زرت قبل أيام مدينة السلام شرم الشيخ فى إجازة صيفية قصيرة، كنت أظن أن الساحل الشمالى والعلمين الجديدة قد استأثرا بنصيب الأسد من المصيفين، سواء من المصريين أو الأجانب، حتى وطئت قدماى أرض جنوبسيناء، فإذا بى أجدها عامرة بكل جنسيات الدنيا، متألقة بسحرها الفريد وروحها المميزة، لفت انتباهى ارتفاع نسب الإشغال فى الفنادق، وحيوية الشوارع والميادين المزدحمة بكل من يبحث عن متعة الصيف على شاطئها الفيروزى وبحرها الملىء بالكنوز. قررت أن أبتعد قليلًا عن صخب المنتجعات وبريق البحر، ذهبت لزيارة واحدة من أجمل بقاع سيناء، مكان يفيض بالروحانية والقداسة، وهو محمية رأس محمد، وتحديدًا عند مجمع البحرين أو الخليج الخفى، حيث يلتقى خليج العقبة بخليج السويس، وهو الموضع الذى يُرجَّح أنه شهد اللقاء التاريخى بين النبى موسى والخضر عليهما السلام. وصلت مبكرًا إلى المكان، وكانت أشعة الشمس ترسم بلونها الذهبى مزيجًا من النور والسكينة، لتغمر الروح بالطمأنينة، وتستحضر إلى الذهن مشاهد القصة العظيمة التى خلدها القرآن فى سورة الكهف؛ قصة نبى الله موسى التوّاق للعلم، ولقائه بالخضر صاحب الحكمة، بما تحمله من دلالات سامية تبدأ بالتواضع فى طلب المعرفة، وتنتهى بالتسليم المطلق لحكمة الخالق العظيم. وعلى مقربة من البحر، شدّتنى صخرة الحوت، تلك الكتلة الطبيعية التى نحَتها الزمن على هيئة أسد رابض، تقف شامخة كأنها حارس أبدى يخلّد المعجزة القرآنية حين فقد موسى وفتاه الحوت عند الصخرة. وهنا تتجلى عظمة رأس محمد، إذ تجمع بين قدسية التاريخ وبهاء الدين وروعة الطبيعة؛ من ذكرى القصة القرآنية إلى سحر الشعاب المرجانية وجلال جبال سيناء الصامتة. إنه مكان يتجاوز حدود السياحة والترفيه، ليبقى شاهدًا على أن سيناء ليست مجرد بوابة جغرافية لمصر، بل قلب نابض بالحضارة والإيمان، وجسر خالد يربط الماضى بالحاضر. ذلك السحر الذى تتمتع به أم الدنيا مصدر جذب طبيعى لأرض التجلى الأعظم وصاحبة نصيب الأسد من آثار العالم القديم، أرض التنوع السياحى، حيث إن زيارتها والتمتع بما تمتلكه من مقومات سياحية وثقافية يحتاج إلى أسابيع وزيارات متكررة تملأ الروح بالسعادة والرضا والإيمان. إذا ترجمنا ذلك عملياً إلى أرقام نجد أنه وللعام الثانى على التوالى تواصل مصر تحقيق تقدم ملحوظ على خريطة السياحة العالمية، بعدما سجّلت واحدة من أعلى معدلات النمو بين الوجهات الدولية، فبحسب تقرير منظمة السياحة العالمية (UN Tourism) الصادر فى الربع الأول من العام، جاءت مصر فى المركز العاشر عالميًا من حيث نمو أعداد السياح، بنسبة زيادة وصلت إلى 21% مقارنة بنفس الفترة من 2024. هذا الأداء القوى لم يكن استثنائيًا بل امتد إلى النصف الأول من العام، حيث استقبلت البلاد نحو 8.7 مليون سائح، مسجلة ارتفاعًا قدره 24% على أساس سنوى، بينما أظهر شهر يونيو وحده زيادة بنسبة 22% عن العام السابق، وتعكس هذه المؤشرات نجاح الجهود الحكومية والخاصة فى دعم القطاع، سواء من خلال حملات الترويج الدولية أو عبر تطوير البنية التحتية السياحية وافتتاح مشروعات جديدة مثل المتاحف والفنادق. ولم يقتصر التقدير على الأرقام فقط، إذ أدرج تقرير مجلة CEOWORLD مصر فى المرتبة 24 عالميًا ضمن قائمة أفضل الوجهات السياحية لعام 2025، وذلك بناءً على تقييمات نحو 295 ألف مشارك حول العالم، وتؤكد هذه النتائج أن مصر تسير بخطى واثقة لتكون أحد أبرز المقاصد السياحية العالمية، وسط توقعات بمواصلة الزخم خلال النصف الثانى من العام، خاصة مع تنامى الإقبال على السياحة الثقافية والشاطئية.. وهكذا، لا تبدو الطفرة السياحية التى تشهدها مصر مجرد أرقام مؤقتة، بل مؤشر واضح على عودتها بقوة إلى صدارة خريطة السياحة العالمية. ومن سيناء نطير إلى العلمين الجديدة، التى تحولت من مجرد مدينة حديثة الطراز إلى أيقونة عمرانية وسياحية تتصدر مشهد البحر المتوسط، وذلك بفضل موقعها الاستراتيجى وشواطئها الممتدة برمالها البيضاء ومياهها الصافية، باتت المدينة وجهة جاذبة لزوار المنطقة والعالم، تنافس أبرز المقاصد التقليدية على ضفاف المتوسط، والتى عززت مكانتها أكثر بمهرجان العلمين الذى أصبح واحدًا من أبرز الفعاليات الصيفية، فتحولت المدينة من خلاله إلى ساحة نابضة بالفنون والموسيقى والرياضة، تجذب نجوم الغناء والتمثيل وعشاق الثقافة والترفيه من كل مكان، المهرجان الذى اختتم أعماله بحضور شبابى كبير من مصر ومختلف الدول العربية لم يضئ ليل العلمين فقط، بل رسّخ لصورتها كعاصمة صيفية عصرية للبحر المتوسط، تجمع بين البهجة والمتعة والانفتاح على العالم. ذلك التألق السياحى كان له تأثير اقتصادى مباشر بتوفير نسبة معتبرة من الدخل الأجنبى، وبحسب تصريحات الدكتور أحمد كوجك وزير المالية أن مصر تمكنت من الوفاء بالتزاماتها الخارجية وخفضت الدين الخارجى خلال العامين الماضيين بنحو 4 مليارات دولار، وهو ما يعكس قوة الاقتصاد وقدرته على التعامل مع الضغوط، لافتا إلى أن هذه النجاحات لم تأتِ بمعزل عن الأداء القوى لعدد من القطاعات الحيوية، وعلى رأسها السياحة، التى حققت خلال العام الماضى معدلات إيرادات غير مسبوقة تجاوزت 14 مليار دولار، لتصبح أحد أهم مصادر النقد الأجنبى الداعمة لاحتياطيات الدولة، وأحد أعمدة قدرتها على سداد الالتزامات الخارجية دون تعثر. ذلك الأداء القوى للسياحة لم يأت من فراغ، بل دليل على نجاح مسار دعمه الرئيس عبد الفتاح السيسى مبكرًا بإطلاق الدولة لخطة شاملة لتطوير البنية التحتية السياحية، شملت توسعة المطارات الدولية وتحديثها، وإنشاء شبكة طرق سريعة تربط المقاصد السياحية الرئيسية ببعضها، إلى جانب تطوير الموانئ البحرية لاستقبال اليخوت والسفن السياحية، والانتهاء من المتحف المصرى الكبير، هذا الصرح الثقافى العملاق الذى يترقب العالم حفل افتتاحه بعد النجاح العالمى لافتتاح متحف الحضارة وموكب المومياوات الملكية وطريق الكباش. كما عززت وزارة السياحة من الترويج الخارجى عبر حملات حديثة تستهدف أسواقًا سياحية جديدة، وفعّلت نظام التأشيرة الإلكترونية لتسهيل وصول السائحين من مختلف الجنسيات، وإلى جانب ذلك حرصت الحكومة على تنويع المنتج السياحى ليشمل السياحة الشاطئية والثقافية والعلاجية والبيئية وسياحة المؤتمرات، بما يضمن لمصر مكانة متميزة على خريطة السياحة العالمية. وفى قلب هذه الجهود يبرز الدور المحورى لوزارة الداخلية وأجهزة الأمن، التى وفرت بيئة آمنة ومستقرة للسائحين، فالأمن يعد أحد أهم عوامل الجذب السياحى عالميًا، فقد عززت الوزارة من انتشار الخدمات الشرطية فى المقاصد السياحية، ورفعت من جاهزية قواتها للتعامل مع أى طارئ، إلى جانب تطوير شرطة السياحة والآثار لتقديم الدعم والإرشاد المباشر للزوار، هذا الشعور بالأمان -الذى يلمسه السائح منذ لحظة وصوله وحتى مغادرته- يشكل رسالة قوية بأن مصر ليست فقط بلد الحضارة والتاريخ، بل أيضًا بلد الطمأنينة والضيافة، وهكذا تتكامل الأبعاد الأمنية والتنموية والثقافية لتجعل من السياحة المصرية قاطرة حقيقية للتنمية الاقتصادية، وجسرًا دائمًا لتعزيز مكانة مصر عالميًا. إنجاز السياحة هو قصة نجاح للشعب المصرى، الذى حافظ على استقرار دولته فى الأساس، واستقبل السائحين بوجهه البشوش وكرم ضيافته وروحه الطيبة التى لا تخطئها عين أى زائر، فالمشروعات الكبرى والتخطيط الاستراتيجى لا تكتمل ثمارها إلا عندما يلتقى السائح بمواطن يستقبله بابتسامة صادقة، ويمنحه إحساسًا بالدفء والأمان، ليبقى الاستثمار فى الإنسان هو الرهان الأهم لضمان استدامة هذا النجاح وتعزيز مكانة أم الدنيا كوجهة سياحية ساحرة لا تُضاهى.