في لعبة السياسة، كما في رقعة الشطرنج، لا يكفي أن تحرك قطعة وتكتفي بالمشاهدة، بل عليك أن تنتظر الرد المقابل وتتهيأ لارتدادٍ لم يكن في حسبانك ،هذا بالضبط ما جرى بعد أن ألقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطته لإنهاء الحرب على غزة في وجه الجميع؛ خطة تحمل وعودًا بانسحاب، وصفقة تبادل، وهيئة تكنوقراط، لكنها في جوهرها مشدودة إلى البند الأكثر إشكالية، وهو نزع سلاح حماس . لكن الرد الذي خرج من الحركة كان ذكيًا، محسوبًا، وهادئًا، أقرب إلى حركة الوزير على رقعة الشطرنج؛ موافقة مشروطة، تُظهر قدرًا من المرونة وتُسقِط عن الحركة تهمة " التعنت " وفي الوقت نفسه تتجنب التورط في تنازل استراتيجي . البيان جاء صريحًا في القبول بتبادل الأسرى على قاعدة مقترح ترامب، والقبول بتسليم إدارة القطاع لهيئة مستقلة من التكنوقراط، والتمسك بالدعم العربي والإسلامي، والأهم أن أي قضية جوهرية تتعلق بمستقبل السلاح أو حقوق الشعب الفلسطيني ستُرحَّل إلى إطار وطني جامع. (أي أنه في سياق مباشر حماس لم تذكر التخلي عن السلاح أصلًا). حركة الوزير من حماس، أخرجتها من المأزق وورطت فيها نتنياهو بدلاً عنها، الكرة الآن في ملعب رئيس وزراء الاحتلال اليميني المتطرف الذي كُشف ظهره بعد تخلي جزئي من ترامب بعد ترحيبه السريع برد الحركة. سبب ترحيب ترامب هو استثمار كلمة "موافقة" التي أعنتها حماس داخليًا أمام الأمريكيين من جانب (حتى لو كانت مشروطة)، ومن جانب آخر شغفه الشديد لتحقيق "إنجاز" أمام المجتمع الدولي يستحق عليه "نوبل للسلام". الوسطاء بدورهم استثمروا النص، وأشادوا بمرونةٍ فتحت بابًا جديدًا للمسار التفاوضي، في حين أن حماس، ببساطة، أعادت ترتيب المشهد بحيث خرجت من خانة "الرافض الدائم" إلى خانة "الشريك الممكن"، وباتت إسرائيل هي الطرف الوحيد الذي يواجه المجتمع الدولي بوجهٍ عابس. المأزق الآن إسرائيلي بامتياز؛ نتنياهو يجد نفسه أمام ضغوط متزايدة سواء من بيانات دولية تدعو لوقف الحرب، وصور أطفال أنهكتهم المجاعة تتصدر الصحف والشاشات، وحركة فلسطينية تقول للعالم "نحن نقبل، لكن وفق إطار جامع وضمانات سياسية". هذه هي المناورة الكبرى؛ حماس أزاحت عن نفسها عبء الرفض، وترامب وجد مادة يبيعها سياسيًا، أما نتنياهو فبقي في عزلة، فما هي السيناريوهات إذا؟ إذا اختار نتنياهو رفض الخطة، فسوف يُحمَّل كامل المسؤولية أمام العالم عن استمرار الحرب والمجاعة، وسيتحول ترامب من داعم حليف إلى مُحرَج من عناد شريكه الإسرائيلي. هذا السيناريو سيزيد من الفجوة بين واشنطن وتل أبيب، حتى ولو لم يُفضِ إلى قطيعة، لأنه ببساطة يجعل ترامب يبدو عاجزًا عن دفع حليفه إلى الطاولة.. داخليًا، سيربح نتنياهو بعض النقاط لدى اليمين المتشدد، لكنه سيخسر مساحة المناورة الدولية، وسيتعرض لمزيد من الضغوط في مجلس الأمن وأوروبا. أما إذا لجأ إلى التحفّظ أو المماطلة، فسيكون الضرر مضاعفًا؛ سيظهر وكأنه يراوغ لا أكثر، بينما تستمر الكلفة الإنسانية في غزة، ويستمر الضغط الشعبي العالمي ضده وضد إسرائيل.. المماطلة قد تمنحه أيامًا إضافية على رقعة الشطرنج، لكنها لن تحميه من الانكشاف السياسي أمام الرأي العام الدولي الذي بدأ بالفعل يربط صور الجوع والدمار بإصراره على إطالة الحرب. في المقابل، فإن السيناريو الإيجابي الوحيد لنتنياهو هو القبول المبدئي، والدخول في نقاش تفصيلي حول الشروط، لكنه يعلم أن مجرد الجلوس إلى هذا المسار يعني الاعتراف بحماس كطرف سياسي تفاوضي، وهو ما ظل يرفضه طوال سنوات. هنا تكمن معضلة نتنياهو الحقيقية؛ إذا رفض فهو الخاسر دوليًا، وإذا قبل فهو الخاسر سياسيًا أمام جمهوره الداخلي! من جديد، يثبت المشهد أن السياسة أقرب ما تكون إلى مباراة شطرنج؛ حماس لعبت حركة محسوبة، ترامب احتفل بحركة تبدو انتصارًا، الوسطاء رسخوا موقعهم كقوة مؤثرة، والكرة اليوم في ملعب نتنياهو الذي بات محاصرًا بالضغوط، أمام اختبارٍ سيحدد ليس فقط مستقبل الحرب، بل مستقبل مكانته على رقعة الشرق الأوسط. "حفظ الله مصر، وفلسطين، وأهلك كل من يُفسد فيهم