في البوسنة، انتهت الحرب الأهلية عام 1995 باتفاق "دايتون" الذي وقعته الأطراف برعاية أمريكية، لكنه لم يؤسس سلامًا حقيقيًا بقدر ما وضع البلاد تحت وصاية دائمة. أنشأ الاتفاق كيانًا إداريًا معقدًا يضم مجلسًا دوليًا لإدارة السلام ومندوبًا ساميًا يملك صلاحية إلغاء القوانين المحلية وإقالة المسؤولين المنتخبين، فصار الاستقلال مشروطًا بالموافقة الدولية، وصارت البوسنة "دولة على الورق" في الداخل، بينما إدارتها بالكامل في الواقع تتم من الخارج! هذه التجربة تُستعاد الآن في غزة عبر ما يسمى «مجلس السلام العالمي» الذي يطرحه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب كمخرج لإدارة ما بعد الحرب.. الفكرة تعيد إنتاج المنطق نفسه؛ إدارة دولية تشرف على الأمن والإغاثة والإعمار بغطاء عربي محدود، لتتحول غزة إلى منطقة تُدار لا دولة تُبنى! السيناريو الأول للمجلس، هو تجميد فكرة الدولة الفلسطينية بأن يتولى إدارة غزة مؤقتًا دون تحديد مدة واضحة، تحت ذريعة إعادة البناء وترتيب الأمن. هذا السيناريو يمنح واشنطن وتل أبيب ما تريدانه؛ غياب كيان سيادي حقيقي، ووجود إطار إداري يُسكّن الصراع دون أن ينهيه، كنوع من الهدنة الطويلة التي تُبقي على جوهر الاحتلال دون ممارساته المباشرة. السيناريو الثاني هو إنشاء «دولة فلسطينية منزوعة السلاح»، تُبنى مؤسساتها تحت إشراف المجلس وتدار مواردها من الخارج، وهو ما جرى في البوسنة حين احتفظ المندوب السامي بحق الفيتو على قرارات الحكومة، وحُصر الجيش في وحدات رمزية بلا استقلال؛ دولة قائمة أمام الإعلام، لكنها بلا قرار، كملكٍ وسط رقعة الشطرنج لا يستطيع تحريك قطعة واحدة! السيناريو الثالث، هو الرهان المصري، وهو أن يتحول المجلس إلى منصة عربية لا أداة أمريكية، وأن يستخدم لتوحيد المؤسسات الفلسطينية بدل تقسيمها.. القاهرة تريد أن تكون هي مركز التوازن لا طرفًا مراقبًا، وأن تُربط إعادة الإعمار بإعادة بناء السلطة، في إطارٍ وطني يضم جميع الفصائل ويعيد للقضية زخمها السياسي لا الإنساني فقط. المواجهة في الكواليس الآن ليست على من يعلن النصر، بل على من يكتب القواعد؛ واشنطن وتل أبيب تريدان نسخة جديدة من "دايتون" تُجمد فيها الدولة الفلسطينية داخل منطقة رمادية على غرار البوسنة! صحيح أن مصر تتصرف بعقل يدرك أن إدارة ما بعد الحرب أخطر من الحرب نفسها، وأن تثبيت السلام يحتاج إلى بناء الثقة لا إلى توزيع النفوذ؛ لكنها لا تريد لغزة أن تتحول إلى بوسنة جديدة تُدار من الخارج وتُعطل إرادتها الداخلية. القاهرة أثبتت أنها ليست متفرجًا على رقعة الشطرنج، بل لاعب رئيسي يحرك القطع بمهارة؛ فقد نجحت في رعاية اتفاق غزة على أراضيها وسط إشادة أمريكية ودولية بقدرة المفاوض المصري وحنكة قيادته.. واليوم، وهي تواصل تحركاتها، تسعى إلى توظيف مبادرة ترامب بما يخدم القضية الفلسطينية، لا أن تكون أداة ضمن خطته، لتبقى مصر مركز التوازن لا تابعًا في اللعبة. لكن الدور المصري لن يكتمل وحده إلا بدعم العرب جميعًا في تحويل اتفاق غزة من هدنة مؤقتة إلى مشروع دولة حقيقية، وأن يقفوا خلف الجهد المصري في إعادة توحيد الصف الفلسطيني وتثبيت المرجعية العربية في مواجهة محاولات تدويل القضية. ما تفعله القاهرة اليوم ليس دفاعًا عن حدودها، بل عن فكرة الاستقرار نفسها، ومع نجاحها فلن تربح مصر وحدها، بل ستربح المنطقة كلها فرصة حقيقية لسلام دائم، يوقف دوامة الحروب ويفتح باب الاستقرار بعد سنوات طويلة من الاضطراب. مناورات طويلة تعيشها القضية الفلسطينية منذ 1948، والنقلة الأخيرة ما زالت بيد العرب؛ إما أن يحركوا ملكهم نحو منتصف الرقعة بصلاحيات كاملة؛ فيمسكوا زمام المبادرة دون وصاية، أو يكتفوا بالمشاهدة إلى أن يطردهم "مجلس ترامب" إلى خارج الرقعة.