قَدَرُ مصر أنها إجابة لأسئلة عديدة، أهمها وأخطرها سؤال السلام والسلام فى الشرق الأوسط هو السلعة الأصعب على الدوام، والأمن هو الأغلى، والتنمية هى الأثمن. وعلى مدار تاريخ الصراعات الدولية، وفى القلب منها حروب الشرق الأوسط، كانت كلمة «السلام» تُكتب فى مصر، وتحديدًا فى مدينة شرم الشيخ عاصمة السلام وتعود اليوم لأنظار العالم، حيث تُطوى واحدة من أقسى المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين وأكثرها دموية. أتفاق شرم الشيخ هو أتفاق تاريخى بين الطرفين لوقف الحرب برعاية مصرية، قادها باقتدار الرئيس عبد الفتاح السيسى، صوت الحكمة والاتزان، وأول من دعا إلى السلام فى اليوم التالى لاندلاع الحرب قبل عامين، وبحضور الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، الذى استعاد الدور الأمريكى كراعٍ للسلام، وتمكن بحكمة من اغتنام فرصة وقف الحرب، بدفع كل الأطراف إلى وقف إطلاق النار أولاً ثم العودة إلى التفاوض الجاد لحل المشكلات العالقة فى مراحل تالية. الكواليس مليئة بالتفاصيل، وما يهمنا فيها هو نجاح ترامب فى كبح جماح الحكومة الإسرائيلية المتطرفة ودفعها للقبول بخطته ووقف التصعيد، الذى كاد يقود الشرق الأوسط إلى حرب شاملة، تؤذى المصالح الأمريكية فى المقام الأول، ولن تفضى إلى شيء سوى مزيد من الضحايا ومزيد من الخسائر الاقتصادية التى تحتاج إلى عقود من أجل التعافى. تعامل ترامب مع الصراع بأكثر من طريقة، وكان هدفه المُعلَن فى حملته الانتخابية وقف الحروب وصناعة السلام حول العالم. وتحرك منذ اليوم الأول بأفكار غير تقليدية، هدفها الأساسى تغيير واقع الصراع فى الشرق الأوسط من القتل المتبادل إلى التنمية المشتركة. وبخبرته الكبيرة فى مجال العقارات، طرح مشروعات لا تتناسب مع حدة الصراع وتاريخه الممتد، لكنه لم ييأس، وبدأ يتفهم تعقيدات الصراع وثوابت كل الأطراف، ولذلك جاءت خطته الأخيرة واقعية ويمكن البناء عليها. وكانت نقطة الانطلاق هى وقف إطلاق النار، وكلمة السر: إجراء المفاوضات فى شرم الشيخ وتحت الرعاية المصرية الكاملة، وبحضور أقرب ممثليه، صهره جاريد كوشنر ومبعوثه الشخصى ستيف ويتكوف. ثم جاءت دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسى من أكاديمية الشرطة للرئيس ترامب لزيارة مصر وحضور التوقيع على الاتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لتضع إجابة عن سؤال ظل معلقًا عامين من القتل والتدمير وجرائم الحرب، وهى أن السلام ممكن، ومطلوب فى الشرق الأوسط الآن وليس غدًا، وأن مصر هى إجابة السؤال، لأنها ببساطة قائد محور السلام فى المنطقة، وأول من وقع على اتفاقية استعاد بها أرضه كاملة بعد انتصار عسكرى حقيقى على الجانب الإسرائيلي، فتح باب السلام واستعادة الأرض. تلتها ملحمة مصرية أخرى فى المحافظة على السلام قائمًا منذ عام 1979، لم تنجرّ فيها وراء استفزاز، وكانت صادقة النوايا فى بذل كل الجهود من أجل إحلال السلام وإسكات كل البنادق. ذلك الزخم هو ما جعل مصر تتحرك على مدار عامين من أجل الوصول إلى وقف لإطلاق النار، وهى تتمسك -رغم كل محاولات التشويه والاستفزاز- بعدد من الثوابت هى: (لا) لتصفية القضية الفلسطينة، و(لا) للتهجير القسرى للفسطينيين، و(لا) لإعادة احتلال القطاع وضرورة إدارته بواسطة الفلسطينيين. تحركت الدبلوماسية الرئاسية بقيادة الرئيس السيسى بنشاط وإصرار لصناعة زخم دولى حول حل الدولتين، ونجحت فى دفع دول كبرى -مثل فرنسا وبريطانيا- الى الاعتراف بفلسطين، وتعاونت مصر مع إسبانيا فى دفع الموقف الاوروبى إلى زيادة الزخم حول الدولة الفلسطينية باعتبارها الحل الوحيد للصراع فى الشرق الأوسط. ثم جاءت خطة الرئيس ترامب الاخيرة لتتوافق مع الرؤية المصرية ولأول مرة يصبح هناك نص واضح يتحدث عن إعلان الانسحاب الإسرائيلى من القطاع بالتزامن مع تبادل الأسرى وعودة الرهائن، وهو ما يعطى فرصة لتحسين مناخ الثقة، بشرط توقف استفزازات المتطرفين على الجانبين. وفرحة سكان قطاع غزة بتوقف القتال تستحق أن تُقدَّم على الاستعراضات التى ترافق تبادل الأسرى، فالأمر دقيق ولا يحتمل مثل تلك التصرفات. هى لحظة تعقّل تتطلب الهدوء والجدية فى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه. صحيح أن كل طرف متمسك بموقفه، وهو أمر طبيعي، لكن وقف إطلاق النار فى حد ذاته هو السبيل الوحيد لضمان استمرار التفاوض والبحث عن حلول سياسية بدلاً من التصعيد العسكرى. أجواء الفرح فى غزة يقابلها فى إسرائيل مظاهرات لأسر الرهائن تطالب بوقف الحرب، وهناك دوائر سياسية عديدة بدأت تتفهم أن الحل العسكرى لم يعد ممكنًا، ولا بأى طريقة، وأن إسرائيل تعانى من عزلة دولية حقيقية اعترف بها الرئيس ترامب والعالم يراقب التحركات السياسية الداخلية فى اسرائيل لتغيير المشهد السياسى الذى تسبب فى كل تلك الخسائر الضخمة لإسرائيل. التخوف موجود من تحرك الحكومة المتطرفة الحالية فى اسرائيل لتخريب الاتفاق، وهو تخوف مشروع لكن الثقة معقودة فى الرئيس ترامب فى دفعها نحو قبول الخطة ووقف جرائم الإبادة الجماعية، وهو أمر سينعكس بالتاكيد على صورة الولاياتالمتحدة وعلى استحقاق الرئيس ترامب لجائزة نوبل للسلام. العام القادم 2026. وقد أكدت التجارب السابقة أن الرئيس ترامب أثبت، فى أكثر من موقف، انحيازه بلا تردد لما يراه يصب فى مصلحة الولاياتالمتحدة أولًا، حتى وإن تعارض مع الرغبة الإسرائيلية. فالمصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط –من استقرار الأسواق، إلى مواجهة النفوذ الإقليمى للمنافسين – لا تحتمل حربًا مفتوحة جديدة، وهذا ما دفعه بوضوح إلى تبنى خطة تهدف لوقف التصعيد وفرض واقع جديد عنوانه: «السلام مقابل المصالح». نجاح مفاوضات شرم الشيخ، والتواصل المستمر بين الرئيس ترامب والرئيس السيسى أمر يمكن البناء عليه فى بناء شرق أوسط جديد محوره السلام تمثل فيه القاهرة حجر الزاوية فى معادلة السلام فى الشرق الأوسط، فمنذ عقود اختارت مصر طريق السلام وعملت على ترسيخه؛ ولذلك فإنَّ نجاحها فى احتضان مفاوضات دقيقة تحت رعاية مباشرة من قيادتها السياسية، وبدعم دولى وعلى رأسه الولاياتالمتحدة ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج خبرة مصرية واسعة بكل أطراف النزاع، وعلاقات قوية وممتدة مع الشريك الأمريكى، وثقة فى قدرتها لاحلال السلام القائم على العدل. النجاح الدبلوماسى الكبير لمصر وقيادتها الحكيمة ليس فقط امتدادًا لدورها التاريخي، بل هو إعادة تموضع ذكى يعكس قدرتها على الحفاظ على دورها فى استقرار المنطقة، وقيادة جهود السلام بالتعاون مع الأشقاء والأصدقاء فى زمن تتعاظم فيه التحديات. ومع بقاء صوت الحكمة المصرى حاضرًا؛ تظل فرصة السلام حقيقية وممكنة.