في ربيع عام 2025، وبينما كان المستثمرون يترقبون كعادتهم تغريدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صباح كل يوم، جاءت الأخبار بما لم يكن متوقعًا، باتخاذه قرارًا تاريخيًا بفرض تعريفة جمركية شاملة بنسبة 10% على جميع واردات الولاياتالمتحدة، يعقبها لاحقًا اتفاقان مثيران للجدل مع كل من اليابان والاتحاد الأوروبي، يُعيدان رسم مشهد الاقتصاد العالمي، ويُثيران تساؤلات تتجاوز حدود الجمارك، لتصل إلى عمق مفهوم «الهيمنة الأمريكية» في القرن الحادي والعشرين. ◄ ترامب يُعيد رسم خريطة الاقتصاد العالمي ◄ تعريفة ترامب تشمل ضريبة 10 % على جميع الواردات وبينما نظر البعض إلى هذه القرارات باعتبارها محاولة لاستعادة العدالة التجارية للولايات المتحدة، رأي آخرون فيها تهديدًا حقيقيًا للنظام الاقتصادي العالمي، وربما مؤشرًا على تغيّر وجهة العولمة نفسها، بعبارة أخرى، لم تكن قرارات ترامب التجارية مجرد أدوات اقتصادية، بل كانت إعلانًا عن فلسفة حكم، ترى العالم منصة افتراضية تتحكم فيها واشنطن، وعائداتها تُجبي من الجميع، باسم «الوصول إلى السوق» و«الحماية العسكرية». ◄ الاقتصاد الأمريكي قفزت إيرادات الولاياتالمتحدة من الرسوم الجمركية إلى 64 مليار دولار في الربع الثاني من العام، وهو رقم قياسي، والهدف السنوي؟ 300 مليار دولار، أرقام تثير الإعجاب على الورق، خاصة في ظل غياب الردود الانتقامية القوية من الشركاء التجاريين، لكن خلف هذا الإنجاز الظاهري، تسير عملية أعمق تستهدف تحويل النظام التجاري العالمي إلى نظام «العجلة والمحور»، حيث تقبع أمريكا في المركز، وتدور الدول الأخرى حولها، تدفع ما يشبه اشتراكًا إجباريًا. وتقول أستاذة الاقتصاد في جامعة نيويورك «مارتا بنجوا»: «على عكس ثلاثينيات القرن الماضي، حين كانت التجارة أكثر توازنًا، فإننا اليوم في نظام أمريكا مركزي، العالم لا يستطيع الانفصال عن هذه المنصة». ووفقًا لمجلة «MoneyWeek»، الغريب في الأمر أن كل التوقعات الاقتصادية التي صاحبت فرض الرسوم، من ارتفاع التضخم إلى تراجع الإنفاق، لم تتحقق على الفور، وظل الاستهلاك الأمريكي صامدًا، والأسواق تحتفل بارتفاعات قياسية، ومؤشر S&P 500 يتجاوز ذروته السابقة. وقد يكون الأثر المحدود حتى الآن راجعًا جزئيًا إلى قوى مضادة، مثل زيادة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والإنفاق الحكومي القوى، كما يشير الكاتب والمستثمر «روتشير شارما»، لكن يبقى هناك ثمن يجب دفعه عند التدخل في الأسواق. فشخص ما يجب أن يدفع الضريبة يمكن للمصدر أن يتحملها من هوامش أرباحه؛ أو أن يتحملها المستورد؛ أو أن يدفعها المستهلك فى صورة زيادة في الأسعار، ولا يُعتبر أي من هذه الخيارات جيدًا فى النهاية لأرباح الشركات. بالفعل، تُفيد دراسة من جامعة «ييل» أن التعريفة الفعلية التي يواجهها المستهلك الأمريكي بعد اتفاق الاتحاد الأوروبي قد تصل إلى 18.2%، وهو الأعلى منذ عام 1934، مقارنة ب2.4% فقط حين تولّى ترامب منصبه، ويُترجم هذا إلى خسارة سنوية تبلغ نحو 2400 دولار لكل أسرة. ◄ أوروبا تحت الضغط الاتفاق «الأمريكى الأوروبى» أثار موجة من الغضب في العواصم الأوروبية، لكنه رغم ذلك مر بالفعل، تقول صحيفة الجارديان البريطانية، نقلًا عن الباحث في الشأن الأوروبي «بول تايلور»، إن الاتفاق التجارى الذى أُبرم الأسبوع الماضى بين الاتحاد الأوروبي وترامب كان غير متكافئ بشكل فاضح، فى جوهره، فرضت واشنطن تعريفة 15% على معظم صادرات الاتحاد الأوروبي، في مقابل تعهدات أوروبية مبهمة بشراء 750 مليار دولار من السلع الأمريكية، واستثمار 600 مليار أخرى فى الاقتصاد الأمريكى. صفقة وُصفت بأنها فاضحة وغير متكافئة، لكنها بحسب دويتشه بنك الألمانى كانت أفضل الممكن فى ظل انقسام الأوروبيين وافتقارهم لبدائل واقعية، فالاتفاق الذى أنهت به رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، كان بعيدًا كل البعد عن اتفاق «صفر مقابل صفر» الذى قالت المفوضية فى البداية إنها تهدف إليه، بل وأسوأ من نسبة 10% التى اعتقد المسئولون الأوروبيون أنهم حصلوا عليها قبل أسبوعين فقط. ◄ يوم مُظلم رئيس الوزراء الفرنسي «فرانسوا بايرو»، وصف اليوم الذي أُعلن فيه الاتفاق بأنه «يوم مظلم»، وقال إن «تحالف الشعوب الحرة.. استسلم للخضوع»، وبينما تنفس صناع الرقائق والأدوية الأوروبيون الصعداء، استقبلت صناعة السيارات الأخبار بكثير من القلق، أما أسهم شركات الدفاع الأوروبية، فقد تراجعت نتيجة التزامات الشراء الأمريكية. ◄ فقاعة أم خطة ناجحة؟! يرى بعض المحللين، مثل «فريدي جراي»، أن ترامب ربما أطلق تجربة اقتصادية فريدة؛ استخدام الرسوم الجمركية كوسيلة لإعادة التفاوض على ترتيب النظام الاقتصادى العالمى. وحتى الآن، تبدو الأسواق راضية. ثقة المستهلك الأمريكي ترتفع، ويصنّف حوالي نصف الأمريكيين الاقتصاد بأنه جيد، فى حين تتوقع أحدث تقارير صندوق النقد الدولي أن تواصل الولاياتالمتحدة التفوق على منافسيها. وتوضح الكاتبة والصحفية «أنا سوانسون» بصحيفة نيويورك تايمز أن «خطة ترامب للتجارة العالمية قد تبدو انتصارًا سياسيًا، لكن من المبكر جدًا القول إن كانت ستنجح اقتصاديًا. فقد دخل ترامب فعليًا فى تجربة اقتصادية ضخمة»، وتشير الدراسات إلى أن تأثير التعريفات الجمركية يستغرق من 6 إلى 18 شهرًا حتى يظهر بالكامل، ولا يزال العديد من الاقتصاديين يتوقعون أنها ستؤدى إلى ارتفاع التكاليف على الشركات والمستهلكين وتباطؤ الاقتصاد. لكن الكاتب والمستثمر «شارما» يحذر من وهم «الغداء المجاني» مع تدفق إيرادات التعريفات الجمركية بمعدل يفوق 300 مليار دولار سنويًا. فبحسب تقديراته، يتحمّل المصدّرون الأجانب 20% فقط من تكلفة الرسوم، فيما تدفع الشركات والمستهلكون الأمريكيون النسبة الأكبر، التوازن القائم الآن، كما يقول، أشبه بحادث ينتظر أن يقع. بعض التقديرات تشير إلى أن المصدرين الأجانب يتحملون 20% فقط من تكلفة الرسوم الجمركية، بينما يدفع الباقى - نحو 80% - بشكل متساوٍ من قبل الشركات والمستهلكين الأمريكيين. السبب فى أن تعريفات ترامب لم تؤدِّ، كما كان متوقعًا، إلى الركود التضخمى أو إلى ارتفاع الدولار، هو وجود عوامل معاكسة، أهمها الجنون المتزايد حول الذكاء الاصطناعى وزيادة التحفيز الحكومى. كما أن مشروع قانون ترامب الضخم (Big, Beautiful Bill) يُتوقع أن يوفر للشركات حوالى 100 مليار دولار هذا العام، معظمها من التخفيضات الضريبية. ويبدو أن ترامب هو العامل الوحيد الذى يتم تحليله، رغم أن الاقتصادات المعقدة لا تتأثر عادة بعامل واحد فقط، حتى وإن كان بقدر تعريفات ترامب. وبعيدًا عن العائدات السريعة، يبقى التحدى الأكبر ماثلًا؛ عجز الميزانية الأمريكية الذى بلغ قرابة تريليوني دولار، أى نحو 6.4% من الناتج المحلي الإجمالي. التخفيضات الضريبية التى وعد بها ترامب لن تسد الفجوة، بل ربما تفاقمها. ويقول «هوارد ماركس»، مؤسس شركة «أوكترى» - إحدى الشركات العالمية الرائدة في مجال إدارة الاستثمارات البديلة: «يمكن القول بوضوح إن هذه الاستراتيجية لم تنجح. فالنمو لم يتسارع بما يكفى لتعويض خفض الضرائب، والديون مستمرة فى التضخم». فيما تُظهر مقابلات فى كتاب العواقب الاقتصادية للسيد ترامب للصحفي «فيليب كوجان»، أن عدم يقين السياسات الجمركية دفع العديد من الشركات إلى تجميد استثماراتها. حتى إذا لم يحدث الركود على الفور، فإن الرسوم تضعف كفاءة الاقتصاد العالمى، وتسهم بصمت فى تحلل تدريجى للنظام التجارى. ويحذر كوجان قائلًا: «حتى لو غادر ترامب منصبه فى 2029، فإن الشعبوية الحمائية باقية. الديمقراطيون بدورهم لم يتراجعوا عن معظم الرسوم، بل عززوها فى بعض الحالات». وإذا انسحبت الولاياتالمتحدة من زعامة التجارة الحرة، فمن يملأ الفراغ؟ هذا هو السؤال المحورى. فالاتحاد الأوروبى لا يزال مترددًا ومنقسمًا، والصين تواجه تباطؤًا ديموغرافيًا واقتصاديًا. الكثير من النمو فى آخر 15 عامًا جاء من الصين، التى بدأت تتباطأ بسبب شيخوخة السكان. لذا، بدلًا من انهيار مفاجئ، قد تؤدى رسوم ترامب إلى تسريع ما أسميه «التحلل الاقتصادى العالمى». والتكتلات الأخرى مثل «ميركوسور» فى أمريكا اللاتينية تتحرك، لكن ببطء. وإذا لم تنهض قوة بديلة، فإن النظام التجارى الحر الذى بُنى بعد الحرب العالمية الثانية قد يتفكك، تمامًا كما حدث فى ثلاثينيات القرن الماضى. حتى اللحظة، تُعد تجربة ترامب الاقتصادية محفوفة بالتناقضات. العوائد سريعة، والسيطرة واضحة، ولكن الثمن يتراكم فى الظل: ديون، تباطؤ استثمارى، وتآكل تدريجى لمبادئ النظام الاقتصادى العالمى. وكما قال أحد المراقبين فى بلومبرج: «ترامب ليس دائمًا من ينسحب فى اللحظة الأخيرة». وفى هذه اللعبة الاقتصادية ذات الرهانات العالية، لا أحد يعرف بعد من سيربح الجولة الأخيرة.