أحمد الزناتى تقول العبارة الشائعة إن الشيطان يكمن فى التفاصيل؛ مع أن التعبير معكوس، حيث يقول التعبير الأصلي: «الله يكمن فى التفاصيل»، وهى عبارة منسوبة إلى المعمارى الألمانى لودفيج مييس فان دير روه 1886–1969، أحد أعمدة العمارة الحديثة ومع الزمن انقلب المثل إلى صيغته المعروفة: للدلالة على أن الأصالة الحقيقية لا تظهر إلا عند التمعّن فى التفاصيل الدقيقة. هذا هو مضمون الكتاب الأحدث للمنظّر الأدبى الألمانى الشهير ميشائيل مار: (الجرو البنفسجى – الغوص فى دقائق الأدب الرفيع)، الصادر منذ أشهر عن دار روفولت الألمانية الكتاب جولة تأملية فى دروب الأدب العالمى بدايةً من ملاحم القرون الوسطى، مروروًا بشكسبير وكافكا وصولاً إلى سلمان رشدى. سبق وأن تُرجمت أعمال عدة لِمار، أجملها (فهود فى المعبد) للمترجم المصرى القدير أحمد فاروق، وغيرها من الأعمال الممتازة. لا يكتفى مار باستحضار الأعمال الخالدة ومبدعيها ببراعة وحيوية، بل لعل القارئ سيلاحظ أن مار نفسه راوٍ موهوب، ينسج بمهارة مجموعة مذهلة من اللقاءات، خيالية كانت أم واقعية، ومن التفاصيل المتشابكة والروايات الآسرة وهكذا، تتحول التفصيلة إلى بوابة لرحلة استكشافية عبر الأدب العالمى، تؤكد، فيما تؤكد، أن إعادة قراءة الروايات العظيمة مغامرة لا تنضب، بل إننى أحيانًا أفكّر أنه لم يبق أمام قاريء (كاتب؟) الحقبة الراهنة إلا أن يعيد قراءة أعمال الأقدمين، ويقف على تفاصيلها. فى أثناء قراءة بعض فصول الكتاب دوّنتُ بعض الملاحظات أوردها على لسان مار فى السطور التالية: استهلّ المؤلّف تحليله بملحمة قروسطية شهيرة، هى بارسيفال للشاعر الألمانى فولفرام فون إشنباخ، ويركّز تحديدًا على المشهد السادس من الملحمة فى هذا المشهد، يُرشَّح بارتسيفال للجلوس إلى جانب الملك آرثر حول المائدة المستديرة، لكنّ القدر يتدخّل ويُفرّق بينهما، فيضيع كلّ منهما عن الآخر وحده صقر آرثر المروّض والمتمرّس يرافق بارتسيفال فى تيهه وسط الغابة، حيث يقضى ليلته هناك. مع بزوغ الفجر، تنكشف أمامه فسحة مكسوّة بالثلج الأبيض، فيراها ملاذًا لسرب من الإوز البرى ينقضّ الصقر على إحدى الإوزّات ويجرحها، فتتساقط منها ثلاث قطرات دم حمراء على الثلج الناصع تأخذ هذه القطرات الثلاث بارتسيفال إلى عالم الذكريات، فترتسم فى ذهنه صورة وجه زوجته الحبيبة: قطرتان على وجنتيها، وثالثة على ذقنها. يستغرق فى تأمل هذا المشهد، فيغمره سحر الرؤيا، ويدخل فى حالة من الشرود العميق أو أشبه بالغيبوبة الحالمة. يسأل مار: أيّ أثرٍ لهذا المشهد فى نسيج الحكاية؟ ويجيب: لا شىء فلا هو يدفع البحث عن الكأس المقدسة، ولا هو يبدّل مجرى الأحداث ولذا طالما تساءل الباحثون: أهو محض زينة عابرة يستطيع القارئ أن يتجاوزها مطمئنًا؟ السؤال الذى يطرحه المؤلف، وربما يسعى من ورائه لاكتشاف أسرار الإبداع الأدبي: ما الذى يترسّخ فى ذاكرتنا حين نستعيد ما قرأناه؟ فيجيب: ليس خيوط الحكاية الممتدة، بل التفاصيل الأمر كما فى الحياة، حيث يتسرب الزمن، ويتبدّد فى ضباب النسيان، ونبقى نحمل فى وعينا شذراتٍ صغيرة، جزئياتٍ تافهة فى ظاهرها. كذلك فى الأدب؛ لا أدب رفيع من دون تفاصيل. فى الأوديسة، يعود أوديسيوس إلى إيثاكا بعد عشرين عامًا من التيه، عائدًا فى هيئة متسول لا يعرفه أحد وحده كلبه العجوز الوفى، «أرجوس"، يلمحه من بعيد، فيلوّح له بذيله فى لحظة وداع أخيرة، ثم يُسلم الروح قرير العينوفى موضع آخر، تكشف ندبةٌ قديمة على ساقه عن هويته لمربيته العجوز، بينما كانت تغسل قدميه هكذا، يكشف الجسد ما أخفته السنين. ولننتقل إلى الأديب الفرنسى مارسيل بروست، فماذا يعنى بحثه الطويل فى البحث عن الزمن المفقود لولا «كعكة المادلين» الصغيرة؟ تلك الكعكة التى غمسها فى الشاى، فأيقظت طفولته من سباتها، وأطلقت سيلًا من الذكريات لكنه لا يكتفى بهذا الأثر، بل يصوّره بطريقة بالغة الطرافة: يشبّه الذاكرة بقصاصات ورق يابانية تُلقى فى إناء ماء، فتمتصّ الماء وتنتفخ وتتحوّل تدريجيًا إلى بيوت وحدائق وزهور كاملة. هكذا، تتفتح كومبرى، وأهلها، وتنبعث الحياة من فنجان الشاي. وتأمل، أيضًا، (الجرو البنفسجى) فى رواية الحرب والسلم لتولستوى ما شأنه فى خضمّ معارك كبرى، وحريق موسكو، وانسحاب نابليون؟ لا شىء ومع ذلك، فإن حضوره يتجاوز كل منطق: يرافق بيير فى زنزانته، يسير مع الأسرى فى موكبهم الكئيب، ويعوى وحده حين يُقتل سيده كاراطايف لم يصف تولستوى أكثر من «عواء قصير»، لكنه، بهذا القليل، ترك فى ذاكرة القارئ أثرًا لا يُنسى. التفاصيل، إذن، على تعدّدها، ليست متساوية فى وظيفتها منها ما هو ناطق وصامت، فاضح أو عبثى، منها ما يحسم الحبكة أو يجمِّل المشهد تفاصيل عابرة أو رمزية، ساخرة أو دامعة، بعضها مروّع، وبعضها بلا جدوى ظاهرة — سوى أنها تخلّد فى الذاكرة. يسأل مار، فى أحد فصوله: ما الذى يميّز الحبكة البارعة عن غيرها؟ ويجيب: يجيبنا الناقد البريطانى إدوارد مورجان فورستر فى دراسته الخالدة أركان الرواية، فيضرب مثلًا بيّنًا: «مات الملك، ثم ماتت الملكة»؛ هذا محضُ تتابعٍ للأحداث. أما إذا قيل: «مات الملك، ثم ماتت الملكة كمدًا»، فقد نشأت الحبكة، إذ لم يعد السؤال: «وماذا بعد؟» بل: «ولِمَ كان ذلك؟» فالحبكةُ ليست سردًا متلاحقًا، بل سلسلة منطقية من العلل والنتائج، تُرغم القارئ على الترقب والتأمل والحبكة الجيدة فى رأى فورستر، ينبغى أن تكون محكمة النسج، منتظمة البناء، وبدت فى تعقيدها عضوية متماسكة، تولّدت منها جماليةٌ خاصة، تقوم على التوازن بين الغموض والوضوح وهى جماليةٌ تترك فى ذاكرة القارئ أثرًا لا يزول؛ فيظل يعيد ترتيب خيوطها، ويستعيد أسبابها ومسبباتها، حتى يُشرق جمالُها فى تمامه. وهنا يثور السؤال: ماذا يفعل الكاتب الأصيل حين يصوغ حبكته؟ إنه كثيرًا ما يُعلن أصالة موهبته فى التمرّد على هذه القوانين عينها فهيرمان ملفيل، مثلًا، أبدع حبكة محكمة فى رواية موبى ديك، لكنه كتب أيضًا نوفيلا بارتلبى النسّاخ حيث تكاد تختفى الحبكة ومثله جيمس جويس فى عوليس، وفرجينيا وولف فى أكثر أعمالها بعض الروايات العظمى محكمة الحبك، وبعضها الآخر ينكر الحبكة أشدَّ ما يكون الإنكار، ومع ذلك يبقى مقامها الأدبى رفيعًا. يضيف مار: كان ديكنز سيّدًا لفن الحبكة، ودوستويفسكى ثرثار مترهل [وهو تعبير مصطفى ذكري]، وتوماس مان أبرع فى رواية آل بودنبروك منه فى الجبل السحرى، أما نابوكوف فقد بلغ ذروة لم تُدركها حتى هايسميث ولا رولينج. وفى وقائع موت معلن لجابرييل غارسيا ماركيز نجد الحبكة الآسرة: النهاية معلومة منذ الصفحة الأولى، لكن المسير إليها معجزة فنية. يقول مار: ظل تاريخ الأدب متأرجحًا بين رواياتٍ تتقن فن الحبكة، وأخرى تُنكِر الحبكة لتؤسس جماليتها فى غيرها. غير أن حضورها، على اختلاف وجوهه، يظلّ حجر الزاوية الذى عنده تتمايز التفاصيل لو أنّ ماكس برود امتثل لوصيّة صديقه فرانز كافكا، فألقى بآثاره فى أتون النار، ولم يترك للأجيال سوى الرسالة إلى الأب، لظلّ كافكا، حتى بلا رواية أمريكا، ودون رواية المحاكمة والقلعة، كاتبًا خالدًا. يخصُّ مار بالذكر (رسالة إلى الوالد) لكافكا؛ وهو نصّ أدبى كتبه فى سنة 1919 فى نحو مئة صفحة خطّها بيده، ويراها وثيقة أدبية لا مثيل لها لم يجرؤ قط على تسليمها إلى أبيه هرمان كافكا، بل أودعها بين يدى ميلينا، حبيبته ومترجمته، ولم يُكتب لها أن ترى النور إلا بعد وفاته بقرابة ثلاثة عقود، عام 1952. وهكذا لم يطّلع عليها فالتر بينيامين، ولا كثير من أوائل النقّاد الذين تناولوا إرث كافكا. يقول مار: هذه الرسالة، المتخفّية فى ثوب اعتراف، ليست إلا محاكمة صارخة، يواجه فيها الابن أباه مواجهةً لا هوادة فيها: الابن الواهن، المثقل بعبء الذنب، العاجز عن الحياة، الذى لم يخطر بباله أن اسمه سيجوب الدنيا بعد موته، يسكب فيها دِلاءً متتابعة من بئر الماضى الذى لا ينضب؛ ماضٍ كما قال فولكنر: لم يمت، بل لم يبرح أن يكون حاضرًا. غير أن الرسالة، على حدّتها، لا تبرّئ الابن ولا تُدين الأب وحده؛ بل ترى فى التناقض الجوهرى بين شخصيتين متنافرتين أصل البلاء. والحق أننى شخصيًا أرى (فى رسالة إلى الوالد) لكافكا أصدق مثال كاشفٍ عن ماهية الأدب الحقيقى؛ فلا حبكة، ولا أحداث ولا شخصيات، ولا توتّر درامى ولا بنية؛ لكن نص أدبى يفيض بإحساس عميق، وألم قوى، وهو جوهر الأدب فيما أظن وأرى. لنعد إلى مار الذى يقول: ومع ذلك، فإن كل تفصيل فى الرسالة يفيض بصدق التجربة. فالتهديد العنيف («سأمزّقك كما يُمزَّق السمك»)، والسخرية اللاذعة («حدث جلل!» أو «ابتع لك شيئًا به!»)، والنزق فى متجر الأب («فليَهلِك ذلك الكلب المريض») ، كلها كلمات لم يختلقها كافكا، بل عايشها وتلك التفاصيل الدقيقة هى ما يمنح النص شدّته: الطفل المطرود إلى شرفة الليل لأنه ألحّ فى طلب الماء؛ الفتى النحيل المرتجف بجوار أبيه فى حمّام السباحة؛ الصبى الذى يرتعد فى المعبد إذ لمح الأب أنّه قد يُستدعى إلى قراءة التوراة؛ حتى مشهد قصّ الأظافر وتنظيف الأذنين على مائدة الطعام ومن هنا تتكشّف الحقيقة الكبرى: أن أدب كافكا كلّه كان عن الأب؟ شخصيًا لا أنسى عبارة كافكا: (كنتَ معيار كل شىء بالنسبة إليَّ). لكن أكثر ما يثير الغموض ذلك المقطع فى الرسالة حيث يلمّح كافكا إلى «أدلة» لم يجرؤ على ذكرها، خشية أن يجعل بها الصورة «فادحة لا تُطاق» فما تلك الأدلة؟ إنّه صمت فادح، غياب ناطق، سرّ لم يبح به حتى لنفسه وهنا يُفتح باب التأويل: إلى أى وادٍ مظلم يشير السيد كا؟ هنا تتجلّى مفارقة كافكا القصوى: تنبع أنقى الأصوات الأدبية من أحلك الأعماق. يقول مار إن إن عالم الأدب فسيح. ومن الممتع أن نطرح هذا السؤال: أيُّ العظماء كان أشدّ تباينًا من الآخر؟ فى المسرح: شكسبير أم بيكيت؟ وفى الشعر: ريلكه أم بريشت؟ وفى السرد الروائى، وهو ما نقصر حديثنا [الكلام لم يزل لِمار] عليه هنا – هيمنجواى أم بروست. قرأ هيمنجواى رواية بروست، وبعد تحفظ أولى، أقر بأن البحث عن الزمن الضائع عمل خالد، وأعلن عن إعجابه بأسلوب بروست. لا ينسى مار الأدب العربي؛ فيقول عن نجيب محفوظ: لقد كان فخر الأدب العربى، وكاد أن يكون ضحيّتَه. حين نال نجيب محفوظ جائزة نوبل للآداب سنة 1988 أولَ عربيٍّ يُتوَّج بهذا الوسام قرأها بعض المتشدّدين استفزازًا متعمَّداً من الغرب وبسبب رواية قديمة [يقصد أولاد حارتنا] وبسبب مواقفه السياسية أفتى الشيخ الضرير عمر عبد الرحمن (من داخل سجنه فى الولاياتالمتحدة) بإهدار دمه، وعُدّ قتلَه قربى يتقبّلها الله. فى عام 1994 تَعرّض محفوظ لطعنات غادرة فى عنقه على يد متطرّف، فأصيب إصابة بالغة عطّلت أعصاب يده اليمنى، فلم يعد يقوى على الكتابة إلا دقائق معدودة كل يوم. كان محفوظ (والكلام على لسان مار) أب الرواية العربية الحديثة بلا منازع. أعاد تشكيل عالم طفولته عام 1947 فى ذلك الكون الروائى المصغر الذى حمل عنوان زقاق المدق. فلنُلقِ نظرة على هذا العالم العجيب. فى الزقاق يغتاب الناس ويثرثرون، يدخّنون الشيشة ويحتسون الشاى، يتعاطون الحشيش، يؤدّون الصلاة ويتوضّؤون إلا من أعجزه العجز. غير أنّ خيط الرواية يلتقطه محفوظ فى شخصية حميدة: فتاة يتيمة الأب، ربيبة لزوجة أب مكروهة هى نفسها الدلاّلة الناجحة. حميدة بارعة الجمال، متطلّبة، ذات طموح، وشاغلها الأكبر: الزينة والثياب. وعلى مدار الرواية، يتقاطع قدرها مع ثلاثة رجال: عباس الحلّاق الطيّب الساذج، وسليم علوان الثريّ الجشع، ثم ذاك الغريب الذى يَبدو أرستقراطيّاً، ليتبيّن أنه قواد محترف. وهكذا تسقط حميدة من أحلام العلوّ إلى هاوية البغاء الراقى، راضية. لكن الرواية ليست مجرد مأساة فتاة، بل لوحة كاملة للمجتمع. فى كل صفحة تقريبًا يحضر اسم الله، غير أنّ استدعاءه غالبًا ما يكون ستارًا للأنانية أو تبريراً للهوى. كلما ظهر سؤال أخلاقى أو موقف مشبوه، جاء الجواب: «الله أراد»، «الله يَسَّر»، «الله يسامحنا». الله هنا بطاقة براءة جاهزة، ودرع يصدّ كل مسؤولية فردية. ومع ذلك، لا يخلو الزقاق من صوت الحكمة: رضوان الحسينى، الرجل الوقور الذى فقد أبناءه جميعًا، فإذا به يزداد إيمانًا ورحمة. هو وحده من يُجسّد جوهر الخير فى الرواية، ويختتم الحكاية بالذهاب إلى الحج، مكرّمًا من أهل الزقاق. تلك الحكمة، كما وصفتها الكاتبة نادين غورديمر، كانت وديعة محفوظ فى أدبه، وهى حكمة لم تستطع حتى طعنات الغدر أن تُطفئ نورها. وفق قراءتى تذهب أطروحة ميشائيل مار إلى أن جوهر الأدب الرفيع – على حد تعبيره- لا يكمن فى العمارة الكبرى وحدها (الحبكة، رسم المشاهد بدقة، الشخصيات المرسومة بحرفية)، بل فى التفصيل الصغير الذى يلتقط ما هو إنسانى وحميم ودقيق، ويرسخ فى الذاكرة. وهذا بالضبط ما يفعله كُتّاب مثل هاندكه أو توماس بيرنهارد، أو موزيل: الانكفاء على الجزئى واليومى، وتحويله إلى جوهر الكتابة. ومع ذلك فقد يبدو هذا الأدب – فى ظنى - «ضد السوق»، لأنه يتطلب من القارئ تركيزًا وتأملاً واصطبارًا على الصغير، فى حين أن القارئ العادى – لا سيما فى بيئات مأزومة أو فقيرة – ينجذب أكثر إلى الأدب الذى يمنحه عالمًا غريبًا (ولنتأمّل الفارق بين غرائبية بيكيت ويوجين يونسكو، وغرائبية تحوّل البشر إلى أقزام وملاءات سرير فى بعض الروايات)، وألعابًا سردية أُلعُبانية، ومشاهد مُخدِّرة تتيح له مهربًا من بؤسه. ومن المؤكد أنَّ ثمة فارقًا بين أن تُمنح نظارة طبية ذات مقاس مضبوط لرؤية الواقع رؤية أوضح، وبين أن تُمنح نظارة Meta Quest . وهو رأى سمعته بأذنى من أحد الكُتاب، حيث برر فهم الشعبية الجارفة لأدب أميركا اللاتينية عندنا لأنه يقدم ما يشبه «السيرك» الذى يساعدهم على نسيان أحوالهم البائسة كل ليلة قبل النوم، وهو مما يفسّر – من جانب آخر - سر ضعف إقبال القُراء على قراءة روايات موديانو، أو ج.ماكسويل كوتزى، أو هاندكه أو بيرنهارد مثلًا، لأن نواياهم الأدبية متواضعة، صادقة، وطموحهم الشخصى أقل بكثير من طموحهم الأدبى كما قال توماس مان وهو يقرأ دون كيخوته. أفكّر أحيانًا فى تفاصيل دقيقة داخل الأعمال الأدبية التى رسخت بذاكرتى، وأرشدتنى إلى سرّ العمل (حسبما فهمتُه) فى كل رواية، وسأسوقها فى المقتطفات الآتية: هل صحيح يا كارامازوف أننا سنرى إيليوشا مرة ثانية؟ نعم نعم..سنلتقى يوم الدينونة ليحكى كل واحد ما حدث بفرح ومرح (كارامازوف)، ثم سأله عمّه وقال يجب أن تخبرنا يا يوزيف ما حكاية هذا التقرير بالضبط فقال كا كلامًا غامضًا معنى ثم شرد وضحك قليلاً (المحاكمة، كافكا) حذرتُها من أن تعود إلى موضوع الخطاب والأمير، وكان من الواضح أننا نريد الهرب بطريقة أو أخرى (حلم 38، أحلام فترة النقاهة - محفوظ) أنا لا أقرؤ ما أكتُبه، لا أكتب من أجل النقود على حذائى. ما أجل ماذا إذن؟ لا أدرى على أى حال كانت الطرق التى سرتُ فيها فى أغلبها مجازات صغيرة فى الغابة (مولوى، بيكيت)، أمرنى الصوت بكتابة التقرير عدت إلى المنزل وكتبت. الوقت منتصف الليل، المطر ينقر على النوافذ. لم يكن الوقت منتصف الليل ولم تكن تمطر (مولوى، بيكيت)، لم أختر الفراشات، الفراشات هى التى اختارتنى (نابوكوف)، لم يختر القط، القط هو الذى اختاره (محذوف من رواية لص اليمين). ثم سأل كا: وها سيقرأ كْلَم، يا حضرة السكرتير، هذا التقرير؟ فقال موموس: لا.. لماذا؟ إن كْلَم لا يستطيع أن يقرأ كل التقارير، بل إنه لا يقرأ أى تقرير، إنه يقول دائماً ابعدوا عنى بتقاريركم (القصر، كافكا). ما الذكريات التى جعّدت جبينه؟ ذكريات المصادفات (عوليس، جويس)، يريدون معرفة الحقيقة وكأنها ستغيّر مما جرى شيئًا..أنت من معدن طيب يا جيم ولكن فيك سرّ غامض.. مزيج جهنمى (لورد جيم، كونراد)، ولكن ما معنى كل هذا، لا بد أنها خدعة لنستمر فى اللعبة بحذر (الأحمر والأسود، ستندال)، وسأله صاحب الحان: أنت لا تعرف القصر؟ فقال كا: هذا صحيح..وما ينبغى للإنسان أن يتسرع فى الحكم (القصر- كافكا)، الأشياء التى أخفيها فى كتابتى، هى أنا (بيتر هاندكه).