت تكاليف الإغلاق الاستثنائية أكثر من 6.6 ملايين جنيه إسترليني. المفارقة أن شهرة "سولت باي" لم تكن يومًا بسبب جودة الطعام، بل بسبب العرض البصري الفريد الذي قدمه، فقد ذهب الزبائن إلى مطاعمه ليس لتجربة المذاق، بل لعيش "اللحظة" وتوثيقها بعدسة هواتفهم، في مشهدٍ أصبح أشبه بمعلم سياحي لا بمطعم. اليوم، تغيرت قواعد اللعبة، فالمحتوى الذي يلقى رواجا على وسائل التواصل الاجتماعي لم يعد ذاك الذي يبهر بالبذخ، بل ذاك الذي يُلهم بالتوفير والبساطة. على منصة تيك توك مثلا، تحقق مقاطع مثل "إعداد وجبات الأسبوع ب100 جنيه" أو "كيف تطبخ بميزانية محدودة" ملايين المشاهدات، فيما تراجع الاهتمام بعروض الرفاهية المفرطة. وفي زمنٍ يشهد فيه الاقتصاد البريطاني تباطؤا وتراجعا في الإنفاق التقديري بنحو 9٪ وفقا لتقارير مجموعة بوسطن الاستشارية، أصبح إنفاق 600 جنيه على قطعة لحم نوعا من التباهي الذي فقد بريقه، فالعصر الجديد من الرفاهية بات يعرف ب"الترف الهادي" حيث القيمة في الجودة والصدق، لا في اللمعان والاستعراض. وبينما يواصل نصرت استعراض ثرائه بنشر صور من قصره الفخم في إسطنبول الذي تبلغ قيمته 36 مليون جنيه إسترليني، يبدو أن جمهوره لم يعد يجد في الذهب بريقا كما كان فالمستهلك اليوم يبحث عن تجربة طعام أصيلة وبسعر عادل، لا عن استعراض ذهبي لقطعة لحم. من المؤكد أن "سولت باي" سيظل ظاهرة ثقافية لا تنسى في عصر الإنترنت، لكن سقوط إمبراطوريته يعبر عن تحول أعمق في ذوق المستهلك العالمي: من الهوس بالمظاهر إلى تقدير الجوهر، فبينما كان "رش الملح" يوما مرادفا للفخامة، أصبح اليوم رمزا لعصر طوى صفحته، وبدأت بدلا منه مرحلة جديدة تتقدم فيها البساطة والأصالة على الذهب والضجيج.