هل يدرك العرب - حقاً - ماذا جرى ولماذا؟ وكيف يعدون العدة للمستقبل؟ حتمية المواجهة لا تعنى بالضرورة اللجوء للآليات العسكرية الكتاب ينطلق من أن أفضل وسيلة لمنع الحرب الاستعداد لها لا بديل أمام العرب إلا كسر «دائرة العجز» يعترف مؤلف هذا الكتاب - فى مقدمته - أن البعض قد يجد أن كتابه لا يحتوى على أى جديد(!)، وسيكون معهم حق، والبعض الآخر قد يشعر أنه لا يضيف كثيراً، إلى معارف المتخصصين فى المجال، وهم - أيضاً - معهم الحق كله، من ثم فإن الكتاب - طبقاً لذلك - لا يزيد عن كونه محاولة للمساهمة فى ممارسة نوع من النقد الذاتى، تفرضه ضرورة المصارحة والمكاشفة، فى مواجهة صراع مصيرى يتطلب مقاربة مع أسباب الإخفاق فى إدارة الصراع، ثم محاولة استقراء الدروس والخبرات المستفادة، عبر تفهم أبعاد وظروف «زمن المحنة العربى» على حد تعبيره. ثم ينتقل إلى خطوة أبعد، مستشرفاً آفاق مستقبل أفضل تكون فيه الأمة العربية فاعلة، تمتلك القدرة على المبادأة، لا تركن لليأس، أو التسليم بالأمر الواقع، وقد تطلب ذلك خوض غمار التاريخ الطويل للصراع، وإجراء دراسة تحليلية نقدية لأسباب الهزيمة، ثم العوامل التى تقود للنصر. من ثَمَّ، فإن الكتاب - فى مجمله - محاولة لتغيير مدخلات الصراع، سعياً لبلوغ نتائج مختلفة، ولا يتأتى ذلك إلا باقتفاء المسار الإسرائيلى فى حروبه ضد العرب، وملاحقة تطور التخطيط الاستراتيچى لإدارة الصراع على الجانبين، وكذا التعرف على المحددات والقيود المؤثرة على الوضع العسكرى العربى، فى أى مواجهة حتمية قد تُفرض على العرب، ثم ما هى الفرص الاستراتيچية المتاحة لهم. وأخيراً، يصل الكتاب إلى محطته الأهم، حين يطرح المؤلف وصاياه العشر، لردع إسرائيل، أو على الأقل كبح جماح ظلمها، وخداعها وشراستها، انطلاقاً من رؤية واقعية، وحقائق منظورة، وأحداث مستمرة. اقرأ أيضًا| الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية: نثمن الدور المصري في إدخال المساعدات إلى غزة يأتى كتاب «الصراع الإسرائيلى-العربى.. إلى أين؟»، أقرب إلى ما يشبه الموجة فى فيضان زاخر من المؤلفات التى تعد بالمئات حول قضايا وأبعاد هذا الصراع التاريخى الممتد. وبحكم الخلفية المهنية للمؤلف، فقد ركز على الجوانب العسكرية، سواء على صعيد تاريخ الحروب التى صاحبت الصراع، والتخطيط الاستراتيچى المواكب لاستخدام القوة المسلحة، وطبيعة وأبعاد سير وتطور العمليات على الجبهة المصرية فى الفترة بين 1948 و1973، وتلمس الدروس المستفادة والخبرات العسكرية المُكتسبة. غير أن ما استوقفنى هو صياغته لعنوان الكتاب، على غير المألوف، فدائماً تنحو الكتابات العربية إلى مصطلح «الصراع العربى-الإسرائيلى»، بل إن البعض يجنح إلى «تخفيف» الوصف ونعت العلاقة بين الطرفين ب «النزاع»! وقفة مع العنوان أغلب الظن أن د.ممدوح أنيس فتحى، يرى-وأشاركه رؤيته-أن صك عنوان الكتاب على ما استقر عليه، يعيد الأمور لنصابها، فالعرب لم يكونوا البادئين بفرض الصراع، لكنها الصهيونية مدعومة بالغرب منذ البداية، فإرهاصات المشروع الصهيونى تبلورت برعاية استعمارية غربية، سهلت قيام الكيان الصهيونى، كأحد أهم بنود البرنامج الاستعمارى بالمنطقة العربية. إسرائيل التى كانت ذروة تجليات المشروع الصهيونى، نشأت وترعرعت وتوحشت فى أحضان الهجمة الاستعمارية على الوطن العربى، كانت ولا تزال، فلم يسع العرب يوماً للصراع، لكنه فُرض عليهم فرضاً، ولم يكن بُد من مقاومته. من ثم فإن تصويب جوهر الصراع وطبيعته، يجب أن يبدأ من العنوان الذى يوصِّفه، فالطرف البادئ بالعدوان، المتمادى فى عنفه الدموى، الذى يتغذى على الحرب، ولا يرى لها بديلاً يضمن استمراره، وأنه لا مستقبل لمشروعه إلا بالتوسع المتواصل، بالتدمير والترويع والإبادة والتهجير، لا يمكن إلا أن يكون الطرف الأول-بجدارة-فى معادلة الصراع منذ بدأ، وحتى اليوم، وخلال جميع مراحله. ولعله كان حرياً بالمؤلف الإشارة إلى ما يكمن خلف إعادة توجيه المسألة من رؤية أو فلسفة جاءت ترجمتها على النحو الوارد فى عنوان كتابه. تناقض مثير.. ولكن! ومن العنوان إلى المقدمة، التى طالت حتى كادت تقارب حجم فصل، فإن المؤلف أشار إلى أنه «يعيد كتابة تاريخ الصراع العسكرى الإسرائيلى ضد العرب، ربما يدرك المعاصرون ماذا جرى، ولماذا، وإلى أين؟». وإذا كان لأى باحث طموحه المشروع، فإن الكتاب على ضخامة حجمه، إذ تجاوزت صفحاته الثمانمائة صفحة، ورغم محاولته تقديم دراسة تاريخية تحليلية نقدية، لأسباب الهزيمة وعوامل النصر (1948- 2024)، فإن مطالعة فصول الكتاب فى العديد من المواضع، جنحت إلى مفهوم الدراسة الوصفية، حيث تم حشد كمٍ هائل من المعلومات، فضلاً عن إصدار تعميمات، لاسيما بشأن التعامل مع حروب 48 و56 و67، ومن ثم تم البناء على هذه التعميمات بإصدار أحكام عامة تحكم رؤيته لتلك الحروب، رغم عدم تماثل العوامل والظروف والنتائج الخاصة بكل منها! ويبرز فى المقدمة نوع من التناقض فى رؤية المؤلف، وتقييمه لطرفى الصراع: العرب من جانب، والكيان الصهيونى على الجانب الآخر، إذ يؤكد أن الكفة تميل فى المعادلة الاستراتيچية لإدارة الصراع، دائماً لصالح الكيان، فكانت النتيجة المنطقية نصراً وفرض إرادة من الطرف الإسرائيلى، وعجزاً ونكسات وهزائم متكررة للطرف العربى، ثم يعود بعد عدة فقرات ليشير إلى «نسبية النصر والهزيمة فى الحروب الحديثة»، فثمة معايير صريحة، ودلالات رمزية تدل على تحقيق النصر، مثل الاعتراف بالهزيمة، أو توقيع معاهدة تقر نتائج الحرب لمصلحة أحد الأطراف، أو إعلان الاستسلام.. إلخ، وحتى تكون النتيجة حاسمة-أيضاً-لابد من أن يكون النصر المتحقق دائماً.. وبخلاف ذلك يصبح مفهوم النصر تقييماً أو رأياً، وتبقى نتيجة الحرب مفتوحة للتأويلات والادعاءات. وقد نجم عن هذه المراوحة / التناقض، ما يشبه الترجيح شبه الدائم، لما اعتبره المؤلف «نتيجة منطقية»، أى نصر للكيان مقابل عجز وهزائم للعرب، وانعكس ذلك بالتالى على معالجته لجولات الصراع المتعاقبة!. وأخيراً، يحرص المؤلف-فى مقدمته-على أن من يفهم من عنوانه أنه يدعو للحرب، فقد جانبه الصواب، وكذا من يفهم أنه استقراء للتاريخ لأخذ العبرة فهو مخطئ، إذ ما يسعى إليه هو توفير خيار آخر للعرب فى التعامل مع صلف القوة والغطرسة الصهيونية. بكلمات أكثر دقة: فإن حتمية المواجهة لا تعنى بالضرورة اللجوء للآليات العسكرية. حقائق صادمة «الخيار الآخر»، أو «البحث عن بديل» لتجاوز «الحالة الراهنة»، والخروج من «دائرة العجز»، فيما يبدو، هو الهدف من الكتاب، وهذا لا يعنى-طبقاً للمؤلف-«بالضرورة اتخاذ المبادرة العسكرية بالهجوم فى المستقبل للقضاء على الهيمنة الإسرائيلية، واستكمال التحرير، بل المطلوب أساساً بناء قوة عسكرية عربية رادعة». من ثم يصبح التساؤل مُلحاً: لماذا استفاض المؤلف فى استرجاع وسرد مطول للمسار التاريخى للصراع من جانبه العسكرى، وسير العمليات، و.... و...، بينما كان المنطقى والمتوقع الإفاضة والتركيز على ملامح استراتيچية جديدة، وصولاً للوصايا العشر التى تمثل عوامل النصر المأمول؟. اقرأ أيضًا| عملية اليمامة الحمراء.. موت ياميت نجحت في تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر نحترم رؤية المؤلف-لا شك-ولكن عند معالجتها فإننا سوف نعمد إلى الإبحار فى الفصول الثلاثة الأولى، إبحاراً سريعاً -إلى حد ما- لنرسو فى النهاية على المرفأ / الغاية المتوخاة فى الفصل الرابع والأخير من الكتاب، إذ هو-برأينا-الجدير بالمطالعة والتأمل، والاهتمام الشديد. يحمل الفصل الأول عنوان «حتمية الحرب وموضعها فى المسار التاريخى للصراع»، ويبدأ المؤلف بطرح سؤال: هل إسرائيل جادة فى توجهها نحو السلام؟، وسرعان ما يجيب على تساؤله بصورة قطعية: إن السمات والخصائص التاريخية للصراع تقود إلى حقيقة واضحة ومحددة: إنه لا حل سلمياً للصراع فى ظل الاقتناع الصهيونى بغايته العليا، والإصرار على تحقيقها، الأمر الذى يترتب عليه اتساع الهوة بين المصالح العربية، والأهداف الصهيونية، ومشروعها التوسعى الدائم. يستعرض المؤلف تلك السمات والخصائص، بداية من الجذور التاريخية العميقة للصراع، وكون إسرائيل القوة العسكرية الراجحة، مروراً بكونه ليس صراعاً واحداً، وإنما عدة صراعات متشابكة ومتداخلة على نحو معقد وفريد، مُروراً بأن الصراع لم يكن محلياً أو إقليمياً فحسب، وإنما له امتدادات دولية، من ثم فإن المحصلة النهائية-حتى الآن على الأقل-فى المواجهة تميل للجانب الصهيونى، وصولاً إلى استمرار إسرائيل فى التمسك بسياسة المماطلة والتسويف. ولعل المعروف بالضرورة، رغم العلم به، يمثل حقائق صادمة دائماً! ويعزو المؤلف استمرار تلك الخصائص التى ينفرد بها الصراع-بعد كل هذه العقود على بدايته-لغياب استراتيچية عربية محددة المعالم والآليات، فى ظل أزمات مُركبة يعانى منها النظام العربى! ثم ينتقل المؤلف إلى رصد التطور التاريخى للمنظومة الاستراتيچية الشاملة لإسرائيل والصهيونية، وما تمثله مكونات المعادلة الإسرائيلية / الغربية كدعائم للهيمنة على المنطقة، عبر ست مراحل متداخلة يصعب فصلها. بين النقد و«جلد الذات»! فى الفصل الثانى المُعنون ب «تطور التخطيط الاستراتيچى لإدارة الصراع على الجبهة المصرية (1948- 1973)»، يبدأ المؤلف بالإشارة إلى الثوابت التى تحكم سياسة الكيان الصهيونى فى إدارة صراعه مع العرب، وأهمها: ضمان التأييد الاستراتيجى الكامل من قوة عظمى، ومنع قيام دولة فلسطينية بأى شكل، بل وتصفية القضية تماماً وكذا عدم القبول بأى تضامن عربى، وبالمقابل الاستفادة من الصهيونية العالمية فى الدعم الكامل، مع ضمان حرية العمل العسكرى ضد العرب، وأخيراً الحفاظ على التفوق العسكرى والتقنى الساحق فى المنطقة. وينتقل المؤلف إلى رصد الموقف على الجانب العربى، فيسجل غياب الاستراتيچية المُوحدة تجاه الصراع، وعدم استطاعة أى دولة عربية تحقيق ثقل سياسى مؤثر على سياسات القوى الكبرى حتى تقف مع الحق العربى، وكذا عدم تناسب الحشد العربى مع الأهداف المراد تحقيقها، واتباع سياسة رد الفعل!. ثم يخصص المؤلف الصفحات التالية للوقوف على طبيعة التخطيط الاستراتيچى لكل من مصر وإسرائيل، فى إدارة الصراع العسكرى من 1948، وحتى حرب أكتوبر 73، محدداً أبعاد الموقف الاستراتيچى محلياً وإقليمياً ودولياً، الذى تمت فى أطره عملية التخطيط للصراع فى كل جولة، وكذا حقيقة الأهداف التى سعى كل طرف لتحقيقها، والمُرتكزات التى استند إليها كل جانب فى تخطيطه، والتى حكمت خطط عملياته الهجومية والدفاعية. وفى ختام الفصل، يشير المؤلف إلى السمات المشتركة فى التخطيط العسكرى الإسرائيلى على الجبهة المصرية، ثم ينتقل ليحدد أهم السمات المشتركة للتخطيط العسكرى المصرى فى سيناء، ويلاحظ فى هذه الجزئية وقوع المؤلف فيما يشبه «الافتتان بالعدو»، ربما بحكم ما أحرزه من إنجاز، مقابل ما يشبه «جلد الذات»، فيما يتعلق بتقييم الأداء المصرى، باستثناءات قليلة تخص حرب 73، التى لم تسلم -أيضاً- من ملاحظات لا تخلو من القسوة غير المُبررة، لا سيما فى تقييمه للثغرة، وإضفاء هالة من النجاح لا تتناسب وكونها طبقاً لتقديرات استراتيچية محايدة مجرد «عملية تليفزيونية»، هدفها تحقيق «شو إعلامى»!، وأن مصر كانت تملك فعلياً القدرة على تصفيتها. ما حقيقة الثغرة؟ ويقدم الفصل الثالث ما يصفه المؤلف بأنه دراسة تاريخية تحليلية نقدية مقارنة، لتطور سير العمليات على الجبهة المصرية (1948- 1973)، وصولاً إلى التعرف على طبيعة أعمال القتال، وأشكال المناورة للقوات المتضادة، وأسلوب استخدام قوات الأفرع الرئيسية فى كلا الجانبين. لذا عمد المؤلف إلى معالجة عدة موضوعات تخدم فكرة الفصل كتوقيت بدء الحرب، وحجم ونوعية القوات المُستخدمة فى القتال، وتوزيعها على اتجاهات ومحاور مسرح العمليات، ثم سير العمليات الهجومية، وطبيعة العمليات الدفاعية. اقرأ أيضًا| كيف يرى العالم قمة شرم الشيخ للسلام.. هذه أبرز عناوين الصحف ثم يستعرض أشكال المناورة فى الهجوم والدفاع، ومعدلات سير العمليات، وأعمال القتال والتقدم، وأخيراً استخدام القوات البرية والجوية والدفاع الجوى والبحرية، لتحقيق أهداف الحرب. وقد تميز هذا الفصل بالغرق فى التفاصيل الفنية والتقنية المدعومة بالأرقام والأشكال التوضيحية والخرائط واللوحات البيانية، وهى أدوات تعنى القارئ المتخصص، لا القارئ العام، وكان أغلب الظن أن الأخير هو المعنى بمطالعة الكتاب. ومرة أخرى نلحظ اهتمام المؤلف بالتعاطى مع الثغرة باعتبارها عملاً باهراً، إلى الحد الذى ينتقص من حجم الإنجاز الذى تم خلال حرب أكتوبر، تخطيطاً وتنفيذاً، وكان أن حطم أسطورة الجيش الذى لا يُقهر، ولم تكن الثغرة بالمعايير العسكرية إلا نجاحاً تكتيكياً، لم يغير قيد أنملة من الفشل الكامل الذى كلل الموقف الإستراتيچى العام للقوات الإسرائيلية، وألف باء العلوم العسكرية، تؤكد على أن الخطأ التكتيكى لا يؤثر على النجاح الإستراتيچى. إلا أن ما يستوقف النظر فى استعراض الكتاب لجولات الصراع الإسرائيلى- العربى، توقفه بالتحليل أمام خمس حروب كبرى فى أعوام 1948، 1956، 1967، 1973، والحرب اللبنانية عام 1982، وهى خارج سياق تركيزه بالأساس على الجبهة المصرية، وإشارته إلى كون هذه الحروب لا تشكل سوى ما اصطلح على تسميته «الصراعات المسلحة الرئيسية» النظامية، إلا أن استخدام القوة المسلحة بعناصرها المختلفة لم يتوقف كل فترات الصراع، بل برزت فى إطار ذلك أنماط شديدة التعقيد من الصراعات المسلحة، خلال فترة 1945- 2000، وهنا تأتى مجرد إشارة عابرة إلى «حرب الاستنزاف » (1969- 1970)!. والغريب أن المؤلف ساوى بين حرب الاستنزاف، وما عداها من عمليات عسكرية محدودة الأثر استراتيچياً هنا وهناك، فضلاً عن ضغطه للإطار الزمنى لحرب الاستنزاف من «حرب الألف يوم»، كما وصفها الإسرائيليون أنفسهم، لتستغرق طبقاً للكتاب أقل من عامين، وإجمالاً فإنه يصفها «بالحروب الصغيرة» التى لم تكن ترتبط إطلاقاً بطبيعة المراحل التى يمر بها الصراع!. ولعل المؤلف يعيد تقييم «حرب الاستنزاف» فى طبعة قادمة لكتابه، إذ تعد بحق الجولة الرابعة للصراع، وقد بدأت أول فصولها بعد أقل من شهر على «حرب 67»، وتدرجت مراحلها من الصمود، إلى الدفاع النشط، بلوغاً لمرحلة التحدى والردع. بين الماضى والمستقبل وبالوصول إلى الفصل الرابع المعنون ب: «ما هو الطريق إلى هزيمة إسرائيل»، فإننا نبلغ المرفأ الذى نعتقد أن المؤلف قطع كل هذه المسافة فى إبحاره عبر الفصول السابقة، ليكون هذا الفصل غايته النهائية. وبعد تمهيد، استعرضت فيه الثوابت التاريخية الكامنة فى الأيدولوچية الاستراتيچية والسياسة الإسرائيلية على امتداد الصراع مع العرب سياسياً وعسكرياً، يقسم الفصل إلى أربعة أقسام رئيسية، يستعرض فى القسم الأول خلاصة الخبرة التاريخية العسكرية للحرب على الجبهة المصرية 1948- 1973، ثم فى القسم الثانى يتعرض للمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية خلال الفترة من 1974- 2024، من زاوية تأثيرها على الصراع فى المستقبل، ثم يتناول شكل الحرب المحتملة/ المتوقعة بين العرب وإسرائيل، وأخيراً فى القسم الرابع يطرح الوصايا العشر لهزيمة إسرائيل. والحقيقة أن المؤلف لم يضف جديداً عند تعرضه للدروس المستفادة من الحروب على الجبهة المصرية، وجاء أقرب إلى تكرار أو اجترار لما ذكره فى مواضع متقدمة من الكتاب!. وتُعد الإضافة المهمة هنا متمثلة فى عرض القيود المؤثرة والفرص المتاحة للعرب، ومدى حرية الحركة الإستراتيچية المتاحة لهم فى مواجهة أى صراع عسكرى مُحتمل بمبادرة من إسرائيل، مستعرضاً الأسباب والعوامل التى قد تفضى لوقوع الصراع، وما هى الاحتمالات الداعية لاندلاع صراع من وجهتى النظر العربية والإسرائيلية، ومن ثم طبيعة وأبعاد وسيناريوهات هذه الحرب حال وقوعها، طبقاً لرؤى ووجهات نظر طرفى الصراع. إستراتيچية ثلاثية الأبعاد أغلب الظن أن المؤلف ينطلق فى هذا القسم من بديهية تقول: «إن أفضل وسيلة لمنع الحرب هى الاستعداد لها»!. من ثم فإن الكتاب يحاول طرح إستراتيچية تتسم بالواقعية والمصداقية، وإمكانية تحقيقها بأقل قدر من التكلفة والخسارة، وتأخذ بعين الاعتبار عناصر القوة العربية، وعناصر الضعف الإسرائيلية، وفى ضوء هذه الرؤية يقترح المؤلف الوصايا العشر التى تشكل فى مجملها إستراتيچية ثلاثية الأبعاد: «المقاومة، السلام، التنمية»، وهى بالتالى تهدف لتحقيق ثلاثة أهداف، أولها: استعداد العرب لحرب مُحتملة مع إسرائيل، ودعم خيار السلام المستدام من منطلق القوة والقدرة على الفعل، مع توفير خيار إستراتيچى آخر للعرب عامة، والفلسطينيين على وجه الخصوص، لانتزاع حقوقهم المشروعة، وتحرير أرضهم المحتلة. وإذا كانت الاستراتيچية -عموماً- تبحث قبل كل شىء عن النصر السياسى، لا عن مجرد النصر العسكرى، ووعياً وإدراكاً من المؤلف بهذه الحقيقة، فإنه يشير إلى «أنه لا يمكن طرح وصايا لهزيمة إسرائيل عسكرياً بالتركيز على الجوانب العسكرية فقط، إذ لا تعمل الاستراتيچية العسكرية فى فراغ، ولا تُعلق فى الفضاء مفصولة عن السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوچية الأخرى». من ثم فإن مواجهة غطرسة القوة دون حدود، تتم باعتماد سبل ووسائل عسكرية قادرة على تحقيق النصر، لكن ذلك لن يتحقق دون إرادة سياسية على المستوى ذاته، وعمق «اقتصادى/ اجتماعى/ تقنى مناسب»، وحالة فكرية/ ثقافية مواتية لضمان تحقيق التوازن الاستراتيچى الشامل، واستغلال نقاط الضعف الإسرائيلية، لاسيما حلقة الضعف الرئيسية لديها، وفى المقابل تحديد «حلقة القوة» التى يمكن للعرب الانطلاق منها. الوصايا العشر إلى حد ما، فإن ما يطرحه المؤلف فى ختام الكتاب يمثل جانباً من ملامح إستراتيچية للتعامل مع الصراع الممتد لما يقرب من قرن، ولا يزال مستمراً. تستهدف التوصية الأولى: «سد الفجوة الحضارية بالتمسك بثلاثية التقدم فى القرن الحادى والعشرين، والتى تتمثل فى: التعليم والبحث العلمى والتكنولوچيا». ولا شك أن المؤلف يتفق فى نقطة انطلاقه تلك مع كل الداعين إلى بناء مشروع حضارى عربى، يمثل فى مرتكزاته الحد المناسب من الفهم المشترك المُتفق عليه، ويتيح إجمالاً للعرب تحقيق مصالحهم والحفاظ عليها، بل يتيح كذلك لكل دولة أن تكون أكثر قدرة على تحقيق مصالحها تحت مظلة إطار جامع عنوانه «المصالح القومية المشتركة». ويرى المؤلف، وهو على حق فيما يذهب إليه، أن إعداد قوة قادرة على الوقوف ضد إسرائيل وتحقيق الردع، لا يقتصر على بناء القوة العسكرية فقط، لكنه إعداد شامل للقوة، ينهض على التنمية الشاملة المستدامة، والاستغلال الأقصى والأمثل، للطاقات العلمية والبحثية والتكنولوچية لتقليص الفجوة الحضارية بين العرب وإسرائيل من ناحية، والوصول إلى التوازن الحضارى الشامل، الذى يصنع توازناً حقيقياً مع إسرائىل من ناحية أخرى، الأمر الذى يتطلب ضرورة العمل على تطوير التعليم والبحث العلمى والتكنولوچيا، وتوطين الذكاء الاصطناعى فى الدول العربية، بما يقارب المستوى العالمى. ثانى التوصيات يتمثل فى بناء قدرات عسكرية قوية نوعياً وتكنولوچياً وكمياً، مع تنويع مصادر السلاح، وهنا يؤكد المؤلف على أن تتفرغ الجيوش للعمل العسكرى الاحترافى، وضرورة وضع استراتيچية لتنويع مصادر السلاح باعتباره ضمانة لا غنى عنها لحرية الحركة الاستراتيچية، مع ما يوفره من أفضل ما فى الترسانة العالمية من أسلحة. فى ذات السياق يشدد المؤلف على الاستعداد لإدارة الحرب الذكية، لمواكبة صعود نهج الحرب القائمة على الذكاء الاصطناعى، وتعدد مجالات توظيفه فى الحروب الحديثة. وتتكامل التوصية الثالثة مع ما سبقها، إذ تعنى ب «بناء المقاتل الوطنى المحترف»، مع التأكيد على «عدم قبول وجود تنظيمات مسلحة خارج نطاق الدولة»، فهذا المقاتل هو عماد فكرة العمل العسكرى الاحترافى. وبالمقابل «ضرورة منع قيام أو ظهور أى قوى أو تنظيمات/ ميليشيات مسلحة خارج نطاق سيطرة الدولة الوطنية، إذ تشكل تهديداً وجودياً للدولة الوطنية، خاصة أنها عادة ما يكون لها أچندات لصالح دول خارجية، مما يشكل خطراً داهماً على مؤسسات الدولة الشرعية، مما يزيد احتمالية نشوب حروب أهلية، ونظرة على المحيط العربى تؤكد التداعيات السلبية لهذه الظاهرة فى أكثر من دولة عربية. تحالف عالمى للسلام يدعو المؤلف فى توصيته الرابعة إلى تبنى فكرة «بناء تحالف عالمى للسلام»، انطلاقاً من أن حلاً واقعياً شاملاً للصراع يغير من ضرورة طرح رؤية جديدة، واستراتيچية مُبتكرة لصياغة إطار للسلام، يكون هذا التحالف إحدى آلياته. هذا التحالف-طبقاً للمؤلف-تشارك فيه جميع الدول المعنية بتحقيق السلام والاستقرار فى المنطقة، خاصة الدول العربية والإسلامية والاتحاد الأوروبى، والولايات المتحدة والصين وروسيا الاتحادية وجنوب إفريقيا، وإيران وتركيا وإسرائيل، والمنظمات اليهودية العالمية التى تدعو للسلام، والأمم المتحدة، لبلورة حل للصراع يضمن الحد الأدنى من المطالب الإسرائيلية، وقبول إقامة كيان لدولة فلسطينية مستقلة، مع وضع الأطر اللازمة لضمان تنفيذ هذا الحل، على أن يتحمل «تحالف السلام» مسئولية إقناع الأطراف المعنية بقبوله. ويقيناً، فإن إطلاق مثل هذا التحالف يتطلب جهداً شاقاً، وعملاً دءوباً، يحتاج إلى مساندة إعلامية، ومن هنا جاءت التوصية الخامسة التى طالب فيها المؤلف بإطلاق «حملات إعلامية إقليمية وعالمية مستمرة». إذ أن معركة السلام التى سيخوضها التحالف الدولى لن تكون رحلة هادئة، بل يتطلب إحراز التقدم فيها ممارسة ضغوط جمة على الكيان الصهيونى. من هنا يأتى أهمية، بل حتمية، التخطيط لمثل هذه الحملات الإعلامية، لا سيما فى ظل اختلال التوازن فى التغطية الإعلامية لصالح آلة «البروباجندا» الهائلة التى تسيطر عليها الاحتكارات الصهيونية العالمية، عبر أذرع أخطبوطية لا تستثنى بقعة من العالم. وبالتالى فإن هناك حاجة استراتيچية لمواجهة هذا الاختلال، بعد أن بات الإعلام سلاحاً مهماً فى العلاقات الدولية، وتشكيل اتجاهات الرأى العام العالمى، ويتزايد أهمية الإعلام مع استهداف إطلاق تحالف عالمى للسلام، بل يمكن الدعوة-بالتوازى معه-لإنشاء تحالف إعلامى عربى إسلامى لدحض الرسالة الإعلامية الصهيونية. وحدة الصف الفلسطينى التوصية السادسة تتوجه - بالأساس - إلى الفلسطينيين، إذ يدعوهم المؤلف إلى «وحدة الصف وطرح استراتيچية مزدوجة للسلام والانتفاضة والمقاومة»، إذ أن المعركة التى يخوضونها مُعقدة ومصيرية، تتطلب ضرورة تجسيد الوحدة، وأهمية مشاركة الجميع، والعمل فى كل الاتجاهات، وبشكل عاجل وسريع. ويرى المؤلف أن توحيد المرجعيات والرؤى الفلسطينية يعد شرطاً أساسياً لحشد الدعم الإقليمى والدولى لمطالب الشعب الفلسطينى فى تحقيق حريته واستقلاله، سواء عبر المؤسسات الدولية أو من خلال عقد مؤتمر دولى إقليمى للاعتراف بالدولة الفلسطينية وفقاً لكافة القرارات والمواثيق الدولية ذات الصلة. وحتى يتوحد شعب فلسطين، يطالب المؤلف بصياغة ميثاق وطنى فلسطينى يشكل مرجعية نضالية وأخلاقية وسياسية للشعب الفلسطينى، يُعاد بناء منظمة التحرير على ضوء بنوده، لتكون مظلة جامعة حقاً، تترجم عملياً المصالحة الشاملة والوحدة الحقيقية بين كل الأطياف. وليسمح المؤلف هنا بالقفز إلى التوصية العاشرة مباشرة، والتى يطالب فيها ب «إعلان الحرب الشعبية الفلسطينية كأساس للتأثير فى القوة العسكرية الإسرائيلية»، أى «خيار المقاومة المباشرة». ومع أن حق المقاومة بكل السبل تكفله المواثيق الدولية لأى شعب يرزح تحت الاحتلال، فإن تطورات الأحداث لا تصب فى خانة الأخذ بهذه التوصية، بل إن الأرجح أن تكون هناك مواجهة رشيدة محسوبة بكل دقة وواقعية عبر آليات أخرى، على أن يكون خيار المقاومة مشروعاً كبديل دفاعى فى إطار التعاطى مع الآليات العسكرية حصراً على سبيل الدفاع. نظرية للأمن القومى وقبل تناول التوصيات السابعة والثامنة والتاسعة، فثمة ملاحظة أضعها تحت تصرف المؤلف وتقديره، وربما كان الأوفق أن تُقدم فى صورة تساؤل: لماذا ابتعدت هذه التوصيات بكل هذا الفاصل، عن التوصيتين الثانية والثالثة، بينما تشكل التوصيات الخمس فى مجموعها ما يشبه «الحزمة المترابطة»؟. وسوف يتأكد القارئ من صواب ما ذهبت إليه حين يطالعها. يطالب المؤلف فى التوصية السابعة ب «تبنى نظرية للأمن القومى العربى تعتمد على الردع الصاروخى والاستفادة من الثورة فى الشئون العسكرية». ويرى المؤلف أن تكون قوة الردع الصاروخى ذات حشدٍ مناسب، وأن تعتمد على «استراتيچية الردع بالشك». ويؤكد-فى ذات السياق-على أهمية تركيز جميع الدول العربية على الاستفادة من الثورة فى الشئون العسكرية، بعد أن أصبح معيار حداثة الجيوش ومقياس تطورها هو مدى امتلاكها لعناصر هذه الثورة. وتتكامل التوصية الثامنة مع ما سبقتها، إذ يطالب المؤلف ب«الاستفادة من دروس معركة الأسلحة المشتركة، والحرب الهجينة، فى تحقيق الصدمة والرعب»، فالحروب الحديثة تعتمد على بناء «الجيش الصغير الذكى». وفى هذا السياق يؤكد المؤلف على أهمية التخطيط الاستراتيچى للخداع، وتحقيق عناصر المفاجأة، وكذا الاعتماد على القوات ذات المدى البعيد، وخفة الحركة العالية وقوة النيران الكبيرة، مع التأكيد على أهمية التنسيق بين أساليب إدارة الصراع المسلح مع الأساليب السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والمعنوية، وأن تُحشد الإمكانات العلمية الممكنة لخدمة أساليب الصراع عموماً. وفى التوصية التاسعة يؤكد المؤلف على أهمية اختيار شكل القتال الذى لا يتناسب مع قدرات القوات الإسرائيلية وعناصر تفوقها، إذ أن هدف الصراع فى إطار استراتيچية قومية شاملة «لابد أن يشتمل على استعادة الحقوق العربية والدفاع عن المصالح العليا للمجتمع العربى.. وتحقيق مثل هذا الهدف يتطلب أسلوباً خاصاً للقتال يجب ألا يتناسب مع قدرات القوات الإسرائيلية وعناصر تفوقها، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الدفاع الهجومى الثلاثى الأبعاد: الخسائر، الإرباك، المبادأة الحاسمة». كما يؤكد المؤلف على أنه لا يجب على الدول العربية عدم الانصياع وراء أى مخطط عدوانى إسرائيلى يحدد توقيت ومكان الحرب القادمة وأسلوب إدارتها. واختم هذا العرض بما ختم به المؤلف كتابه بمقولة المفكر الاستراتيچى «كارل فون كلاوزيفتز»: «إن البلد يحكم على نفسه بالهزيمة عندما يمتنع عن استخدام جزء من وسائله وقدراته، فى الوقت الذى يصمم فيه خصمه على استخدام وسائله كلها».