التاريخ لم يعد يكتبه المنتصرون وحدهم؛ وإنما يكتبه كل من يملك كاميرا فى يده؛ سواء أكانت مُنصفة أو غير مُنصفة. أعداد الشهداء من الصحفيين والإعلاميين الذين يستهدفهم الكيان الصهيونى المُجرم ليست عشوائية؛ وإنما تؤكد أنه يُدرك جيدًا قيمة صفعات التاريخ وصفحاته، وما سوف تُسجله بأحرف من نار ودمار لكل ما قام به أبناؤه شذاذ الآفاق من خيانة لكل القيم الإنسانية التى تعارف عليها الناس منذ بدء الخليقة، وما جاءت به كل الكتب السماوية.. وقد خاب سهمه، فلا توجد فرصة لطمس جرائمه فى عصر الصورة المقتحمة لكل خبايا وزوايا هذا العالم؛ ولهذا نستطيع القول: إن التاريخ لم يعد يكتبه المنتصرون وحدهم؛ وإنما يكتبه كل من يملك كاميرا فى يده؛ سواء أكانت مُنصفة أو غير مُنصفة.. وإذا كان الواقع يشهد أن الخوف من توثيق الأحداث لم يعد محلّ اهتمام من المجتمعات القاهرة التى تنشغل باهتبال اللحظة الحاضرة بكل ما تحمله من انتفاع مادى وانتكاس أخلاقي، فإن توثيق الأحداث لا تزال له صولته الغالبة فى تاريخ الشعوب. وتؤكد العديد من البحوث الإعلامية أن هناك تغيرًا كبيرًا فى التعامل مع الواقع المصرى بعد 2011م؛ وأن العقيدة الثابتة لتنمية الوعى الشعبى المصرى بخطورة الأفكار الدخيلة على طبيعة هذا الشعب العريق، إنما تأتى بكشف كل موبقات الجماعات المتطرفة، وحجم التمويل المادى والإعلامى الذى تحصل عليه من أعداء الوطن، وهو ما انعكس بصورة كبيرة فى زيادة التوعية الثقافية، وانبثاق الأفكار الواعية بخطورة أفكار هذه الجماعات الإرهابية على مستقبل الوطن. ومن هنا تأتى أهمية المسلسلات الدرامية والأفلام الوثائقية لبطولات أبنائنا من رجال القوات المسلحة والشرطة عند التصدى للإرهابيين، وإبراز أن هؤلاء الخوارج لا دين لهم، مع إمداد القنوات الفضائية بالعديد من الوثائق المكتوبة والأفلام المرئية أثناء مكافحة الأعمال الإجرامية، وكشف الكميات الكبيرة من المواد المتفجرة والأسلحة المعدّة للعمليات الإرهابية، والتى قامت قواتنا بكشفها قبل استخدامها ضد المواطن المصرى البسيط، أو المقاتل الساهر على حماية وطنه. خطوات جادة لإدارة الشئون المعنوية تكشف عن رأى ورؤية شاملة عندما أولت أهمية كبرى للتوثيق المرئى والصوتى لجنودنا فى مواجهة الهجمات الغادرة للإرهاب الإخواني، سواء أكان بنشره فى الصحف أو ببثّ بعض مقاطع الفيديو فى أفلام السينما والأعمال الدرامية وبرامج التوك شو، وهو ما أضفى مصداقية كبيرة عند المواطنين للجهود والتضحيات التى يقدمها جنودنا للدفاع عن حدود الوطن ووجوده؛ خاصة مع التصميم الذى يؤكده دائمًا القائد الأعلى للقوات المسلحة، بعدم التهاون مع الإرهابيين أو التصالح معهم، ولا من يدعمهم من خارج الوطن. ثقافة المطران الإثنين الماضى استقبل الإمام الأكبر د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وفدًا من آباء الرهبانية الأنطونية المارونية بلبنان، برئاسة الأب بشارة إيليا؛ حيث أعرب الوفد عن سعادتهم بلقاء شيخ الأزهر، وتقديرهم الكبير لما يقوم به من جهود كبيرة فى نشر قيم الأخوة الإنسانية وتعزيز التعايش الإيجابى وقبول الآخر. وقد أعادنى هذا اللقاء الودود لشيخ الأزهر بالطائفة المارونية إلى رحلتى منذ سنوات قريبة إلى المطرانية المارونية بحى الظاهر بالقاهرة، لإعداد ملف عن تاريخ المارون بمصر، تم الاتفاق عليه مع زميلى المثقف الكبير الأستاذ عصام السباعي، رئيس التحرير وقتها، والذى نشره بمساحة وافية بمجلة «آخر ساعة»، وكان لقائى بالمطران جورج شيحان، رئيس أساقفة أبرشية القاهرة المارونية لمصر والسودان، والرئيس الأعلى للمؤسسات المارونية فى مصر، والزائر الرسولى على شمال إفريقيا؛ ذلك الإنسان المثقف النبيل، الذى ظل لساعات يُبادلنى الحديث فى الشعر والأدب والتاريخ؛ حتى إذا جاء وقت صلاة العصر سمح لى بالصلاة داخل المطرانية بكل الحب والإخلاص؛ وهو ما يؤكد أن الثقافة العربية قادرة على تجاوز الاختلافات العقدية، وأن أفكار المواطنة والتسامح وقبول الآخر لم تعد أدوات رفاهية للاستهلاك الإعلامي؛ وإنما أصبحت ضرورة قومية عربية تعى مكائد المُخربين والمُنتفعين من أذناب الاحتلال، وتردّها على أدبارها خائبة؛ لأنها تُدرك أنه بالوعى الثقافى وحده، سنبنى المستقبل العربي. كان يلفت نظرى فى المطران جورج شيحان مدى حبه لمصر والمصريين، وخبراته المتعمقة فى الحياة المصرية؛ فهو يزور المساجد ويُثنى على المشروعات التنموية الجديدة، ويُنادى الرئيس السيسى دائمًا بأنه «أبو المصريين» لما يقدمه من اهتمام كبير لذوى الهمم والفئات الأولى بالرعاية.. واهتمام المطران بالثقافة لا يزال منذ عرفته شغله الشاغل، فله عدة كتب عن المارون فى مصر، منها كتابه: «أول كنيسة مارونية فى مصر»، عن كنيسة «البارجة» فى دمياط التى كرّسها الأب موسى هيلانة عام 1745؛ وكتاب: «الكرسى السابع.. عشر سنوات فى مصر»، ويحكى فيه ذكرياته فى مصر، ويذكر الزيارات التى قام بها فى المتاحف والكنائس والمساجد، ويؤرخ أيضًا لتاريخ عائلته فى مصر؛ فقد كانت لعائلة «شيحان» إسهامات ومآثر؛ فعمه الأكبر «حيدر باشا شيحان» كان أحد كبار التجار والوجهاء فى بدايات القرن الماضي، وأحد المهتمين بالثقافة والتعايش، وتبرّع لبناء العديد من المساجد والكنائس، إضافة إلى أنه كان من المهتمين بالمعرفة والنهضة، وكان يُجالس الإمام محمد عبده وجمعتهما صداقة واحترام متبادل. وعند ذكر المارون لا يُمكن أن ننسى أسماء: مى زيادة، وآسيا داغر، وأمين الريحاني، وداود بركات، وأنطون الجميل، وعزيز ميرزا.. ومئات غيرهم من المثقفين الذين شربوا من ماء النيل، ووجدوا فى مصر واحة للتأليف والإبداع، فأصبحوا نجومًا فى سماء الثقافة العربية. الربيع الزائف فى الفترة الأخيرة، انشغلت بقراءة عدة كتب تتعمق فى أفكار المتأسلمين، وتفكك علاقتهم الجدلية بمؤسسات الدولة، وللأسف هذه الكتب ليست بالأعداد التى تسمح باطلاع الباحث العربى على تحديثات دائمة لهذه الأفكار والتعمق المطلوب لبواعثها وأهدافها؛ ثم رجعتُ إلى كتاب «الربيع الزائف: الثورات وأزمة الإصلاح فى الوطن العربي»، لصديقى د. أسامة السعيد، رئيس تحرير الأخبار؛ والحقيقة أنه رغم قراءتى للكتاب وقت إهدائه لى فى 2016م، فإن القراءة الثانية كانت ذات حمولات معرفية أوثق وأعمق؛ خاصة ذلك التشريح الدقيق لأفكار الإصلاح الإسلامي، انطلاقًا من التأثير الدينى الكبير فى الشخصية العربية. وقد أبرز الكتاب نقطة جوهرية قد تكون غائبة عن كثير من الجمهور العربي، وهى أن فكرة فصل الدين عن الدولة لا تعنى تنحية الدين عن حياة الناس، كما تُروّج الدعاية المستغلة للجماعات المتأسلمة؛ وإنما المقصود هو عدم إقحام الدين فى المنافسة السياسية، أو اتخاذه وسيلة للوصول إلى السلطة؛ وكذلك أن تكون السلطة على مسافة واحدة من الطوائف والديانات؛ وقد كان هذا المفهوم واضحًا فى الدولة الإسلامية على مدار التاريخ، فحاز فيها أبناء الأديان أعلى المناصب فى الدولة، فى حين تراجعت تلك الأفكار إبان ضعف الدولة واضمحلالها. إننا نمرّ بفترات حرجة من عُمر المنطقة العربية، مع ازدياد ظاهرة الإسلاموفوبيا فى الغرب، وبعض الخطابات العدائية من رؤساء دول كبرى وسياسيين؛ ولهذا فإننا نحتاج إلى وعى مُتجدد وقراءات متأنية لهذه الكتب الجادة التى لا تسقط بالتقادم، إذ تكشف زيف أعداء الوطن والمشككين فى قدراته.