هذه المرة الموقف يبدو واضحًا، والبنود لا تحتمل التأويل: وقف إطلاق النار لمدة 60 يومًا، تتضمن إطلاق سراح 10 محتجزين إسرائيليين أحياء، و18 جثمانًا، فى مقابل انسحاب إسرائيلى جزئى لقوات الاحتلال لضمان تدفق المساعدات، وفتح ممرات آمنة للشاحنات. الإعلان عن إحراز تقدم على مسار التوصل لهدنة توقف الحرب فى قطاع غزة، خبر مهم وتطور يستحق أن نتوقف أمامه ونحن نخطو نحو اكتمال العام الثانى من حالة الجنون الإقليمى التى تؤججها الحرب فى قطاع غزة، والتي أدت إلى مأساة يدمى لها القلب للمدنيين الأبرياء فى قطاع غزة. التطور الراهن جاء بجهد مصرى مكثف ودؤوب، فمصر لم تفقد فى أية لحظة إيمانها بأهمية العمل الجاد من أجل وقف هذه الحرب العدوانية، ولم تتخل أبدا عن دعمها الصادق للشعب الفلسطينى الشقيق، وكانت جهود التوصل إلى وقف الحرب واحدة من أدوات القاهرة لتفويت الفرصة على حكومة التطرف فى تل أبيب لمواصلة مخططاتها الرامية لاقتلاع الشعب الفلسطينى الصامد من أراضيه، ومساعيهم الخبيثة لتصفية قضيته بتصفية وجوده على أرضه. ■ ■ ■ الكرة الآن فى ملعب إسرائيل، هكذا لخص وزير الخارجية الدكتور بدر عبد العاطى الموقف ببساطة ومباشرة، ولطالما كانت الكرة فى ملعب إسرائيل، لكن هذه المرة، وأكثر من أى مرة، يبدو الموقف أقرب إلى اتفاق، بعدما أعلنت حركة «حماس» موافقتها على التصور الذى طرحه الوسطاء من مصر وقطر، والذى ينسجم مع الطرح الأمريكى الذى صاغه المبعوث الأمريكى للسلام ستيف ويتكوف قبل أسابيع. هذه المرة الموقف يبدو واضحًا، والبنود لا تحتمل التأويل: وقف إطلاق النار لمدة 60 يومًا، تتضمن إطلاق سراح 10 محتجزين إسرائيليين أحياء، و18 جثمانًا، فى مقابل انسحاب إسرائيلى جزئى لقوات الاحتلال لضمان تدفق المساعدات، وفتح ممرات آمنة للشاحنات. ولا يتجاهل الاتفاق فتح أبواب الحرية أمام عشرات من الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال، لكن الأهم - من وجهة نظرى - أن الاتفاق ينص على إطلاق مفاوضات وقف دائم لإطلاق النار وإنهاء الحرب، وتفاصيل اليوم التالى لترتيبات ما بعد انتهاء العدوان فور دخول الهدنة حيز التنفيذ، وهو مكسب حقيقى ومهم يقطع الطريق على محاولات التنصل الإسرائيلية التى سبق وأن عرقلت كل محاولات التوصل إلى اتفاق نهائى يضمن وقف الحرب. الاتفاق المطروح يتضمن كذلك ضمانات مصرية وقطرية وأمريكية بشأن جدية المفاوضات من اليوم الأول لوقف إطلاق النار، بحيث تتاح الفرصة كاملة أمام جهود التوصل إلى اتفاق بوقف دائم للحرب، فى إطار المقترح الذى طرحه ويتكوف بضمان التوصل إلى اتفاق نهائى للحرب والعودة لحالة الاستقرار الإقليمى خلال 60 يومًا. ■ ■ ■ هذه البنود فى مجملها مكسب كبير، وخطوة على طريق لجم الجنون الإسرائيلى واستعادة حالة الهدوء فى منطقة احترقت جنباتها، وتدفع شعوبها ودولها ليل نهار فاتورة الأوهام اليمينية المتطرفة بإقامة «إسرائيل الكبرى» على أنقاض منطقة الشرق الأوسط!! لكن تبقى العقبة الرئيسية دائما أمام أى اتفاق متمثلة فى الموقف الإسرائيلى، ومساعى حكومة بنيامين نتنياهو لعرقلة أى جهد جاد للتوصل إلى اتفاق. فعلها مرات ولم يستجب إلا بضغوط أمريكية مرتين فقط على مدى 22 شهرا، واليوم نحن أمام عتبة مهمة يمكن اجتيازها نحو اتفاق، أو يمكن الدخول فى حلقة جديدة من الدوائر المفرغة للحرب العبثية إذا ما سمحت واشنطن لنتنياهو بمواصلة تكتيكه الهروبى عند اقتراب لحظة الحقيقة. العقبة الحقيقية التى تحول دون التوصل إلى اتفاق هو إصرار إسرائيل على رفض أى اتفاق جزئى، والرغبة فى اتفاق شامل يتضمن النزع الكامل لسلاح حركة «حماس»، وهو مطلب يبدو غير واقعى وغير عقلانى فى ظل استمرار الحرب، ودون وقف إطلاق النار أولا، فالإصرار الإسرائيلى على تلك المطالب غير الواقعية يضعنا أمام معضلة «البيضة أولا أم الدجاجة؟!»، فأيهما يأتى أولا: وقف إطلاق النار ومن ثم المتابعة نحو ترتيبات ما بعد إنهاء الحرب، ومنها الموقف فى حكم قطاع غزة وسلاح الفصائل الفلسطينية وبينها حركة «حماس»؟ أم نزع سلاح الحركة وتسليم كل المحتجزين حتى يمكن وقف إطلاق النار؟ ■ ■ ■ الرؤية المصرية هى الأقرب للمنطق والعقل: وقف إطلاق النار أولا، ودخول المساعدات، وإنهاء المعاناة الإنسانية فى القطاع، بما يوفر الأجواء المناسبة من أجل بحث مستقبل القطاع والترتيبات الأمنية والسياسية لما بعد انتهاء القتال، وهو التدرج الذى يمكن أن يقود إلى اتفاق قابل للبقاء والحياة، بدلا من الهدنات الهشة التى أثبتت التجربة أن إسرائيل تريدها بهذه الحالة كى يمكن اختراقها فى أية لحظة. موقف ورؤية القاهرة يرتكزان على فهم عميق للواقع على الأرض، وقدرة على التواصل الدائم والمستمر مع مختلف الأطراف، والأهم ثوابت لموقف مصرى لا يتزعزع بالحفاظ على مصالح المنطقة، وتجنيبها ويلات الحلول العسكرية التى أثبتت فشلا ذريعا وعجزا عن تحقيق أية نتائج تستطيع الصمود على الأرض، ولم يسفر منطق القوة سوى عن ويلات إنسانية ستظل سبة فى جبين البشرية ووصمة عار تلاحق أولئك الذين تواطأوا مع حرب الإبادة الإسرائيلية سواء بالدعم المباشر، أو حتى بالصمت المخزى. الموقف الآن يتطلب ضغطا دوليا مكثفا على إسرائيل، لإجبارها على الانخراط بجدية فى مفاوضات الفرصة الأخيرة، وعدم التنصل من مسئولياتها ككل مرة، فهذه المرة لا يبدو فيها الوضع الإنسانى فى غزة قادرا على احتمال مزيدا من الجنون والصلف الإسرائيلى، والفرصة اليوم سانحة للتوصل إلى اتفاق يمكن أن يحقق مصالح مختلف الأطراف، وبقاء جذوة التوتر الإقليمى قد تقود إلى فتح جبهات جديدة تقرب برميل البارود فى الشرق الأوسط من لحظة الانفجار الشامل التى لا يتمناها أحد أو يريده سوى هواة الفوضى وصُناع الأزمات!! وقد أثبتت التجربة والخبرة المتراكمة على مدى الأشهر الماضية فشل الحلول العسكرية عن استعادة الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين فى غزة إلا عبر اتفاق سياسى، وعلى الولاياتالمتحدة أن تضطلع بمسئولياتها كاملة، فبينما يستخدم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب كل نفوذه ويلقى بأوراق ضغطه على الطاولة الروسية - الأوكرانية، ويتحرك فى كل اتجاه من أجل وقف حرب تبدو أكثر تعقيدا وتشابكا مما يجرى فى الشرق الأوسط، فإن الموقف فى الأراضى الفلسطينية لا يحتاج سوى إرادة سياسية جادة وقوية من جانب الإدارة الأمريكية لإنهاء هذا العبث الذى يكتوى الجميع بنيرانه. نعم .. الكُرة فى ملعب إسرائيل، لكن الأمر يحتاج إلى مَن يقنع نتنياهو أو يضغط عليه لالتقاط تلك الكُرة، وعدم التفنن دائما فى إضاعة الفرص.