منذ اندلاع حرب غزة فى أكتوبر 2023 والضغوط تتصاعد على مصر لتتحول من دولة جوار إلى طرف متورط فى معادلة تصفية القضية الفلسطينية. الضغوط لم تكن مجرد تصريحات أو ضغوط دبلوماسية ، بل حملت فى طياتها تهديدات مبطنة ومحاولات ابتزاز سياسى واقتصادى وترويج شائعات منظمة تسعى لخلق صورة مشوهة عن الموقف المصرى. لكن الثابت الوحيد وسط هذا الضجيج كان وضوح الرؤية المصرية: لا تهجير ولا تنازل عن الثوابت ولا خضوع لإملاءات تُفقد مصر مكانتها أو تُفرغ القضية من جوهرها. الفكرة الجوهرية التى حاولت بعض القوى فرضها تقوم على ما يسمى الحل العملى لأزمة غزة ، أى نقل سكان القطاع إلى سيناء باعتبارها الأرض الأقرب والأكثر اتساعا. قد يبدو الطرح للبعض مجرد حل مؤقت لكنه فى حقيقته إعادة إنتاج لمخطط قديم يستهدف إفراغ الأرض الفلسطينية من أصحابها وتحويل الصراع إلى أزمة إنسانية بدلا من كونه قضية تحرر وطنى. إدراك القاهرة العميق لهذه الحقيقة هو ما جعل ردها قاطعا منذ اللحظة الأولى: رفض مطلق للتهجير سواء كان قسريا أو طوعيا لأن القبول به يعنى إسقاط الهوية الفلسطينية وإسقاط الدور المصرى معا. لم يقتصر الأمر على الموقف المبدئى ، بل امتد إلى إدارة سياسية محكمة للمشهد. فبينما كانت بعض القوى الدولية تلوح بالعقوبات أو تربط المساعدات الاقتصادية بمواقف معينة كانت القاهرة تتحرك بذكاء على مسارين: الأول دبلوماسى عبر بناء جبهة عربية وإقليمية تؤكد وحدة الموقف ضد التهجير ، والثانى ميدانى عبر تعزيز حدودها الشرقية وضبط أى محاولات تسلل أو تهريب تستهدف فرض أمر واقع جديد. بهذا المعنى لم يكن الرفض المصرى مجرد شعارات بل ممارسة عملية تستند إلى حماية الأمن القومى من جهة وصيانة جوهر القضية الفلسطينية من جهة أخرى. المثير أن هذا الثبات المصرى جاء فى لحظة كان فيها العالم يعيش ازدواجية فجة: دول كبرى تغض الطرف عن جرائم الإبادة فى غزة ، ثم تطالب مصر بفتح حدودها لاستيعاب اللاجئين. هنا تحديدا ظهر البعد الأخلاقى للموقف المصرى إذ لم تكتف القاهرة بالرفض ، بل طالبت بوقف الحرب وإدخال المساعدات وتثبيت حل الدولتين كخيار وحيد للسلام العادل. بمعنى آخر لم يكن الرد على الابتزاز مجرد حماية للحدود ، بل إعادة توجيه البوصلة الدولية نحو أصل القضية: الاحتلال لا اللجوء الاستيطان لا الإغاثة الحق فى الأرض لا مجرد الحق فى البقاء على قيد الحياة. ورغم ما تعرضت له مصر من حملات تشويه ممنهجة سواء عبر وسائل إعلام غربية أو من خلال جيوش إلكترونية مرتبطة بتنظيم الإخوان ، فإن التجربة أثبتت أن الشائعات لم تنل من مصداقية الموقف. على العكس عززت هذه الحملات صورة مصر كطرف متمسك بالثوابت وكسرت محاولة تصويرها كدولة قابلة للضغط أو المساومة. ولعل ما كشفه أكثر من تقرير دولى عن التنسيق غير المعلن بين بعض الدوائر الصهيونية والتنظيم الدولى للإخوان لترويج أكاذيب التهجير يوضح حجم الرهان على إسقاط الدور المصرى وحجم الخيبة حين فشلت هذه الرهانات. القيمة الكبرى فى الموقف المصرى أنه لم ينطلق فقط من منطق الدفاع عن السيادة الوطنية بل من رؤية استراتيجية تعتبر أن أمن فلسطين هو امتداد مباشر لأمن مصر. فالتاريخ أثبت أن أى محاولة لفصل غزة عن عمقها الطبيعى تنعكس فوراً على استقرار سيناء، وأى إضعاف للهوية الفلسطينية يصب فى صالح مشاريع التوسع الإسرائيلى. لذلك كانت القاهرة واعية بأن الدفاع عن الثوابت ليس ترفاً سياسيا بل ضرورة وجودية تحمى حاضرها ومستقبلها. اليوم وبعد التصويت التاريخى فى الأممالمتحدة لصالح الاعتراف بالدولة الفلسطينية يتأكد أن الموقف المصرى لم يكن عنادا ولا تشددا ، بل قراءة دقيقة لمسار الأحداث. لو رضخت القاهرة للابتزاز وفتحت حدودها للتهجير لكان المشهد الدولى مختلفا: دولة بلا أرض، واحتلال بلا تكلفة، وصراع يُختزل فى معسكرات لجوء. لكن تمسك مصر بالثوابت هو الذى أبقى القضية حية ، ودفع المجتمع الدولى للاعتراف بأن الحل الوحيد هو الدولة الفلسطينية المستقلة لا أى بديل آخر. الخلاصة أن مصر واجهت بين التهجير والابتزاز لحظة اختبار قاسية لكنها خرجت منها أكثر قوة ومصداقية. لقد حمت حدودها ، وحافظت على ثوابتها وأثبتت أن السياسة ليست فقط فن الممكن بل فن حماية ما يجب أن يبقى غير قابل للتفاوض. وفى زمن تتهاوى فيه مواقف دول كبرى تحت ضغط المصالح يظل الثبات المصرى رسالة بأن الكرامة والسيادة يمكن أن تنتصر وأن فلسطين ستظل جوهر الصراع لا ورقة فى لعبة الابتزاز الدولى.