فى الساعة الثانية وخمس دقائق من بعد ظهر السادس من أكتوبر 1973، لم يكن الجندى المصرى يعبر قناة السويس فحسب، بل كان يعبر جدارًا من «المستحيلات» صنعته الآلة العسكرية الإسرائيلية، بتخطيط دقيق جعل من الضفة الشرقية كتلة دفاعية هى الأعقد فى التاريخ الحديث لقد واجه المخطط المصرى حالة عسكرية غير مسبوقة، تمثلت فى أول تزاوج بين مانع مائى فريد (قناة السويس) وخط دفاعى حصين (بارليف)، يشكلان معًا وحدة متماسكة يصعب التغلب عليها. لقد صمم العقل العسكرى الإسرائيلى بمعاونة اقوى العقول الأمريكية والأوروبية هذا الدفاع ليشكل أسوارًا مستحيلة من خلال دمج عدة موانع طبيعية وهندسية وعلمية. اقرأ أيضًا | حرب أكتوبر.. تحقيق سري يكشف أسباب الهزيمة الساحقة للموساد فلم يكن خط بارليف مجرد خنادق، بل كان سلسلة من الحصون والمواقع المحصنة المدعمة بكتل خرسانية هائلة، يحميها فى الخلف أكبر حقل ألغام فى التاريخ الحديث يضم أكثر من نصف مليون لغم. كما اعتمد الدفاع على نظرية «الستار النيراني» للدبابات والمدفعية، مدعومًا بتفوق جوى ساحق. وكان التحدى الأكثر رعبًا هو نظام الأنابيب السرية تحت الماء لضخ النابالم وتحويل القناة إلى جحيم مشتعل. الأهم من ذلك كله، كانت «العين التى لا تنام»: شبكة تجسس محكمة، طائرات استطلاع متطورة، ودعم لا محدود بصور الأقمار الصناعية الأمريكية التى جعلت تحقيق المفاجأة الاستراتيجية ضربًا من الخيال. التوفيق الإلهى فى مواجهة هذا الجبروت، لم يكن المخطط المصرى مجرد رد فعل، بل كان عمله تحفة فنية من التخطيط العلمى الدقيق والابتكار التكتيكى والتوفيق الإلهى. من خلال خداع استراتيجى مبتكر خدع أقمار التجسس، واستخدام مضخات المياه العالية الضغط لاختراق الساتر الرملى، وبناء حائط الصواريخ لتحييد التفوق الجوى، وتوقيت العبور فى اللحظة التى تكون فيها الشمس فى أعين الجنود الإسرائيليين، لقد تم تحويل كل «مستحيل» إسرائيلى إلى «نقطة ضعف» يتم استغلالها ببراعة. لم تكن خطة العبور مجرد نظرية عسكرية، بل كانت منهجية علمية دقيقة تحولت إلى واقع على أرض المعركة. فعندما انطلقت صافرات الإنذار معلنة بدء العمليات، كان كل جندى يعرف دوره بدقة متناهية. قام المهندسون العسكريون باستخدام مضخات المياه عالية الضغط - التى جرى تدريب مكثف عليها - بفتح ثغرات فى الساتر الترابى فى ساعات قليلة، بينما كانت كانت قوات المشاة تعبر على قوارب مطاطية وجسور معدنية تحت وابل من النيران. وفى السماء، كان حائط الصواريخ المصرى يؤدى دوره ببراعة، حيث شكل غطاءً جوياً سميكاً أحبط معظم محاولات القوات الجوية الإسرائيلية للوصول إلى منطقة العبور وعمق المحافظات المصرية لقد تحولت نظريات الدفاع الجوى المتطورة إلى واقع ملموس، حيث أسقطت الطائرات المعادية واحدة تلو الأخرى، مما أذهل المراقبين الدوليين. معركة الثغرة بعد نجاح العبور وتمكن القوات المصرية من السيطرة على الضفة الشرقية للقناة، بدأت المرحلة الأصعب فى المعركة: مواجهة الهجوم المضاد الإسرائيلى. هنا برزت القيادة العسكرية المصرية فى أبهى صورها، حيث تمكنت من صد الهجمات المضادة العنيفة باستخدام تكتيكات متطورة فى القتال المنظم. لقد استخدمت القوات المصرية نظام الدفاع المتدرج ببراعة، و تم تركيز صواريخ «مالوتكا» المضادة للدبابات فى مناطق متقدمة، بينما كانت المدفعية تعمل بنظام السيل المنهمر. وكانت معركة «المزرعة الصينية» خير دليل على قدرة الجندى المصرى على القتال فى ظروف بالغة الصعوبة. إن نجاح عملية العبور لم تكن محصلة للقوة العسكرية فحسب، بل كان نتاجاً لتكامل عدة عوامل منها التخطيط العلمى المدروس والتدريب المكثف فى ظروف مشابهة لساحة المعركة والحرب النفسية والتضليل الاستراتيجى والإيمان بالهدف والثقة فى القيادة والتفوق فى استخدام الأسلحة المتخصصة. انتصار الإرادة بعد 52 عاماً على هذه الملحمة، تظل دروس حرب أكتوبر نبراساً يضيء طريق الأجيال القادمة. لقد أثبت الجندى المصرى أن الأمم لا تهزم ما دامت تمتلك الإرادة والعلم والتصميم على النصر. وكانت هذه الملحمة خير شاهد على أن العقول المبدعة تصنع الانتصارات، قبل أن تصنعها الأسلحة. إلى اليوم هذا العبور يتم تدريسه فى أعظم الأكاديميات العسكرية العالمية ليس فقط كأعظم عملية اقتحام للموانع فى التاريخ العسكرى، بل كأعظم درس فى كيف تنتصر الإرادة البشرية المدعومة بالعقل على أعتى الحصون وأكثرها ترويعًا.