فى مشهد فتح صراعًا تجاريًا عالميًا لن ينتهى بعد أن فرض الرئيس الأمريكى دونالد ترامب التعريفات الجمركية على واردات معظم دول العالم لأمريكا، صاحبتها ردود فعل واسعة النطاق سواء من حلفاء أمريكا التجاريين مثل الاتحاد الأوروبى أو من منافسيها مثل الصين والتى ردت بأنها ستتخذ إجراءات مضادة. ففى الوقت الذى سعت فيه هذه السياسات إلى حماية الصناعات المحلية من المنافسة الأجنبية، أثارت فى المقابل قلقًا واسعًا بشأن تأثيراتها على سلاسل الإمداد العالمية والتوازنات الاقتصادية. فهل كانت هذه الخطوات مجرد تحركات اقتصادية قصيرة الأمد، أم أنها بصمةٌ ستظل تترك أثرها العميق فى المشهد الاقتصادى العالمى وترسم بداية لحرب تجارية عالمية ممتدة الأجل والأثر؟ تعريفات ترامب الجمركية تضرب الاقتصاد الأمريكى فى مقتل بعد مرحلة من الترقب الحذر، دخلت حيز التنفيذ التعريفات الجمركية التى فرضها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على معظم المنتجات التى تستوردها بلاده من باقى العالم، وذلك بنسبة 10%، فى تصعيد للحرب التجارية التى يشنها وتهدد بزعزعة الاقتصاد العالمى. وتضاف هذه الرسوم التى دخلت حيز التنفيذ صباح السبت الخامس من أبريل الجارى إلى الرسوم الجمركية التى سبق أن فرضها ترامب. لكن بعض المنتجات معفاة منها فى الوقت الحاضر، وهى النفط والغاز والنحاس والذهب والفضة والبلاتين والبلاديوم وخشب البناء وأشباه الموصلات والأدوية والمعادن غير المتوافرة على الأراضى الأمريكية. كما أن هذه الرسوم لا تطبق على الصلب والألمنيوم والسيارات المستوردة التى سبق أن فرض عليها ترامب رسومًا بنسبة 25%. وكنداوالمكسيك غير معنيتين بالرسوم الجديدة، غير أن هذين البلدين يدفعان ثمنًا باهظًا لسياسة ترامب الاقتصادية، إذ يخضعان لرسوم منفصلة بنسبة 25% على منتجاتهما. ومن المتوقع أن تشتد الوطأة على التجارة العالمية مع قرار ترامب بفرض رسوم إضافية على قائمة طويلة من البلدان التى تُصدر إلى الولاياتالمتحدة أكثر مما تستورد منها، بدءًا من الأربعاء التاسع من أبريل ولا سيما رسوم بنسبة 54% على الصين و20% على الاتحاد الأوروبى و46% على فيتنام و26% على الهند و24% على اليابان. وحذفت من قائمة الدول المستهدفة جزر سان بيار إيه ميكلون الفرنسية التى أعلن البيت الأبيض فرض رسوم بنسبة 50% عليها، وجزر هيرد وماكدونالد الأسترالية غير المأهولة سوى من طيور البطريق، بعدما أثار ورودها على قائمة الدول المستهدفة الذهول والسخرية حيال النهج المتبع من الإدارة الأمريكية. لكن رد الفعل الداخلى على هذه القرارات لم يقل فى قوته عن صيحات التنديد والاستهجان الدولى، وذلك للتداعيات الخطيرة التى سيتكلفها الاقتصاد الأمريكى جراء إشعال هذه الحرب التجارية. وفى غضون يومين فقط، تكبدت سوق الأسهم الأمريكية خسائر فادحة تخطت 6 تريليونات دولار من القيمة السوقية، وفقًا لمؤشر داو جونز. ولم يعلق ترامب إلا بمزيد من التشدد وكتب على منصته «تروث سوشال» إن «سياساتى لن تتغير أبدًا». وبينما دعا ترامب رئيس الاحتياطى الفيدرالى جيروم باول لخفض معدلات الفائدة، عرض الأخير أول صورة قاتمة لآفاق الاقتصاد الأمريكى فى ظل الرسوم الجمركية، متوقعًا زيادة التضخم وتراجع النمو وارتفاع البطالة. ونقل تقرير لفايننشال تايمز فى وقت سابق عن ستيف إنجلاندر، رئيس أبحاث العملات الأجنبية لمجموعة العشرة فى ستاندرد تشارترد، أن التعريفات الجمركية قد ترفع الأسعار بنسبة 1.8% على مدى عامين.. وأظهر استطلاع للرأى أجرته رويترز/ إبسوس مؤخرًا أن الأمريكيين منقسمون بشأن الرسوم الجمركية، إذ عارض 54% منهم الرسوم الجمركية الجديدة على السلع المستوردة وأيدها 43%، وكان الديمقراطيون أكثر معارضة والجمهوريون أكثر دعمًا. ويرى محللون أن الرسوم الجمركية قد تدفع إلى زيادة الأسعار الذى يؤدى بدوره إلى «الركود التضخمى»، أى ارتفاع التضخم وركود النمو الاقتصادى وارتفاع معدلات البطالة فى الداخل. وتعتبر التعريفات الجمركية فى مركز السياسية الاقتصادية للرئيس ترامب، التى تشمل أيضًا التخفيضات الضريبية لتشجيع التصنيع المحلى وتوطين الصناعة، وكذلك خفض قيمة الدولار لتشجيع الاستثمارات وجذب رأسمال جديد. وقال تحليل نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» إن تعريفات ترامب هى ذروة سعيه لإجبار الشركات على التصنيع داخليًا، حتى وإن كان ذلك على حساب اقتصاد قوى نسبيًا. فنظرًا لأن الرسوم الجمركية هى نوع من الضرائب، يقول المحللون إن خطة ترامب تُعتبر من أكبر زيادات الضرائب فى العقود الأخيرة، وهى تغيير فى السياسة أدى إلى اهتزاز سوق الأسهم، وشل استثمارات القطاع الخاص، ودفع الاقتصاد إلى حافة الركود. ومن ناحية أخرى، ففى حين من الناحية النظرية تعمل الرسوم الجمركية المرتفعة على تعزيز قيمة عملة الدولة، لكن إعلان الرئيس الأمريكى عنها أدى إلى انخفاض قيمة الدولار الأمريكى، وليس بالشكل الذى يحفز على الاستثمار ويجتذب رأس المال، بل بما يعكس مزيدًا من عدم الثقة فى مسار الاقتصاد الأمريكى خلال الفترة القادمة، وعدم اليقين الاقتصادى الشامل. وقال تقرير لموقع «أكسيوس» إن تراجع الدولار مؤخرًا علامة على أن المستثمرين قلقون بشأن الركود وخاصة فى الولاياتالمتحدة، بالإضافة إلى القلق من أن السياسات الأمريكية تجعل الولاياتالمتحدة رهانًا محفوفًا بالمخاطر على المدى الطويل. ويضيف التقرير ذاته أن قيمة الدولار ارتفعت بعد الانتخابات، وكان المستثمرون متفائلين بشأن تحرير القيود وتخفيضات الضرائب وتوقعات النمو الاقتصادى، لكن منذ يوم التنصيب تراجعت قيمته. د. محمود محيى الدين: عودة الإجراءات تُصاحبها تداعيات سياسية واجتماعية قال د.محمود محيى الدين، المبعوث الخاص للأمم المتحدة للتنمية المستدامة، إن فى عودة الإجراءات الحمائية شرا مستطيرا يبدأ بالاقتصاد ولا ينتهى عنده، فله تداعيات سياسية واجتماعية وأمنية شهدتها سابقًا، منذ عهد الميركانتيليين فى القرنين السابع عشر والثامن عشر بإجراءاتهم المقيدة للاستيراد والتصدير، وما يستتبعها من حروب تجارية. وأضاف أنه لم يكن العود أبدًا لتلك الإجراءات الحمائية الميركانتيلية أحمد، فهكذا أنبأتنا الإجراءات التى اتبعتها الولاياتالمتحدة منذ مائة عام بعدما ضاق مزارعوها بفوائض المنتجات الزراعية الأوروبية ففرضت تعريفة جمركية على الواردات منها، فطالب المصنعون بحماية مماثلة حتى فرضت بقوة التشريع، فيما عُرف بقانون سموت هولى، نسبة لنائبى الكونجرس اللذين تبنياه فى عام 1930. وانتشرت مثل هذه الأفعال المناوئة للتجارة حول العالم مستهدفة إلحاق الأذى بمن صاروا غرماء فى التجارة بعدما كانوا من الشركاء. ربما اختلف المحللون الاقتصاديون حول ميكانيكية الفعل ورد الفعل لهذه الإجراءات، وهل أدت وحدها إلى الكساد الكبير الذى لم يخرج منه العالم إلا بكارثة الحرب العالمية الثانية. وأضاف د.محيى الدين أنه لم يكن من المحسوم أن التجارة الدولية تقلصت بمقدار الثلثين؛ وزعزعت هذه الإجراءات مقومات التعاون الدولى، وأشعلت التوتر السياسى بين الدول بما يتجاوز أى حلول منطقية سلمية للخلافات بينها، ما أسهم فى تهيئة أجواء للصراعات التى انتهت بالحرب العالمية الثانية. وأشار إلى ما ذكره لارى فينك الرئيس التنفيذى لأكبر بيت مالى لإدارة الأصول فى العالم إلى تحذيره مساهميه فى خطاب مفتوح من أن «الحمائية قد رجعت بكامل قوتها»، وأن الناس قد أمسوا «أكثر انزعاجًا من الاقتصاد مقارنة بأى وقت نتذكره». وتابع: وليس مستغرباً فى ظل هذه المربكات المتلاحقة أن يتساءل عموم الناس عن مستقبل الأسواق المالية فتأتى الإجابات متضاربة، معلقة التحسن بشروط تتنافى مع اشتعال الحمائية الراهنة. كما يتساءلون عن مستقبل # الدولار فيكون الرد بأنه ما زال العملة الدولية، أو كما أطلق عليه الاقتصادى الأمريكى جيفرى فرانكل منذ 30 عاماً أنه «لينجوا فرانكا»، أى لغة التواصل المشترك، وقبل أن تستريح للإجابة يعاجلك فرانكل نفسه بمقال كتبه منذ أيام بأن ما نشهده من إجراءات قد ينهى سيطرة الدولار. خبراء: الحماية تُشوِّه التدفقات التجارية قال خبراء إن المباشرة للرسوم الجمركية تشويه لتدفقات التجارة القائمة، فالدول المعتمدة بالأساس على التصدير لأمريكا، مثل ألمانيا واليابان وفيتنام، هى الأكثر عرضة للتأثيرات السلبية، مشيرين إلى أنه لا يمكن التنبؤ بوضع الاقتصاد العالمى مع الرسوم الجمركية الأمريكية خلال هذا العام الحالى والقادم.. وفى هذا الإطار قال معتز يكن، الخبير الاقتصادى، إنه من الضرورى استعراض جذور هذه الحرب التجارية الحديثة وتقييم المخاطر النظامية التى تلوح فى الأفق، من تصاعد الصراع التجارى: من الصين إلى أمريكاالشمالية عبر أوروبا. يمكن تتبع جذور الموجة الحالية من الحماية التجارية إلى عام 2018، خلال الولاية الأولى للرئيس ترامب، حينها فرضت الولاياتالمتحدة رسومًا جمركية على مئات المليارات من الدولارات من الواردات الصينية بموجب المادة 301 من قانون التجارة لعام 1974، وذلك بدعوى سرقة الملكية الفكرية ونقل التكنولوجيا قسريًا، والسياسات الصناعية غير العادلة. وقد أدت هذه الإجراءات إلى رد فورى من الصين، وأشعلت أكبر نزاع تجارى منذ تأسيس منظمة التجارة العالمية. وفى الوقت نفسه، فرضت الولاياتالمتحدة رسومًا على واردات الصلب والألمنيوم مستندة إلى اعتبارات الأمن القومى بموجب المادة 232، وهو ما أثّر على شركاء رئيسيين مثل كنداوالمكسيك، واللذين ردّا بإجراءات مضادة. وقد ساهمت هذه التوترات فى إعادة التفاوض على اتفاقية «نافتا» واستبدالها باتفاقية الولاياتالمتحدة-المكسيك-كندا (USMCA)، لكنها خلفت حالة من عدم الثقة وزيادة فى الطابع التفاوضى للعلاقات التجارية بديلًا عن الأطر المؤسسية المستقرة. وأضاف يكن أنه على الرغم من أن إدارة بايدن اعتمدت نبرة أقل تصعيدًا، فإنها احتفظت بمعظم الرسوم الجمركية القائمة تجاه الشركاء التجاريين الرئيسيين، خاصة تجاه الصين. ولكن التصعيد الأخير بقيادة ترامب يوحى بتحول هيكلى فى السياسة التجارية وليس مجرد تكتيكات مرحلية. وأوضح يكن: من أولى النتائج المباشرة للرسوم الجمركية تشويه تدفقات التجارة القائمة. فالدول المعتمدة بالأساس على التصدير لأمريكا، مثل ألمانيا واليابان وفيتنام، هى الأكثر عرضة للتأثيرات السلبية، لا سيما فى قطاعات السيارات والإلكترونيات. وقد يؤدى تحويل مسارات التجارة فى هذه القطاعات لتفادى الرسوم إلى زيادة فى التكاليف اللوجستية، وفقدان المزايا التنافسية، واضطراب سلاسل التوريد. علاوة على ذلك، فإن احتمالية الرد بالمثل من الشركاء التجاريين الكبار تُهدد بمزيد من تفتيت التجارة العالمية. وقد لمّح الاتحاد الأوروبى بالفعل إلى اتخاذ إجراءات مضادة، كما أعلنت وزارة التجارة الصينية نيتها «الرد بالمثل» ووصفت الرسوم بأنها «أحادية الجانب وغير مبررة». مثل هذه الدوامة من الإجراءات الانتقامية قد تقوض الاستقرار الذى تعتمد عليه التجارة العالمية. وأضاف يكن: تُعد الرسوم الجمركية بمثابة ضرائب على الواردات، وغالبًا ما تُمرر تكاليفها إلى المستهلكين. مع وجود رسوم بنسبة 10% كحد أدنى، ونسب أعلى على قطاعات حيوية مثل السيارات والإلكترونيات، يواجه الاقتصاد الأمريكى خطرًا متجددًا لما يُعرف ب «التضخم الناتج عن تكاليف الإنتاج». وفى ظل استمرار الضغوط التضخمية على مستوى العالم بعد جائحة كورونا، وارتفاع أسعار الطاقة والسلع، قد تؤدى هذه السياسة إلى مزيد من زعزعة استقرار الأسعار محليًا ودوليًا. وقد تجد البنوك المركزية، مثل الاحتياطى الفيدرالى والبنك المركزى الأوروبى، نفسها فى مواجهة تحديات صعبة. فرفع أسعار الفائدة لكبح التضخم الجمركى قد يُبطئ الانتعاش الاقتصادى الهش، بينما تجاهل التضخم قد يزعزع ثقة الأسواق ويشوّه التوقعات. وأشار يكن: إلى جانب الأسعار، من المرجح أن تؤدى الرسوم إلى اضطرابات أوسع فى الأسواق. فقد أظهرت الأسواق المالية بالفعل تقلبًا واضحًا مع تصاعد الخطاب الحمائى. وشهدت أسهم الشركات المرتبطة بالتجارة العالمية مثل السيارات، وأشباه الموصلات، والخدمات اللوجستية تراجعات ملحوظة. كما تأثرت أسعار السلع الأساسية، خصوصًا المعادن الصناعية والمنتجات الزراعية، بتوقعات انخفاض الطلب وتراجع حركة التبادل. وفى الدول النامية التى تعتمد على الوصول إلى الأسواق الأمريكية أو الصينية، قد تؤدى هذه التوترات إلى تقليص تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر أو إعادة توجيهها، مما يزيد من حالة عدم اليقين فى بيئة استثمارية هشة بالفعل. ومن جهته قال د. إبراهيم مصطفى، النائب السابق للمنطقة الاقتصادية بقناة السويس، إنه لا يمكن التنبؤ بوضع الاقتصاد العالمى مع الرسوم الجمركية الأمريكية خلال هذا العام الحالى والقادم. وأضاف أنه فى تحدٍ صارخ للعولمة ومؤسساتها ولاسيما التجارية منها، حيث ستشهد السوق العالمية صدمات بناءً على مدى اعتماد وانخراط بعض الأسواق بالسوق الأمريكية والتى ستبحث عن بدائل لمواجهة تلك الرسوم الجمركية المرتفعة، لذا فإن هناك أسواقًا ستشهد رواجًا استثماريًا صناعيًا، لتكون بدائل مكانية للتصنيع، فالتجارة محرك أساسى للاستثمار والإنتاج فى الأسواق التى لديها قيود أقل تجاه الأسواق الأخرى. وأكد أن هناك فرصًا لتحرك الشركات ولاسيما الآسيوية لبعض الأسواق فى منطقة الشرق الأوسط والتى لديها اتفاقات تجارية مثل مصر تسمح بنفاذية لأسواق أوروبا وأمريكا بجمارك صفرية أو مخفضة مقارنة بغيرها. ومن جانبه رأى جمال بن سيف الجروان، الخبير الاقتصادى والأمين العام السابق لمجلس الإمارات للمستثمرين فى الخارج، أن الاقتصاد العربى سوف يتضرر من قرارت ترامب. وأوضح أن كثيرًا من الدول العربية لديها صادرات مباشرة وغير مباشرة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. وقال: بطبيعة الحال سوف يتأثر كثير من الدول تأثيراً مباشراً مما سيعرقل بدون شك سير التجارة الخارجية العربية نحو الولاياتالمتحدة. وتابع الجروان أن ترامب يعتقد أن سياساته سوف تحقق «أميركا أولاً»، ولكن الخبراء ورجال الاقتصاد يتوقعون أن تتسبب هذه السياسة فى عواقب سلبية، من بينها زيادة الأعباء المالية على الأسر والشركات، وفق تحذيرات وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين، مشيراً إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج بسبب الرسوم الجمركية، ما يضعف تنافسية الصناعة الأمريكية عالمياً، بالإضافة إلى تعزيز حالة عدم اليقين، ما يثنى الشركات والأسر عن اتخاذ قرارات طويلة الأجل. وأضاف الجروان أن ترامب يراهن على سياسات اقتصادية تستهدف تقوية الاقتصاد الأميركى داخلياً، وتشير التوقعات إلى أن هذه السياسات قد تحمل تكلفة اقتصادية عالية، تمتد تأثيراتها إلى الأسواق العالمية ومن بينها الاقتصادات العربية ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، وبينما يستعد العالم لاستقبال رؤية ترامب الاقتصادية الجديدة، يبقى التساؤل مفتوحًا حول قدرة الولاياتالمتحدة على تحقيق التوازن بين المصالح الوطنية والتحديات العالمية. ضربة مؤلمة عبر الأطلنطى أوروبا تترقب عدوانية ترامب.. والتقارب مع الصين «ليس خيارًا» بعد خذلان سياسى تمثل فى «التخارج» من دعم أوكرانيا وترك الأوروبيين وحدهم فى مواجهة روسيا، وجّه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ضربة أخرى للحلفاء عبر الأطلنطى، عبر حديثه عن فرض تعريفات جمركية مؤلمة على البضائع الأوروبية. وكان ترامب قد أعلن الأربعاء الماضى عن فرض رسوم جمركية أساسية بنسبة 10% على معظم دول العالم، لكن العديد من الدول خضعت لمعدلات أعلى بكثير. وقد تم فرض رسوم جمركية على بضائع الاتحاد الأوروبى المصدرة إلى الولاياتالمتحدة بنسبة 25%. وفى وقت سابق، قال ترامب إن الاتحاد الأوروبى قد يواجه رسومًا جمركية إذا لم يخفض عجزه التجارى المتزايد مع الولاياتالمتحدة من خلال إبرام صفقات نفط وغاز ضخمة. ووفقًا لبيانات الحكومة الأمريكية يشترى الاتحاد الأوروبى بالفعل الجزء الأكبر من صادرات النفط والغاز الأمريكية، ولا تتوفر حاليًا أى كميات إضافية ما لم ترفع الولاياتالمتحدة من إنتاجها أو تعد توجيه الكميات من آسيا، المستهلك الكبير الآخر لمنتجات الطاقة الأمريكية. ووفقًا لبيانات مكتب الإحصاء الأوروبى يوروستات، وردت الولاياتالمتحدة بالفعل 47% من واردات الاتحاد الأوروبى من الغاز الطبيعى المسال و17% من وارداته من النفط فى الربع الأول من عام 2024. وتعهد ترامب بفرض رسوم جمركية على معظم الواردات إن لم يكن كلها، وقال إن أوروبا ستدفع ثمنًا باهظًا؛ لأن لديها فائضًا تجاريًا كبيرًا مع الولاياتالمتحدة لعقود من الزمن. وسجلت الولاياتالمتحدة عجزًا تجاريًا فى السلع مع الاتحاد الأوروبى بلغ 155.8 مليار يورو (161.9 مليار دولار) العام الماضى. ومع ذلك كان لديها فائض فى قطاع الخدمات بلغ 104 مليارات يورو، وفقًا لبيانات يوروستات. وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إن الاتحاد الأوروبى يضع اللمسات الأخيرة على أول حزمة من التدابير الانتقامية ويستعد لاتخاذ خطوات إضافية لحماية شركاته فى حال فشلت محادثات الرسوم الجمركية مع واشنطن. ودعا رئيس كتلة المحافظين فى البرلمان الأوروبى، مانفريد فيبر، الاتحاد الأوروبى إلى الوقوف فى وجه الرئيس الأمريكى فى النزاع التجارى. وقال فيبر فى تصريحات لصحف مجموعة «فونكه» الألمانية إن «الاتحاد الأوروبى لن يسمح بأن يتحكم به ترامب.. بل إنه مستعد للتوصل إلى اتفاق، ولكن على قدم المساواة»، مشيرًا إلى أن حصة الاتحاد الأوروبى من الاقتصاد العالمى تبلغ 22%، بينما تبلغ حصة الولاياتالمتحدة 25%. ويفرض الاتحاد الأوروبى حاليًا تعريفات جمركية بمعدلات معظمها فى نطاق الأرقام الأحادية. ومن ثم، فإن استجابة انتقامية مماثلة من الاتحاد الأوروبى قد تؤثر بشكل كبير على الصادرات الأمريكية إلى المنطقة. ومع ذلك، هناك احتمال ألا تؤدى هذه التعريفات إلى قطع التدفقات التجارية بشكل كبير، بل قد يتم إعادة توجيهها عبر دول ثالثة إلى الولاياتالمتحدة. من ناحية أخرى، يمكن أن تؤثر سياسات ترامب الجمركية وحالة عدم اليقين العامة بشأن التجارة الأمريكية على اقتصاد الاتحاد الأوروبى بعدة طرق. فمن المتوقع أن تؤثر هذه التعريفات سلبًا على المُصدّرين الأوروبيين، وقد يكون لها تأثير على معدلات التضخم وقرارات أسعار الفائدة فى الأشهر المقبلة، وقد تتسبب فى تباطؤ النمو الاقتصادى للاتحاد الأوروبى. وقد خفّض البنك المركزى الأوروبى بالفعل توقعاته لصافى الصادرات لعام 2025. ومن المتوقع أن يكون قطاع السيارات فى الاتحاد الأوروبى من بين الأكثر تأثرًا، نظرًا للعجز الكبير فى الميزان التجارى لهذا القطاع بين الولاياتالمتحدة وأوروبا. إذ إن التعريفات المفروضة على السيارات الأوروبية قد ترتفع إلى 25% بعد أن كانت عند 2.5% فقط، مما سيجعل السيارات الأوروبية أقل قدرة على المنافسة فى السوق الأمريكية. ويقدر الاتحاد الأوروبى أن حجم التجارة السنوية بين الجانبين يبلغ حوالى 1.5 تريليون دولار، ما يمثل حوالى 30٪ من التجارة العالمية. ورغم أن بعض المحللين تكهنوا بأن حرب ترامب التجارية قد تدفع الاتحاد الأوروبى والصين للتقارب، فإن بروكسل ازدادت حذراً. وقد حذّر الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون من أن الرسوم المرتفعة على الدول الآسيوية قد تدفعها إلى إعادة توجيه فائض طاقتها الإنتاجية إلى أوروبا، مما قد يؤدى إلى «عواقب هائلة» على الصناعات الأوروبية. وحذّر المحللون من أن الرسوم الجمركية الواسعة التى فرضها ترامب قد تؤدى إلى تدفق هائل من الواردات الصينية منخفضة السعر، مما يزيد من الضغوط على القاعدة الصناعية المتعثرة فى القارة. ومع دفع التعريفات الأمريكية للمنتجين الصينيين وغيرهم من الآسيويين إلى إعادة توجيه صادراتهم، تستعد بروكسل لإجراءات طارئة جديدة لحماية أسواقها من الغزو بالسلع الرخيصة. «بكين» تتأهب بترسانة اقتصادية فى مواجهة ترامب فى ظل تصاعد التوترات الاقتصادية بين الولاياتالمتحدةوالصين، يُعد فرض رسوم جمركية أمريكية بنسبة 34% على السلع الصينية خطوة تصعيدية غير مسبوقة، من شأنها التأثير على حركة التجارة العالمية. تمثل هذه الخطوة تحديًا مباشرًا لبكين، وتدفعها لتفعيل مجموعة من سيناريوهات الرد الاستراتيجى للحفاظ على استقرارها الاقتصادى والسياسى. تعتبر الرسوم الجمركية الجديدة هى أحدث جولة فى الحرب التجارية بين البلدين وتضاف إلى الرسوم السابقة التى أعلنت عنها الولاياتالمتحدةالأمريكية بداية الشهر الماضى ليصل إجمالى الرسوم الجمركية على الواردات الصينية 54%. وعلى الرغم من تحلى بكين بالصبر ورغبتها فى فتح قنوات الحوار مع إدارة ترامب، إلا أنها بدأت التكشير عن أنيابها وأعلنت هى الأخرى عن فرض رسوم جمركية بنسبة 34% على جميع الواردات القادمة من الولاياتالمتحدةالأمريكية. وصرحت وزارة الماليةالصينية بأن الرسوم الجمركية الأمريكية على المنتجات الصينية «لا تتوافق مع قواعد التجارة الدولية». كما قررت فرض قيود على تصدير بعض المواد المرتبطة بالمعادن النادرة. وقالت السلطات الصينية إنها ستبدأ تحقيقاً فى أنابيب الأشعة السينية الطبية المقطعية المستوردة من الولاياتالمتحدةوالهند، وستوقف واردات منتجات الدواجن من شركتين أمريكيتين. من المتوقع على نطاق واسع، أن تؤدى هذه الإجراءات المتبادلة إلى تعميق التوترات التجارية العالمية، وسط مخاوف متزايدة من تأثيرها السلبى على النمو الاقتصادى العالمى واستقرار الأسواق المالية. وبالفعل شهدت الأسهم العالمية مزيدًا من التراجع بعد أن ردت الصين بفرض رسوم انتقامية ردًا على الرسوم الأمريكية. ومن القطاعات التى باتت عالقة فى قلب الحرب بين البلدين هو قطاع العملات المشفرة، حيث يقع مقر العديد من أكبر شركات التعدين فى الولاياتالمتحدة، فيما ترتكز سلسلة التوريد فى آسيا. الحرب التجارية بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوالصين ليست جديدة، لكن الشعلة الأولى لها كانت خلال ولاية ترامب الأولى عام 2018. هذه المرة ربما يكون تأثير الضربة الأمريكية على الاقتصاد الصينى أقوى، ويتوقع خبراء اقتصاديون أن تؤثر الرسوم الجديدة على الناتج المحلى للصين بنسبة انخفاض 2%. لا يستطيع أحد التنبؤ بمجريات هذه الحرب المستمرة بين أكبر اقتصادين فى العالم، لكن من المؤكد أن الصين تحتفظ بالكثير فى ترسانتها الاقتصادية، وهو ما تعهدت به بكين ب»الحرب حتى النهاية» وفى نفس الوقت التأكيد على أن التسلط الأمريكى الأحادى لا يفيد أى طرف ويضر بالجميع. وتماشيًا مع السياسية الصينية التى تسلك الحلول الدبلوماسية دائمًا، تلجأ الصين لرفع دعوى شكوى رسمية لمنظمة التجارة العالمية ضد السياسات الأمريكية والتى لا تضمن نتائج أو مدى التزام الرئيس الأمريكى بقراراتها أو حتى مستقبل المنظمة، وفى نفس الوقت ربما توسع التحالفات الاقتصادية الدولية وتوطيد علاقاتها مع الاتحاد الأوروبى ودول شرق آسيا لموازنة النفوذ الأمريكى. داخليًا، ستحاول الصين تعزيز السوق المحلى والاكتفاء الذاتى عن طريق رفع الاستثمار فى الصناعة الوطنية لتقليل الاعتماد على الصادرات وهو ما بدأت فيه بالفعل خلال الحرب التجارية الأولى من محاولة تحقيق الاكتفاء الذاتى فى صناعة أشباه الموصلات، وهو من القطاعات التى تشهد صراعًا بين البلدين لمنع الصين من تحقيق تقدم فى مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى. كما ستعمل الصين على توسيع مبادرة «الدورة المزدوجة» لتعزيز الاستهلاك المحلى، بالإضافة لتقديم حوافز مالية للشركات المتضررة من الرسوم الجمركية وجميعها إجراءات لتحصين الاقتصاد الصينى من الصدمات الخارجية.. وتشمل القنوات الأخرى المحتملة للتحفيز الاقتصادى خفض نسبة الاحتياطى الإلزامى للبنوك، ما قد يتيح سيولة إضافية للإقراض أو الاستثمار. وأشار محللون إلى أن مثل هذه الخطوة قد تكون رد فعل محتملاً من بنك الشعب الصينى لمواجهة الزيادات الكبيرة فى الرسوم الجمركية. ويُحذر خبراء اقتصاديون من أن زيادة الرسوم الجمركية تضر بالنمو وستزيد معدلات التضخم؛ لأن هذه التكاليف سيتحملها فى البداية مستوردو هذه البضائع الذين غالبًا ما سيحملونها إلى المستهلكين، ويرجحون أن زيادة الرسوم الجمركية ما هى إلا ورقة مساومة تستخدمها الولاياتالمتحدةالأمريكية لإرغام سواء حلفائها أو خصومها لشروطها. وفى النهاية إشعال الحرب يضر بالطرفين، لذا فمن المرجح أن يصل البلدان لاتفاق يراعى مصالحهما.