حرب أكتوبر 1973 ليست مجرد حدث سياسي أو عسكري عابر في تاريخ المنطقة، بل كانت نقطة تحول جوهرية أعادت صياغة مفاهيم الحرب الحديثة، فبينما كانت الحرب العالمية الثانية قد أرست قواعد الحروب الشاملة والدبابات، جاءت حرب أكتوبر لتثبت أن التفوق التكنولوجي وحده ليس كافيًا لتحقيق النصر، وإنما التخطيط المتقن، والمفاجأة الاستراتيجية، وتطوير التكتيكات يمكنهما أن تغير الأمور والموازين في أرض المعركة. ◄ الألفي: الحرب كشفت عن قدرات توظيف مكونات القوة العسكرية ◄ عبد العزيز: «أكتوبر» غيرت النظريات العسكرية الراسخة في العالم استفادت جيوش العالم، من الشرق إلى الغرب، من حرب أكتوبر 1973 بكنوز من الدروس والخبرات التى غيرت الكثير من العقائد العسكرية في جميع الجيوش النظامية التى دفعتها لتطوير أنظمة أسلحة وتكتيكات جديدة. يقول اللواء دكتور محمد الألفي الخبير العسكري إن انتصار أكتوبر 1973 لم يكن مجرد حدث عسكري عابر، بل كان نقطة تحول حاسمة أعادت صياغة مفاهيم الحرب الحديثة بأكملها، فالدروس المستفادة من هذه المعركة لم تقتصر على الجانب الميداني فقط، بل امتدت لتشمل التخطيط الاستراتيجي، وتطوير الأسلحة، وحتى تغيير العقائد العسكرية للقوى العظمى. ◄ تكتيكات جديدة كان العلم العسكرى الذى يرتكز على الجوانب النظرية والتطبيقية لاستخدام القوة العسكرية المستفيد الأول من هذه التجربة. فقد كشفت الحرب عن قدرات غير مسبوقة فى توظيف مكونات القوة العسكرية الشاملة للدولة، بدءًا من الإنتاج الحربى الذى يخدم الجبهة الداخلية ويدعم الاقتصاد عبر التصدير، وصولًا إلى القوى الدبلوماسية والاجتماعية التى تهدف إلى صون الأمن القومي. ويضيف الألفي أن حرب أكتوبر أثبتت أن التفكير التقليدي لم يعد كافيًا لتحقيق النصر، ففي المعارك البرية، واجه المقاتل المصرى التحدى الأكبر: كيف يصمد أمام الدبابة؟ الإجابة كانت فى تطوير الأسلحة المضادة للدبابات، التى أحدثت ثورة حقيقية في تكتيكات المشاة وأكدت أن العقول المدبرة يمكن أن تتغلب على الدروع الثقيلة. هذا التطور دفع الجيوش العالمية إلى إعادة النظر فى عقائدها والتركيز على العمل المشترك بين مختلف القوات. ◄ اقرأ أيضًا | احتفالا بذكرى أكتوبر.. قطار الإنسانية يحط رحاله في قرية العبيدات بمدينة الشيخ زويد ◄ الأسلحة البحرية أما على الصعيد البحري، فقد كان استخدام لنشات الصواريخ والعمليات الخاصة البحرية عاملًا حاسمًا في حرمان العدو من الاقتراب من قناة السويس. وقد أدى ذلك إلى تطور كبير فى الأسلحة البحرية ومناطق عملها، لتخدم خطط الفتح الاستراتيجى والتعبوي. وفي الحرب الجوية، شهد الأسطول الجوى المصرى تحديثًا كبيرًا بعد الحرب. لكن الدرس الأهم كان فى فاعلية الحرب الإلكترونية والطائرات التى يصعب اكتشافها راداريًا. لقد أثبت «حائط الصواريخ» المصرى أن الدفاعات الجوية يمكن أن تشل حركة الأساطيل الجوية، وهو ما أدى لاحقًا إلى ظهور طائرات بدون طيار (المسيرات) التى تعد تطورًا مباشرًا لهذه الفكرة. ● لواء محمد زكي الألفي ■ لواء محمد زكي الألفي ◄ الابتكار الهندسي ويؤكد اللواء الألفى أن حرب أكتوبر كانت مثالًا حيًا على أهمية الخداع الاستراتيجي. فالخطة المصرية التى اعتمدت على توقيت هجوم غير متوقع، خلافًا لتقديرات العدو التى توقعت هجومًا ليليًا، مكنت القوات من فتح المعابر وإنشاء رؤوس الكباري. ولم يقتصر الابتكار على التكتيكات فقط، بل امتد إلى الهندسة العسكرية. فقد كان استخدام مضخات المياه لكسر خط بارليف المنيع إنجازًا هندسيًا فريدًا من نوعه، أثبت أن الإبداع يمكن أن يتفوق على التحصينات المعقدة. في النهاية لم يقتصر تأثير حرب أكتوبر على تطوير الأسلحة والخطط، بل غيرت من النظريات العسكرية للقوى الكبرى. فقد أثبتت الحرب أن احتلال الأرض ليس ضمانًا للأمن، مما دفع إسرائيل للتركيز بشكل أكبر على القوة الجوية والاستخبارات بدلاً من الاعتماد الكلى على القوات البرية، وهو ما نراه بوضوح فى حروبها اللاحقة. كما سرَّعت الحرب من وتيرة تطوير الصواريخ الباليستية والفرط صوتية، لتظل دروسها حية ومؤثرة فى ساحات المعارك حتى يومنا هذا. ■ لواء عبدالعزيز عمر ◄ تغير النظريات العسكرية ويقول اللواء عبد العزيز عمر الخبير العسكرى إن انتصار أكتوبر لم يكن مجرد معركة حُسمت بالنيران والحديد، بل كان ثورة علمية حقيقية غيرت النظريات العسكرية الراسخة فى العالم أجمع. فبينما كانت الحروب تبدأ منذ فجر التاريخ فى أول ضوء أو آخره، كان قرار الهجوم فى الثانية ظهرًا بمثابة إعلان عن ميلاد فكر عسكرى جديد، مبنى على العلم والتخطيط الدقيق والتدريب الواقعى الذى كان يحاكى أدق تفاصيل ساحة المعركة. ويضيف عبد العزيز أن الإنجاز الأكبر لم يقتصر على هزيمة العدو، بل كان فى كيفية تحييد تفوقه النوعي. فالعقيدة العسكرية التقليدية تقول إن الطائرة تواجه طائرة، والدبابة تقاتل دبابة. لكن حرب أكتوبر كشفت عن معادلة جديدة؛ فقد استطاع المقاتل المصري، بسلاحه المضاد للدبابات، أن يواجه أضخم الدبابات، فى معركة غير متكافئة فرضها بعبقريته على أرض الواقع. هذا التكتيك أتاح للقوات فرصة لصد هجمات العدو المدرعة، ومنح المهندسين العسكريين الوقت الكافى لإتمام معجزة بناء الكبارى فوق قناة السويس. ◄ سيطرة جوية كاملة وعلى نفس المنوال تمكن الدفاع الجوى المصرى من فرض سيطرة جوية كاملة على منطقة بعمق 15 كيلومترًا، وهو إنجاز لم يتحقق فى أى حرب سابقة. ورغم ضعف إمكانيات القوات الجوية المصرية آنذاك، إلا أنها لعبت دورًا حاسمًا فى توفير غطاء جوى مكّن القوات البحرية من تنفيذ مهمتها بامتياز. فقد نجحت القوات البحرية فى إغلاق مضيق باب المندب بالكامل، وقطعت خطوط إمداد البترول عن إسرائيل، خاصة القادمة من القواعد الأمريكية فى شرق آسيا. ولم تكن الحرب مجرد قتال بالأسلحة الثقيلة، بل كانت حرب عقول وتخطيطاً لوجستياً محكماً. فقد تم استخدام قوات الصاعقة والمظلات بفاعلية خلف خطوط العدو، بينما أثبتت الفرق اللوجستية براعتها فى إمداد القوات المحاربة بالمياه والوقود والطعام، بأساليب مبتكرة لم يسبق لها مثيل فى الحروب. ◄ تحطيم خط بارليف ويؤكد اللواء عبد العزيز عمر أن المعجزة الأكبر كانت فى تحطيم خط بارليف المنيع، الذى كان يُعتبر من المستحيلات. فمهندسو الجيش المصرى واجهوا مشكلة هندسية فريدة؛ فالخط الذى كان مصممًا من الحجر الجيري، كان يزداد تماسكًا وقوة مع كل قذيفة مدفعية. لكن العبقرية المصرية أذهلت العالم باستخدام مضخات المياه، التى تمكنت من إذابة الرمل، لإنشاء فتحات داخل الساتر الترابى أمام الكباري، وكانت النقاط الحصينة خلف الساتر الترابى فقد كانت محاطة بالألغام ويستحيل تدميرها لذلك تم اقتحامها بأسلوب فريد لا يمكن تحقيقه إلا بمقاتل مصرى شجاع ومدرب، وقد كان تدمير خط بارليف تجاوز التقديرات الدولية التى زعمت أن الخط يحتاج لقنبلة نووية لتدميره. كما تمكن المهندسون العسكريون من التغلب على عقبة أخرى، وهى مواسير النابالم التى زرعها العدو فى القناة. فبعد أن كانت هذه المواسير تُشعل سطح المياه لتحويل القناة إلى كتلة من اللهب، ابتكر المصريون أسمنتًا يتجمد تحت الماء، واستطاعوا سد جميع الفتحات. لقد كانت حرب أكتوبر فى جوهرها علمًا متكاملًا ومعقدًا. تداخلت فيها جهود المهندسين والمشاة، والمخابرات، والاستطلاع، والقوات الجوية والمدفعية، لتمثل سيمفونية عسكرية متناغمة، هذا التخطيط الدقيق، المقترن بشجاعة الجندى المصرى الذى لم يخشَ اقتحام أعتى التحصينات، هو ما جعل النصر ممكنًا. إنها دروسٌ لا تزال تُدرَّس فى المعاهد العسكرية حول العالم حتى اليوم.