بعد 32 عامًا على رحيله وفي زمنٍ يذوب فيه الحب سريعًا، ويبهت فيه الفن تحت صخب العابرين، يبقى اسم بليغ حمدي الإنسان، المحب، والملحن الذى غيّر وجه الموسيقى العربية. لم يكن مجرد ملحن يصوغ الألحان، بل كان عاشقًا يحوّل وجعه إلى موسيقى، وإنسانًا يسكب قلبه في كل نغمة. رحل بليغ، في 12 سبتمبر 1993 لكن ألحانه بقيت.. تعيش في كل بيت، وترافقنا في الفرح والحزن، في الثورة والصلاة، في الحب والوطن. من «سيرة الحب» إلى «يا حبيبتي يا مصر»، ومن «العيون السود» إلى «مولاي إني ببابك»، كان بليغ حمي عاشقًا يشبه نغمة ضائعة في ليل طويل، ترك لنا إرثًا لا يشيخ. هذا الملف محاولة لاستعادة ملامح الإنسان والعاشق والعبقرى الذي علّمنا أن الفن أصدق من العمر، وأن النغمة قد تبقى حيث يرحل صاحبها. ◄ من شوارع شبرا إلى وجدان الملايين في حي شبرا الشعبي، حيث تختلط أصوات الباعة بصوت المذياع الذى لا يهدأ، وُلد طفل اسمه بليغ حمدى عام 1931. لم يكن طفلًا عاديًا؛ كان هادئ الملامح، شارد النظرات، كأن قلبه يسبق عمره بأميال. بينما كان أقرانه يلهون بالكرة والطائرات الورقية، كان هو يتأمل العود وكأنه قطعة من روحه، يقترب منه فى خشوع كما يقترب العابد من محرابه. في البيت، كان والده مدرس رياضيات، رجلًا منضبطًا وحاسمًا، أراد لابنه أن يسلك طريقًا علميًا مستقيمًا. لكن بليغ كان منصتًا لصوت آخر، صوت داخلى يجرّه نحو الموسيقى. لم يكن العود مجرد آلة، بل كان نافذته الأولى إلى عالم رحب يضج بالحب والشجن، حين وضع أصابعه الصغيرة على الأوتار لأول مرة، لم تكن أنغامه صحيحة، لكنها خرجت بصدق أربك السامعين.. في شوارع شبرا، كان يسمع الموال الشعبي يتصاعد من المقاهي، ويرى الناس تردد الألحان القديمة في ليالي الصيف. امتلأت أذناه بكل هذا التراث، فانصهر داخله وخرج بعد سنوات في صورة نغم جديد، نغم سيحمل توقيعه وحده، ويكتب اسمه بين الخالدين. ◄ اقرأ أيضًا | أعمال الموسيقار بليغ حمدى في أوبرا الإسكندرية ◄ الابن المدلل لكوكب الشرق كان لقاء بليغ مع أم كلثوم أشبه بزلزال موسيقى. كوكب الشرق، بصوتها المهيب وتاريخها الممتد، وجدت فى الشاب العاشق شيئًا جديدًا، لحنًا فيه جرأة الشباب وعمق التراث. حين غنّت له لأول مرة «حب إيه» 1960، كان المشهد كأنه ولادة جديدة للطرب. لحن بليغ لم يكتف بأن يضع صوت أم كلثوم في مجدها، بل جعلها قريبة من وجدان الناس ببساطته وصدقه. ثم جاءت «سيرة الحب»، الأغنية التى لا تزال حتى اليوم أشبه بنهر جارٍ من العاطفة. لم تكن مجرد أغنية، بل كانت حكاية عمر، فيها الفرح والخذلان، الوله والغياب، كأن بليغ كان يسكب قلبه بين يدى أم كلثوم لتغنيه للأبد. هكذا صار بليغ الابن المدلل لكوكب الشرق، يقدّم لها ألحانًا بحجم «بعيد عنك» و«الحب كله»، ألحانًا كتبت له مكانة في تاريخ الموسيقى العربية لا ينازعه عليها أحد. ◄ حليم.. رفيق رحلة النجاح القدر أحيانًا يشبه لحنًا بسيطًا، يبدأ خافتًا ثم يتحول إلى سيمفونية تعصف بالوجدان. هكذا كان لقاء بليغ حمدى وعبد الحليم حافظ. فى أوائل الخمسينيات، كان بليغ شابًا لا يعرف عن الحياة سوى وتر عوده. تقدم إلى الإذاعة، وهناك لفت الأنظار بموهبته الصافية. لكن الشرارة الحقيقية لمعت عندما التقى بعندليب مازال يبحث عن صوته، عن لحن يصنع له هوية. حين غنّى عبد الحليم أول ألحان بليغ «تخونوه» 1957، لم يكن أحد يتخيل أن تلك الأغنية ستصبح بداية قصة موسيقية ممتدة، قصة منحت حليم جناحين، ومنحت بليغ صوته الذى سيحلّق به. كانت الكلمات تقول «تخونوه»، لكن اللحن كان يبوح بالوفاء، كأنه يضع حجر الأساس لعلاقة فنية وإنسانية لا يشوبها إلا الصدق.. لم يكن بليغ مجرد ملحن بالنسبة لعبد الحليم، كان صديقًا، مستشارًا، ورفيقًا فى الطريق الصعب. ومع كل أغنية جديدة، كانت مصر تولد من جديد فى صوت العندليب وألحان بليغ. من «سواح» إلى «على حسب وداد قلبي»، من «حاول تفتكرنى» إلى «أى دمعة حزن لا»، صار الاثنان وجهين لعملة واحدة: صوتا، ولحنا، وإحساسا. ◄ صوت الوطن كانت النكسة كابوسًا جثم على صدر كل مصري. عبد الحليم حافظ فقد صوته بالدموع قبل أن يفقده بالغناء، والجماهير فقدت ثقتها فى كل شىء. فى تلك اللحظة المظلمة، جاء بليغ بلحن «عدى النهار» على كلمات الشاعر عبد الرحمن الأبنودى.. وفي السبعينيات، والبلد يحاول مداواة جراحه، التقى بليغ بصوت شادية، فصنع لها أغنية ستتحول إلى نشيد وطني غير رسمى: «يا حبيبتى يا مصر».. ثم جاء نصر أكتوبر، فصاغ على الربابة «بسم الله» و«غنى يا مصر»، فأشعل الحماس في القلوب. ◄ ميادة.. رسائل العاشق المجروح بعد رحيل حليم وانفصال بليغ عن وردة، بدا وكأن قلبه الموسيقى يبحث عن صوت جديد يسكب فيه أشجانه. وهنا ظهرت ميادة الحناوى، الفتاة السورية الصغيرة ذات الصوت العذب، التي حملت في حنجرتها ما يشبه العندليب الأنثوي. التقى بها فى أواخر السبعينيات، ومنذ اللحظة الأولى أدرك أن هذا الصوت لا بد أن يصبح أسطورة. تبناها فنيًا بكل ما يملك من إخلاص، وبدأ يكتب لها ألحانًا تليق بمساحة صوتها وصدقها. ومن هنا وُلدت روائع مثل: «الحب اللي كان»، «أنا بعشقك»، «سيدي أنا». ◄ وردة.. غنوة لم تكتمل بدأت الحكاية بلحن، لكن لم يكن أى لحن، كان لحنًا صنع قدرًا. وإذا كانت أم كلثوم هى مجد بليغ الفنى، فإن وردة كانت مجده الإنسانى. قصة حب بدأت بلحن، لكنها سرعان ما تحولت إلى قدر لا مهرب منه. أحبها كما لم يحب امرأة، وصاغ لها ألحانًا تشبهه؛ صاخبة بالفرح، مثقلة بالوجع. تزوجا 1972، وكان زواجهما أشبه بعرس موسيقى شهدت عليه مصر كلها. لكنه لم يعرف الاستقرار يومًا؛ كان عاشقًا متمردًا، بوهيميًا، يغرق فى سهراته وألحانه، وهى امرأة قوية وغيورة بطبعها، لا تحتمل أن يقاسمها أحد قلبه حتى لو كانت الموسيقى. الغيرة، الخلافات، الكبرياء.. كلها مزّقت العش الذى بناه الحب. وقع الطلاق بعد سنوات قليلة، وكان وقع الفراق على بليغ كجرح مفتوح. لكنه جرح لم يتوقف عن الغناء، بل تحوّل إلى ألحان أكثر صدقًا وإيلامًا. ◄ وداع حزين كما يغدر الزمن بالعاشق، غدر أيضًا بالموسيقار. بعد رحيل عبد الحليم وانفصاله عن وردة، ومع اتهامات باطلة جرّته إلى قاعات المحاكم فى الثمانينيات، وجد بليغ نفسه منفيًا بعيدًا عن وطنه. عاش سنواته الأخيرة في باريس، غريبًا وحيدًا، يحمل فى قلبه ألف لحن لم يجد من يغنيه. كانت غربته قاسية، لكن عوده ظل وفيًا، يسمع أنينه فى ليالى باريس الباردة.. فى سبتمبر 1993، أُسدل الستار. رحل بليغ عن عمر يناهز 62 عامًا، وكأن النغم نفسه أعلن الحداد. رحل جسده، لكن ألحانه لم ترحل.