حسان أحمد شكاط لا أدرى كم من الوقت قضيته وأنا منشغل بقراءة رواية «رجال التحرى المتوحشون» للكاتب التشيلى روبرتو بولانيو، لم أتوقف إلا حينما أحسست بألم رهيب فى أعلى رقبتى وكتفى وأنا الذى أعانى أصلا من الانزلاق الغضروفى، ألقيت نظرة صوب الساعة الحائطية الكبيرة التى تتوسط الصالون. فإذا بها الحادية عشرة ونصف ليلا. لقد أخذتنى الرواية بصفحاتها التى تتجاوز الثمانمائة إلى درجة أننى لم أنتبه لمرور الوقت. وضعت الرواية على طاولة صغيرة وفى نيتى أن أخلد النوم فيما تبقى من ساعات هذه الليلة لكننى سرعان ما غيرت رأيى حينما شعرت بجوع شديد يعتصر أمعائى، تذكرت بأننى لم أتناول وجبة العشاء توجهت نحو المطبخ وشرعت فى تحضير وجبة لازانيا بقطع الإسكالوب رغم أننى على علم أنها ستكون مضرة لمعدتى فى هذا الوقت المتأخر لكن لا بأس كل ما يهمنى الآن هو أن أسكت جوعى. انهمكت فى تحضير الطبق وبعد الفراغ من إعداده تناولت كمية كبيرة، فازدادت رغبتى فى النوم غادرت المطبخ دون أن أقوم بغسل الأوانى حين كنت متجها نحو غرفة النوم مررت على الصالون وفى نيتى أن آخذ الكتاب معى للغرفة وهناك على الطاولة الصغيرة لم تكن رواية بولانيو موجودة وقد كنت على يقين تام أننى قد تركتها هناك قبل أن أغادر حاولت إقناع نفسى بأننى وضعتها فى مكان آخر دون أن أتذكر فعدت إلى المطبخ باحثا عنها لكنها لم تكن هناك، عدت إلى الصالون وبحثت بين الكتب الكثيرة المتراصة فى المكتبة لكن دون جدوى، ازدادت رغبتى فى النوم فقررت تأجيل عملية البحث بعد الاستيقاظ صباحا. بمجرد ولوجى إلى غرفة النوم اندهشت حين لمحت رواية «رجال التحرى المتوحشون» موضوعة فوق السرير. غريب جدا فأنا لا أذكر أننى دخلت غرفة النوم منذ أن عدت للبيت أى أننى حين غادرت الشقة صباحا قاصدا عملى لم أعد إليها إلا الآن، بل بقيت فى الصالون أقرأ الكتاب دون انقطاع. لم أفكر طويلا فى الأمر المريب. قررت أن أستلقى على السرير وأنام وكان جسدى شبه مخدر من التعب، صحوت بعد ساعات من النوم المتواصل. ألقيت نظرة إلى الساعة الإلكترونية المضيئة وكانت تشير إلى الرابعة وخمسة عشرة دقيقة أحسست أننى قد نلت كفايتى من النوم. فأنرت مصباح الغرفة وفى نيتى مواصلة قراءة رواية بولانيو وكان وقع الصدمة جد عنيفاً علىَّ. فالرواية لم تكن موجودة فوق سريرى حيث تركتها، تسلل شىء من الخوف إلى نفسى وبدأت أشك فى الأمر فمن المستحيل أن يكون كل هذا مجرد سهو ونسيان. فى البداية كنت أقنع نفسى بأننى قد تركت الرواية فى غرفة النوم رغم يقينى أننى قد تركتها فى الصالون كما أننى لا يمكننى أن أشك أننى رأيتها هنا فوق سريرى هذا قبل أن أستسلم للنوم. رحت أجيل نظرى فى كامل أرجاء الغرفة استلقيت على صدرى وبحثت تحت السرير لا فائدة لم يكن الكتاب هناك، اندفعت خارج الغرفة بهستيرية وبمجرد أن أنرت مصباح الصالون اصطدمت بالرواية على طاولة الصالون الصغيرة كانت صدمة بحق جعلت جسدى يتخذر ولا يقوى على القيام بأى حركة بسيطة. بعد عناء تحاملت على نفسى وجلست على الكرسى وأنا أستجمع لصدرى أنفاسا مبعثرة، حدقت نحو الكتاب فكان كما تركته بالأمس قبل أن أعد طبق اللازانيا ترى هل كان هنا منذ البداية ولم يبرح مكانه نحو غرفة النوم، لا أحد غيرى يعيش فى هذه الشقة مما يعنى أننى الوحيد المخول له نقل الأشياء من مكان لآخر. حاولت أن أتناسى الأمر وأقنعت نفسى بأن التعب وحاجتى للنوم جعلانى أتخيل كل ما حدث وأن الرواية لم تبرح مكانها فى الصالون منذ البداية. تناولت الكتاب وواصلت القراءة بنهم. حين اقترب موعد المغادرة إلى العمل بساعة قمت بإعداد فطور بسيط عادة ما يكون كوب حليب ومربى مشمش وخبز بعدها غسلت الأوانى التى تركتها بالأمس بعد ذلك حلقت ذقتى وغيرت ملابسى وقبل أن أغادر ألقيت نظرة أخيرة نحو رواية بولانيو المتواجدة على طاولة الصالون. بعد انقضاء ساعات العمل تجولت لبعض الوقت فى شوارع المدينة واشتريت بعض الخضر وشرائح «إسكالوب» وبعض قطع حلوى «ميلفاى». فى طريق العودة مررت على مكتبة «النخيل» واقتنيت رواية أخرى لبولانيو وهى «ليل تشيلى» وقد كنت مترددا فى شرائها حتى غيَّرت رأيى بعد أن قرأت فى رواية «رجال التحرى المتوحشون»، تذكرت أحداث الليلة الفائتة وتساءلت عن مصير الكتاب هل لازال متواجدا على الطاولة فى الصالون أم قرر أن يختار لنفسه مكانا آخر، ارتحت لفكرة أننى قد تأكدت من مكان تواجده قبل المغامرة هذا الصباح وقد أقنعت نفسى بعدم وجود أمر مريب سوى أن تعب الأمس جعلنى أتشتت وأنسى كيف تصرفت وأين تركت الكتاب أدرت المفتاح فى قفل الباب وكانت نبضات قلبى تتسارع. وبمجرد أن ولجت إلى الداخل سكنتنى صدمة كبيرة حين اكتشفت أن الكتاب غير موجود على طاولة الصالون. فى هذه المرة أصبحت الصورة واضحة فالكتاب ينتقل من مكان لآخر بفعل فاعل أو من تلقاء نفسه ولا يوجد تفسير آخر لهذا الأمر سوى أننى شخص مجنون، بقيت للحظات أحسست أنها كالدهر وأنا واقف دون حراك فى مكانى أمام باب الشقة لقد تسلل الرعب إلى نفسى فكيف لى أن أبيت هذه الليلة فى بيت تحدث فى أشياء مريبة أو تسكنه أرواح شريرة لكن لا مفر يجب أن أتشجع وأدخل يجب أن أواجه الأمر وأكتشف ما يحدث هنا فى النهاية البيت بيتى ولم أسمح بحدوث المزيد من التجاوزات أغلقت الباب وتجولت فى كامل أرجاء الشقة باحثا عن رواية بولانيو فى الصالون وفى المكتبة وفى غرفة النوم وتحت السرير وأخيرا فى المطبخ لم يكن الكتاب موجودا فى أى مكان. سئمت من البحث الطويل والذى لم يأتِ بفائذة. فكرت أن أضع الأشياء التى اقتنيتها فى الثلاجة. وبمجرد أن فتحتها انتشرت قشعريرة مدوية فى جسدى. لقد كانت الرواية هناك داخل الثلاجة ألقيت من يدى أكياس المشتريات وتراجعت نحو الخلف مرعوبا. الآن لا مجال للشك كل ما يحدث مدبر هناك من يتلاعب بأعصابى ويحاول دفعى إلى الجنون. تحليت ببعض الشجاعة وتقدمت صوب الثلاجة وأخرجت الكتاب منها، أفرغت أكياس المشتريات وقصدت غرفتى وأنا أحمل فى يدى رواية بولانيو المشؤومة وكذلك الرواية الجديدة التى اقتنيتها فى طريق الرجوع «ليل تشيلى» ألقيت بهما على المكتب المتواجد داخل غرفة النوم وجلست على السرير وأنا أحدق إلى الكتابين فى حيرة ورعب وترقب كيف يمكننى أن أنام فى هذه الشقة بعد كل ما حدث لا أدرى كم استغرقت على تلك الحال قبل أن أستسلم للنوم أخيرا، بعد ساعات فتحت عينىَّ على صوت مألوف كان صوت ضربات متتالية أنا أعرف هذا الصوت جيداً إنه صوت آلة الكتابة القديمة نعم إنه صوت الرقن على الآلة الكاتبة الصوت يأتى من ناحية المكتب، انتصبت واقفا من وقع المفاجأة حينما لمحت على ضوء القمر المتسلل عبر النافذة خيال شخص منهمك فى الرقن على الآلة الكاتبة. سارعت إلى إنارة مصباح الغرفة وفى ظنى أن الشخص المنهمك فى الكتابة سيختفى، لكن ما حدث أنه لازال هناك على وضعه يرقن بلا توقف على الآلة يرتدى سترة جلدية سوداء. جسده نحيل. ناديته ونبرات الرعب تكتم صوتى: -من أنت وماذا تفعل فى بيتى؟ توقف عن الكتابة قبل أن يلتفت فى بطء نحوى وبمجرد أن رأيت ملامحه أدركت أننى أعيش مرحلة كلها مفاجآت مرعبة كان ذلك الشخص هو الكاتب روبرتو بولانيو صاحب الرواية التى تختفى وتغير أماكن تواجدها. -هل هذا أنت بولانيو؟ ابتسم وهز رأسه تأكيداً على أنه كذلك كنت أعرف بولانيو من صوره المنتشرة عبر جوجل والموجودة على أغلفة رواياته قام عن الكرسى وتقدم نحوى وهو ينفث دخان سيجارته قبل أن يقول: -لقد عرفتنى إذن؟ أجبته بنبرات مهزوزة: -بولانيو هذا أنت بولانيو -نعم إنه أنا وقد جئتك ضيفا هذه الليلة وأرجو أن تعذرنى على مزاحى الثقيل فيما يخص اختفاء الرواية وظهورها فى أماكن مختلفة.. لقد كنت أختبر درجة صبرك. عاد نحو المكتب والتقط الرواية وعاد نحوى وهو يكتب عبارة ما على الصفحة الأولى للكتاب. وضعه أمامى وغادر ونفس الابتسامة لا تبارح ثغره. أغلق خلفه الباب واختفى. استيقظت فى الصباح وتذكرت الحلم الذى رأيته فيما يخص ظهور بولانيو فى غرفتى. رأيت الرواية موضوعة على المكتب فقمت وتناولتها وفتحت الصفحة الأولى فإذا يإهداء مكتوب باللغة الإسبانية: عزيزى أيها القارئ الصبور يسعدنى أن الرواية قد نالت إعجابك وقد أبهرنى صبرك على مزاحى الثقيل ورغم ذلك لم تتخلص من الرواية بل بقيت متمسكا بها حتى النهاية. أهديك هذه الرواية مع التحيات والمحبة.. بولانيو.