عامان فى عمر الزمن، لا يساويان شيئًا يذكر، فى مسار عقود الصراع العربى الإسرائيلى، ولكنهما بحكم الأحداث والتطورات التى شاهداها، والمتغيرات التى عاشتها المنطقة، يبدوان مختلفين واستثنائيين بكل المقاييس، حيث شهدا تقدمًا كبيرًا لصالح الحق الفلسطينى، وتراجع الرؤية الإسرائيلية، ونهاية دور المظلومية التى روجتها تل أبيب وعاشت عليها لحقب طويلة، والشواهد كثيرة، ولضيق المساحة سأتوقف عند بعضها: ففى مثل هذه الأيام منذ عامين، وقف نتنياهو على منصة الأممالمتحدة، متباهيًا يروج لانتصاراته، التى حققها، وإنجازات قادمة على صعيد التطبيع مع الجوار، وها هو منذ أيام، يقف مرتبكًا مع شعور كبير بالخزى، وهو يشاهد لحظة انسحاب وفود 77 دولة من قاعة الأممالمتحدة، مع بدء إلقائه لكلمته، ليخاطب نفرًا من وفود محدودة، فى مقدمته الوفد الإسرائيلى، وحتى مسألة وصوله نيويورك بطائرته التى يطلق عليها (جناح صهيون)، فقد عانت رحلته من توابع العزلة الدولية، فتجنبت عبور أجواء عدد كبير من الدول الأوروبية، باستثناء إيطاليا واليونان، وطار عبر مضيق جبل طارق، بعيدًا عن الأجواء الإسبانية، ويكفى أن نتوقف قليلًا فى قراءة مضمون خطابات القادة ورؤساء الوفود من كل قارات العالم، من على منصة الأممالمتحدة، التى حظيت بدعم غير محدود للحق الفلسطينى، وتنديدًا بالإجرام الإسرائيلى، وممارسة الإبادة الإنسانية، وارتكاب جرائم حرب منذ عامين فى القطاع. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففى يوليو من العام الماضى، وقف رئيس الوزراء الإسرائيلى أمام الكونجرس الأمريكى، ليلقى خطابًا استمر أقل من ساعة بقليل، قاطعه الأعضاء بالتصفيق والصفير 81 مرة، وهو يتحدث حول رؤيته لقطاع غزة بعد الحرب، والتحالف الأمريكى مع تل أبيب، فى مواجهة قوى الشر فى إيران كما يقول، وها هو الرئيس الأمريكى ترامب فى نهاية شهر أغسطس الماضى، يحذر من أن اللوبى الإسرائيلى يخسر نفوذه فى الكونجرس، حيث لم تعد تحظى بالتأييد الحديدى من النواب والشيوخ، تحت قبة الكابيتول، يضاف إلى ذلك أن حرب غزة، هى من أدت إلى شرخ فى الحزب الديمقراطى، دفع ثمنه بايدن فخسر الانتخابات، وبعدها انتقلت العدوى إلى الجمهورى، كل ذلك بعد أن أصبح الصراع الإسرائيلى الفلسطينى جزءًا أساسيًا من النقاش السياسى فى أمريكا، وتكشف استطلاعات الرأى عن تراجع انخفاض تأييد الشباب الأمريكى لعمليات تل أبيب ضد أهالى غزة، مع توجه مثير فى الكونجرس يتكون لتعزير الرقابة على المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل، ومع ذلك كله فلم يعد باقيًا له سوى مظلة الدعم الأمريكى التى تحميه سياسيًا، ولعل آخر مظاهرها خطة ترامب التى أعلنها مساء الاثنين الماضى التى تسعى إلى تحقيق أهداف نتنياهو التى عجز عنها طوال عامين، عسكريًا بعمليات إبادة جماعية للشعب الفلسطينى، كما خلقت لها (حط صد) بعد استخدام الفيتو للمرة السادسة ضد قرار من مجلس الأمن لوقف العدوان الإسرائيلى فى غزة. هذا يعنى ببساطة، أننا أمام مشهد سياسى مختلف، وبداية مرحلة جديدة تعانى فيه تل أبيب، من حالة عزلة، بعد انتهاء دور المظلومية التى أجادته طوال تاريخها، والذى انعكس على الموقف الأوروبى، فمن المعروف أنه منذ نشأ الكيان الإسرائيلى، وهو يعتمد على أوروبا وأمريكا، كأسباب لاستمرار سياساته التى كانت تحظى بدعم كامل لها، بل تحملا معًا عبء وجودها والدفاع عنها، حيث تغير الحال بعد أن تحول الأمر إلى تهدد مصالحها فى المنطقة العربية، ناهيك عن رأى عام وتوجه شعبى رافض للممارسات الإسرائيلية، ويكفى أن نقارن بين قيام أوروبا بتوفير غطاء سياسى لإسرائيل فى الأسابيع الأولى لعملية طوفان الأقصى، وتبنتها السردية التى روجتها تل أبيب، حول أكاذيب قتل الأطفال واغتصاب النساء، يومها دعمت العمليات العسكرية الهادفة إلى القضاء على حركة المقاومة. وسأتوقف عند الموقف الإسبانى نموذجًا، على التحولات الكبرى فى هذا الإطار. وكانت البداية فى ديسمبر 2023 أكد رئيس الوزراء الإسبانى بيدرو سانشيز أن بلاده ستعترف بالدولة الفلسطينية حتى لو تحصل على الدعم الأوروبى للخطوة وهو ما أعاد تأكيده فى أبريل من العام الماضى وقد اعترفت بالفعل مع أيرلندا والنرويج ومن ذلك بدأت إسبانيا فى اتخاذ العديد من الإجراءات ضد إسرائيل على خلفية استمرار العدوان الإسرائيلى، ففى 13 سبتمبر الماضى أعلنت إسبانيا تسعة إجراءات عقابية ضد إسرائيل، ومنها تحويل الحظر الفعلى على مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل إلى مرسوم ملكى دائم، وبالفعل تم تفعيل حظر تصدير أسلحة بقيمة 700 مليون يورو، وتكرر الأمر فى صفقات أخرى، مع حظر واردات قادمة من المستوطنات الإسرائيلية، ومنع مرور أى وقود أو مواد تستخدم لأغراض عسكرية عبر أراضيها وموانيها، بل الوصل الأمر إلى منع مرور طائرات وسفن أمريكية محملة بأسلحة وذخائر إلى إسرائيل، وكشف استطلاع للرأى، عن أن 82 بالمائة من الأسبان، يعتبرون ما تفعله إسرائيل فى غزة إبادة جماعية، وتزايدت المطالبات من قوى اليسار بقطع العلاقات مع تل أبيب، كما تم منع المتورطين فى جرائم الإبادة الجماعية، من دخول البلاد ومنهم وزراء مثل بن غفير وسيموتريش. إسبانيا نموذج لمواقف أوروبية متوقعة، تمثل ضوءًا فى نهاية النفق، رغم محاولات واشنطن القفز على الواقع، وإنقاذ نتنياهو من المأزق الذى يعيشه، وطرح مبادرات صعب تنفيذها على الأرض.