تتلاحق الأحداث فى منطقة الشرق الأوسط، وتثبت القاهرة يومًا بعد يوم رشدها السياسى وقدرتها على إدارة أصعب الملفات بهدوء وحكمة، وفق نظرية تحقيق الأهداف بالنتائج. ورغم وجود حكومة يمينية متطرفة فى إسرائيل تستخدم دبلوماسية الزناد اعتمادًا على الدعم الأمريكى غير المحدود، والانقسام المجتمعى فى سورياوفلسطين وإيران واليمن، استطاعت مصر – بفضل الله تعالى – عبر مؤسساتها ووعى شعبها وبعد نظر قيادتها السياسية أن تضع خطوطًا حمراء للحفاظ على أمنها القومي. وتُعقد على أرض مصر، فى مدينة شرم الشيخ، مفاوضات شاقة ومعقدة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، بدعم مباشر من مصر وقطر وتركيا، وورقة عمل تشمل مبادرة الرئيس ترامب لوقف الحرب الدموية فى فلسطينالمحتلة. وقد حققت المفاوضات تقدمًا ملموسًا، وتم الإعلان عن اتفاق للمرحلة الأولى التى تشمل وقف الحرب، وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين الأحياء، ودخول شاحنات الغذاء والدواء والوقود، ووقف إطلاق النار. وبتوقيع الاتفاق، تم بدء تنفيذ المرحلة الأولى من عملية السلام، وقد لاقى الإعلان عن عقد الاتفاق ترحيبًا دوليًا من القوى الكبرى ومن جميع دول العالم، ووفق ما تناقلته وسائل الإعلام سيتم إطلاق سراح الأسرى الأحياء قبل يوم الاثنين القادم. وفى كلمة السيد الرئيس فى الاحتفال بتخرج دفعة جديدة من ضباط الشرطة – حماة الجبهة الداخلية – دعا سيادته الرئيس ترامب لحضور توقيع اتفاقية السلام، بعدما دلت المؤشرات على وجود توافق بين الفرقاء. وقد تم التوافق والاتفاق، ويجرى حاليًا وضع اللمسات الأخيرة للاتفاق. وقد صرّح سيادته بعد الاتفاق – وفق ما نشرته قناة القاهرة الإخبارية – بأن العالم يشهد لحظة تاريخية تجسد انتصار إرادة السلام على منطق الحرب، من شرم الشيخ، أرض السلام ومهد الحوار والتقارب، وأنه تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بغزة وإنهاء الحرب بعد عامين من المعاناة، وفقًا لخطة السلام التى طرحها الرئيس ترامب. وأن اتفاق غزة لا يطوى صفحة حرب فحسب، بل يفتح باب الأمل لشعوب المنطقة فى غدٍ تسوده العدالة والاستقرار. وهنا تغلبنى طبيعتى البحثية أثناء كتابة المقال، ويتبادر إلى ذهنى السؤال الآتي: بعد ما تم الاتفاق الأولى، ماذا سيحدث إذا لبّى الرئيس ترامب دعوة الرئيس السيسى إلى شرم الشيخ وشارك فى توقيع اتفاق وقف الحرب يوم الأحد القادم وفق تصريحه؟ فى البداية، لا بد أن نتفق على أنه عند تناول موضوع بحثى يجب أن نتحلّى بعين الطائر، وأن نحلّق فى السماء لنرى المشهد من كافة جوانبه، فلا عواطف شخصية فى العمل العام، ولا مكان لهواة الترند وأصحاب التصريحات العنترية. وبهدوء وتروٍ نحلل وندرس الموقف على الأرض؛ فالحرب الضروس التى تشنها إسرائيل على الأراضى الفلسطينية فى غزة بعد عملية طوفان الأقصى فى عامها الثانى، وبعد سلسلة من المفاوضات والمحاولات الدولية عبر المنظمات الأممية لوقف الحرب وإجبار إسرائيل على الدخول فى مفاوضات سلام، نرى أن هناك تسارعًا فى الأحداث بعد مبادرة الرئيس الأمريكى لوقف الحرب، فى مشهد غريب على الحكومة الإسرائيلية المعزولة دوليًا بسبب دمويتها وجرائم الحرب التى ارتكبتها فى غزة. ونجد فى الأفق احتمالًا – وفق المؤشرات الحالية – أن تُستكمل عملية السلام برعاية مصرية خالصة، فى مدينة السلام شرم الشيخ، وبحضور الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بعد قبوله دعوة الرئيس السيسى لحضور توقيع اتفاق السلام. وبالتحليل الهادئ لاحتمالية استكمال بنود الاتفاق، أولًا لا بد أن نعترف بأن الحضور الأمريكى للرئيس ترامب لن يكون مشهدًا عفويًا فى الشرق الأوسط، بل يعتبر تحولًا استراتيجيًا يعيد تشكيل موازين القوى، ويضع القاهرة مجددًا فى مركز صناعة الأحداث على الساحة العربية والدولية. ويمكن تقسيم المشهد إلى عدة قراءات متأنية: أولًا: قراءة دبلوماسية فارقة: تُعد دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسى للرئيس ترامب لحضور التوقيع، واستجابة البيت الأبيض المبدئية، اعترافًا دوليًا بمركزية القاهرة كعاصمة قادرة على إدارة ملفات الحرب والسلام فى الشرق الأوسط. فمصر نجحت فى أن تجمع أطراف الصراع – إسرائيل وحماس – على أرضها بعد حرب ضروس استمرت عامين، وجمعتهما لتقريب وجهات النظر وتوقيع اتفاق فى إطار مفاوضات متقدمة تشارك فيها واشنطن والدوحة وأنقرة. وهنا قراءة أخرى وسؤال آخر: ما هو المعنى والمغزى من حضور الرئيس ترامب؟ إن حضور الرئيس ترامب بصفته الرئيس الحالى للولايات المتحدةالأمريكية يعتبر تحولًا فى الدبلوماسية الأمريكية التى استخدمت الفيتو فى مجلس الأمن لمنع إصدار قرار دولى ملزم بوقف الحرب، لتتحول الإرادة السياسية من دعم الحرب إلى رعاية السلام. وهذا تحول جوهرى فى الرؤية الأمريكية للصراع، بعد أن باتت واشنطن تدرك أن استمرار الحرب لم يعد يحقق أهدافها، بل على العكس، قوّى من المطالبات الدولية بحتمية حل الصراع فى إطار حل الدولتين، وأن سياسات الحكومة الإسرائيلية أدت إلى عزل إسرائيل سياسيًا، وأثارت نقمة فى الرأى العام الدولي. ثانيًا: نصر سياسى للدبلوماسية المصرية: يُعد حضور الرئيس ترامب إلى مصر نصرًا سياسيًا للدبلوماسية المصرية، لا يعنى فقط دعم الاتفاق، بل هو تتويج لدور مصرى متصاعد، ويكشف حقيقة الحملات المشبوهة لتشويه موقف مصر، فلا سلام ولا استقرار فى منطقة الشرق الأوسط دون احترام رؤية مصر؛ فالقاهرة منذ اندلاع الصراع فى غزة تنتهج سياسة رشيدة متوازنة جعلتها تمسك بخيوط الوساطة بميزان من ذهب، يوازن بين مطالب تل أبيب ومطالب المقاومة. والقاهرة فى موقفها المتوازن تستفيد من ثقلها الجغرافى والسياسى وعلاقاتها مع كل الأطراف. وهنا تساؤل: بعد نجاح مصر فى جمع جميع الأطراف وتحقيق اتفاق تحت مظلتها بحضور الرئيس الأمريكى كما هو متوقع، وهناك احتمال لحضور رؤساء آخرين، فذلك مفهومه ودلالته بصورة مباشرة تؤكد على: 1. عودة مصر كمركز ثقل للقيادة الإقليمية بعد أن كادت تُنتزع منها فى العقدين الأخيرين. 2. تحقيق القاهرة للتوازن بين مطالب الشرق والغرب حول ملف واحد. 3. استعادة القاهرة لدورها التاريخى كوسيط عاقل وفعّال قادر على جمع جميع الفرقاء فى منطقة الشرق الأوسط تحت سقف واحد وضبط الإيقاع بينهم. ويُعتبر توقيع الاتفاق بوقف الحرب نصرًا دبلوماسيًا لمصر وللرئيس السيسى شخصيًا، فقد استطاع أن يحوّل رماد الحرب إلى منبر للسلام، وأن يقدّم مصر كقلب للعالم العربى قادرة على فرض إرادتها بالتوافق. ثالثًا: دلالات حضور الرئيس ترامب وآخرين للاتفاق: إن حضور ترامب للتوقيع يوم الأحد كما هو متوقع لا يُقرأ فى إطار بروتوكولى، بل فى سياق استراتيجى يؤكد أن واشنطن انتقلت من موقع الداعم الأعمى لإسرائيل إلى موقع الضامن للسلام، ولو مؤقتًا، وأن استمرار الحرب لم يعد يخدم المصالح الأمريكية، وأن الاستقرار فى المنطقة بات أولوية اقتصادية وسياسية للولايات المتحدةالأمريكية. وأحب أن أؤكد أن سعى الرئيس ترامب للحصول على جائزة نوبل للسلام عبر إدراكه لأهمية وقف الحرب يُعد أعظم إنجاز دبلوماسى يمكن أن يقدمه للعالم فى فترة رئاسته، بعد فشل كل الإدارات السابقة فى كسر حلقة الدم الفلسطينية – الإسرائيلية. رابعًا: انعكاسات الحضور على المقاومة والقضية الفلسطينية: مهما حاول الإعلام الإسرائيلى التقليل من أهمية المشهد، فإن مجرد جلوس وفد المقاومة فى قاعة واحدة مع الرئيس الأمريكى يحمل اعترافًا ضمنيًا بشرعية المقاومة كفاعل سياسى لا يمكن تجاهله. وكان هذا المشهد من المحرمات السياسية فى واشنطن لعقود، وهذا يعنى أن المعادلة الميدانية وصمود الشعب الفلسطينى الذى يحظى بدعم وتعاطف دولى لا تحظى به فصائل المقاومة، فرضت نفسها على السياسة. كما أن تمسك الشعب الفلسطينى بأرضه، والدعم المباشر من مصر لرفض التهجير، أجبر العالم على الإصغاء لصوت المقهورين، وبذلك ينتقل الفلسطينيون – بعد سنوات من الحصار والإنكار – من مرحلة "إدارة الأزمة" إلى مرحلة "إدارة المكسب السياسي"، تحت رعاية مصرية وشرعية دولية آخذة فى التوسع. خامسًا: خسارة إسرائيل فى ظل ارتباك المشروع الصهيوني: سيكون توقيع اتفاق سلام فى شرم الشيخ بحضور الرئيس الأمريكى صفعة دبلوماسية لإسرائيل لعدة أسباب، منها: 1. كون الحدث يتم خارج الكيان وبشروط لا تفرضها هي. 2. الحضور الأمريكى من القاهرة لا من القدس يعنى أن مركز القرار الإقليمى تغيّر. 3. الاعتراف بالمقاومة طرفًا تفاوضيًا يعنى سقوط الرواية الإسرائيلية عن الإرهاب. ورغم محاولات إسرائيل المستميتة لإظهار الاتفاق كانتصار تكتيكى، إلا أنها تدرك أن نهاية الحرب ليست وفق سيناريو البروباغندا الإعلامية التى تُظهرها بمظهر الدولة التى لا تُقهر، وذلك يعنى تراجع قدرتها على فرض نفوذها وإرادتها على الخصم فى ظل عزلة مع بعض حلفائها الغربيين. سادسًا: الدلالات الإقليمية لحضور الرئيس الأمريكي: بحضور الرئيس الأمريكى، فإن العالم سيعيد القضية الفلسطينية إلى مشهد الصدارة باعتبارها قضية عربية تم تهميشها لعدة سنوات، وسيُعد نجاح مصر فى حلّ القضية الفلسطينية مؤشرًا على عودة القدرة العربية على حل الأزمات عندما تخلص النوايا، وبالنسبة للدورين التركى والقطرى فى توقيع الاتفاق فى مصر، يُعيد ذلك تعريف النفوذ الإقليمى، ويضع القاهرة فى موقع "المرجع" لا "المنافس". سابعًا: دلالات المشهد على المستوى الدولي: ستكون شرم الشيخ صورة جديدة للشرق الأوسط ما بعد الحرب، حيث سلام بملامح عربية، برعاية أمريكية، بضمانات دولية، وبشراكة واقعية مع الشعب الفلسطينى وسلطته التى سوف تُنتخب فى إطار تطوير السلطة الفلسطينية. كما سيُعيد الحضور الأمريكى صياغة العلاقة بين واشنطن وتل أبيب؛ فترامب كرئيس براغماتى لن يغامر برصيد "نوبل" من أجل إرضاء حكومة يمينية متطرفة تخسر حلفاءها، وهذا التوازن سيعيد تعريف السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربى – الإسرائيلى لعقد كامل قادم. ثامنًا: واقع الاتفاق على حصول الرئيس ترامب على جائزة نوبل: إذا تحقق للرئيس ترامب حلمه بالحصول على جائزة نوبل للسلام بفضل هذا الاتفاق، فإن جزءًا من الجائزة المعنوية سيذهب لصمود الشعب الفلسطينى الذى أجبر العالم على التفاوض، وللرئيس عبد الفتاح السيسى الذى أعاد ترتيب أوراق اللعبة فى ظل دعوات محلية وإقليمية وعربية ودولية تدعو لمنحه جائزة نوبل للسلام، وللعرب الذين يستعيدون حضورهم التدريجى فى مسرح التاريخ، وهناك مقولة تاريخية تقول: من رحم الحرب يولد السلام، وبصمت البنادق تنشط الدبلوماسية. إن حضور الرئيس الأمريكى إلى شرم الشيخ لتوقيع اتفاق وقف الحرب فى غزة من الناحية السياسية هو عملية تحوّل استراتيجى تعيد رسم خريطة الشرق الأوسط، وتكرّس لدور مصر القيادى، وتمنح القضية الفلسطينية شرعية دولية جديدة، وتؤكد أن صمود الشعب الفلسطينى وتمسكه بأرضه فرض حضوره على الطاولة. إن صمود الشعب الفلسطينى أمام المذابح الإسرائيلية هو انتصار لجميع الأحرار على مستوى العالم، وتُعد الساعات القادمة حاسمة فى مسار المفاوضات وسط تفاؤل دولى بنجاحها.