ناصر صالح يمكن اعتبار مشروع صنع الله إبراهيم الروائى ثورة على الوعى الذى تفرضه السلطة على المجتمع وما يجعل واقعيته الروائية تختلف عن سابقيه وأبناء جيله هو أن موضوعها ليس تصوير الواقع بل تغيير الوعى بالواقع هذه المهمة الثورية للأدب هى التى حددت ربما اتجاه أعماله الروائية وشكلها الفنى فتفكيك الوعى بالواقع الذى تفرضه القوى السياسية والاجتماعية المتحكمة والمهيمنة يقتضى معماراً روائياً جديدًا وفريدًا يستطيع أن ينهض بهذه المهمة الجسيمة! صاغ صنع الله إبراهيم سردياته ومروياته الحكائية مثلما يصوغ خبراء البصريات عدساتهم ومناظيرهم، جاعلاً من رواياته مرصداً يُظهر الوقائع والأحداث من زوايا وأبعاد مختلفة، كاشفاً عن أوجهها المتعددة، وأحجامها الفعلية. لهذا تحتشد فى رواياته سرديات متعددة تكتسى طابع التوثيق الموضوعى المحايد؛ مقتطفات من عناوين الصحف، اقتباسات من تصريحات شخصيات سياسية، نصوص من يوميات، مقاطع من سيرة ذاتية ومذكرات شخصية، لقطات من أفلام، مشاهد سينمائية، ومواقف لشخصيات سياسية واقعية ومتخيلة. لكن اختياراته لهذه السرديات، وطريقة ترتيبها، يخلق تعددية فى المرويات عن الحدث الواحد، ويكشف عن تعارض هذه السرديات مع بعضها البعض وتناقضاتها، وكأن كل سردية تبطل حجج السردية الأخرى، وتبيّن زيف دعواها! ترسم السرديات التوثيقية الموضوعية المتوالية فى روايات صنع الله إبراهيم مساراً لحركة الأحداث السياسية، والتحولات الاجتماعية والاقتصادية، والتبدلات التاريخية، وكأنها أصوات الجوقة فى المسرحيات الأغريقية القديمة التى تروى الأحداث التى لا يمكن تمثيلها فى المسرحية، وتبدو أحياناً منفصلة عن الحكاية الأم لكنها مع ذلك تشكل خلفياتها التاريخية، ودلالاتها الرمزية، وترتبط بها ارتباطاً جذرياً. ترصد عدسات المجهر الروائى لصنع الله إبراهيم تيار الوعى المتناهى الصغر فى نفوس الشخصيات الروائية، مثلما ترصد مناظيره الدقيقة حركة الأجرام الضخمة للأحداث السياسية والتحولات الاجتماعية، وعبر تقاطع الأحداث والتحولات السياسية مع وقائع الحياة اليومية لشخصيات رواياته، تحدث التصدعات، وتتخلخل الأسس التى يقوم عليها الوعى الذى تكرسه السلطة، وينكشف تناقض وزيف سردياتها للوقائع والأحداث، وتنفتح آفاق أوسع وأعمق للوعى والفهم. وردة هذه التفكيكية لسرديات السلطة فى روايات صنع الله إبراهيم، ومعماريته الروائية المختلفة تخلق حالة مربكة تجاه مضمون رواياته، وشكلها الفنى. هذا الإرباك كان بالنسبة لنا كعمانيين مضاعفاً، لأن أغلبنا تعرّف على عالم صنع الله إبراهيم الروائى من خلال روايته «وردة» التى كانت عن ثورة ظفار! هذا بحد ذاته كان أشبه بارتطام نيزك ضخم بالوعى العمانى الحديث! لأن الحديث العلنى عن تلك الثورة كان آنذاك إحدى المحرمات السياسية. ولهذا تهافت الكثيرون لقراءة الرواية، ولأن البعض لم يقرأ رواية فى حياته فقد تعامل مع المتخيل الفنى فى رواية «وردة» على أنه واقع، وهذا ما خلق ردود أفعال متباينة تجاه الرواية. كانت مشاعرى متضاربة تجاه الرواية، فقد أعجبنى أنها تستعيد جزءًا هامًا من تاريخنا الحديث، وتجعله حاضراً من جديد فى الوعى، كما أنها تخلق تعددية فى وجهات النظر لاسيما وأنها تستحضر مختلف السرديات، والمواقف، والرؤى تجاه الثورة، وتنتقد سردية السلطة ورجالها لأحداث الثورة، مثلما تنتقد الأيدلوجيا الثورية الطوباوية لعدد من أبطال الثورة وشخصياتها، وعبر تعدد سردياتها ومروياتها تخلق حالة من التفكير العميق فى أحلام تلك الثورة ومآلاتها. ولكن كانت لدى تحفظات فنية على الرواية من حيث مدى نجاحها فى تمثيل الشخصية العمانية، والمكان العمانى. حين التقيت بالأستاذ صنع الله إبراهيم فى شقته بالقاهرة بعد عام على صدور رواية «وردة» عبرت له عن رأيى بصراحة، وكان يستمع لى بتركيز، وسرور، ومحبة، ويومها أهدانى روايته «بيروت ..بيروت»، وكأنه يقدم لى نموذجاً آخر لرواية كتبها عن بلد عربى، ودعانى لحضور ندوة له مع كاتب غربى فى المعهد الإيطالى بالقاهرة. وعندما لمحنى فى آخر القاعة ترك المعجبين والمعجبات، وجاء يصافحنى بحرارة وهو يقول: أنا سعيد جداً أنك موجود، قلت له أنا سعيد أكثر. وبالفعل كنت معجباً جدًا بحضوره فى تلك الندوة، وجرأته فى التعبير عن آراءه النقدية اللاذعة للثقافة والسياسة الغربية الكولونيالية، دون مبالاة بالجمهور الغربى والشرقى الذى كان يستمع إليه ويتقبل صراحته بإعجاب كبير. بيروت .. بيروت كانت هذه رواية «بيروت ..بيروت» التى أهدانى إياها صنع الله إبراهيم هى المدخل الحقيقى لعالمه الروائى. ففى هذه الرواية بدأت أفهم وأستوعب تحطيم صنع الله إبراهيم للشكل الفنى التقليدى للرواية، وعلاقة المعمار الفنى الجديد لإبداعه الروائى بتفكيك الرؤية الأحادية للواقع والتاريخ التى تفرضها القوى السياسية والاجتماعية المتحكمة والمهيمنة على الواقع كان تاريخ لبنان الحديث والحروب الأهلية بين طوائفه الدينية والسياسية، والفصائل الفلسطينية غامضاً ومعقداً بالنسبة لى، ولكن هذه الرواية جعلتنى أعيش، وأفهم، وأستوعب ما جرى، كنت أحياناً لا أكتفى بمقتطفات عناوين أخبار الصحف، واليوميات، والمذكرات الواردة فى الرواية بل أبحث عنها فى محركات البحث على الانترنت، وأتمعن فى صور الأسماء والشخصيات التى ورد ذكرها فى الرواية. وقد أذهلنى أن صنع الله إبراهم أدخل فيلماً توثيقاً كاملاً داخل بنية الرواية، وجعلنا نرى ونسمع عبر مشاهد ذلك الفيلم شهادات مروعة لضحايا تلك الحروب والمجازر، وأصوات السياسيين، والقتلة، وكأن صنع الله إبراهيم أراد بهذه الرواية تحويل تلك الدماء، والصرخات الثكلى إلى وعى وفهم لا ينسى ما حدث، ولا يقبل بتكراره من جديد. تلك الرائحة بحثت لاحقاً عن روايته الأولى «تلك الرائحة» بمزيد من الفضول لفهم عالمه الروائى، وعندما قرأتها وجدت نفسى معجباً بموهبته الإبداعية المبكرة، ونضجه الفنى الكبير الذى تجلى فى عمله الروائى الأول! فرغم أن صنع الله إبراهيم كتبها بعد عامين من خروجه من السجن، إلّا أن الرواية لا تقول لنا شيئاً مباشراً عن الأهوال المريرة التى عاشها ورفاقه فى المعتقل! بل إن الرواية تبدأ بخروج شخصيتها الرئيسية من السجن! وجدت نفسى مأخوذاً بالسرد الذى يتدفق فيه تيار الوعى بتلك النبرة الشجية التى تسمع فيها عويلاً ونواحاً صامتاً يذكرنا بتلك النبرة الفجائعية الموجعة فى رواية «الصخب والعنف» لفوكنر. كان تيار الوعى يتدفق، ومعه تتوالى أحداث الرواية وكأن البطل يراها من العالم الآخر. نشعر بأهوال السجن تخيم عليه وعلى علاقاته بكل من حوله دون أن يقول لنا شيئاً عنها سوى اضطراره للعود يومياً إلى الشقة ليعطى الشرطى المكلف بالمرور عليه مذكرة صغيرة يوقع عليها تثبت أنه لايزال سجيناً رغم خروجه من السجن! كان صنع الله إبراهيم لا يصور السجن، ولكن يصور وعى السجين الذى تلقى ضربة قاصمة، ضربة كف قاسى من سلطة كلية القدرة طوحت به بعيدًا عن عالم الأحياء، وكأنه أصبح شبحًا يبحث عن حريته وحياته دون أمل باستعادة من جديد، لهذا لا يتبقى له سوى أطياف ذكريات أبيه وأمه التى يطاردها دون جدوى! اللجنة فى رواية «اللجنة» التى لا يخفى شبهها برواية «المحاكمة» لكافكا، تتحدد بشكل أوضح واقعية صنع الله إبراهيم التى موضوعها الوعى بالواقع لا الواقع. فهى تصور لنا سعى شخصية البطل، الذى لا نعرف اسمه وبالتالى يرمز للجميع، إلى إرضاء لجنة كلية القدرة تتمتع بسلطة لا متناهية الحدود. يتحول بطل الرواية أمامها إلى كائن مسلوب الإرادة، والكرامة، وهو يحاول إرضاءها دون جدوى، وأن يثير إعجابها دون أن يعرف ما تريده تحديداً، ولهذا يجد نفسه ينتقل من متاهةٍ إلى أخرى، ويشعر فى النهاية أنه أسير فى سجن كبير لا يعرف حدودًا لجدرانه، وهذا السجن ليس سوى وعى السجين المصادر والمستلب من هذه اللجنة أو السلطة الكلية المهيمنة! الكثيرون الذين تواجدوا فى تلك القاعة التى أعلن فيها صنع الله إبراهيم رفضه لجائزة الرواية العربية سنة 2003 لم يستوعبوا ربما إلّا فى تلك اللحظات أنه لا يوجد انفصال بين موقف صنع الله إبراهيم الروائى، وموقفه كإنسان، ومثقف. بالنسبة للكثيرين كان مثل هذا الموقف يمكن أن يحدث فى عالم روائى متخيّل. كان يمكن لأحد أبطال رواياته أن يقوم به، أما أن يقوم به صنع الله إبراهيم نفسه فهذا مشهد واقعى يفوق كل خيال روائى. كان من حسن حظى أننى كنت حاضراً فى ذلك اليوم التاريخى، لكننى لم أستوعب موقفه تماماً إلّا بعد أن قرأت أعماله الروائية، فبعدها فهمت أن قضية صنع الله إبراهيم كإنسان وكروائى كانت دومًا واحدة، وهى تحطيم الوعى الذى تفرضه السلطة على الأفراد، وتخطى حدودها المعقولة، ولهذا أصبح تخطى صنع الله إبراهيم فى ذلك الحفل لكل الحدود التى تفرضها السلطة مفهومًا، ومعقولاً، ومتسقاً تماماً مع شخصيته ومسيرته كإنسان وروائى.