كتبت: مرفت عمر في ساحة دار الأوبرا المصرية، وتحديدًا على خشبة مسرح مركز الإبداع الفني، تجدد اللقاء بين الجمهور وروح المسرح الحي في عرضه الأكثر دفئًا وإنسانية ضمن الدورة الثامنة عشرة للمهرجان القومي للمسرح المصري: عرض "حواديت" من إعداد وإخراج المبدع خالد جلال، الذي لا يزال يحمل على عاتقه مهمة الكشف عن وجوه جديدة تعيد للخشبة سحرها، وتعيد للجمهور إيمانه بالفن القادر على التغيير. "حواديت" ليست حكاية واحدة، بل سلسلة من القصص التي تخرج من قلوب أصحابها، وإن لم تكن تخصهم مباشرة، لكنها تنبض بمشاعرهم وتلتقط نبض الشارع المصري بلغة فنية واعية، تجمع بين السخرية والصدق، وتطوف بالجمهور ما بين الدموع والضحك، الفجيعة والأمل، وتطرح تساؤلات شائكة ببساطة صادقة، وكأنها تقول: هذا هو حالنا.. وهذه مرايانا الصغيرة. تجربة فنية جماعية ما يميز العرض منذ لحظاته الأولى هو الروح الجماعية الطاغية، أمامنا 38 موهبة من دفعة "علي فايز" يقتسمون الضوء والصوت والمساحة دون نجم أول أو وجه مركزي، في مشهد فني نادر، يحيلنا إلى ما كان يجب أن تكون عليه الفنون: الكل يخدم الفكرة، والكل بطل في حد ذاته. وقد استطاع خالد جلال أن يمنح كل موهبة منهم لحظتها الخاصة، لا فقط كممثلين، بل كفنانين متعددي الطاقات، في تجربة هي امتداد لرؤيته المستديمة التي ظهرت بوضوح في "قهوة سادة"، تلك العلامة الفارقة في تاريخ المسرح الشبابي المصري، حيث لا حدود فاصلة بين الغناء والتمثيل والاستعراض والكتابة. ففي "حواديت"، لن تجد أداءا يستنسخ، أو طاقات تهدر، ستقف أمام مشاهد كتب أحد أفراد الدفعة كلماتها، ولحن آخر ألحانها، وغناها ثالث، ليكون المنتج النهائي مركبًا عضويًا نابضًا بالحياة، لا صنيع محترف واحد، بل ثمرة وعي جماعي بضرورة التعبير المشترك. الحكاية مرآة الجماهير في زمن باتت فيه الحكايات مستهلكة ومكررة، يأتي هذا العرض ليعيد للكلمة روحها، وللحكاية معناها الأولي: أن تكون مرآة، لا لصاحبها فقط، بل للآخرين أيضا، ولذلك تبدو القصص المعروضة شديدة الصلة بالجمهور، وكأنها خرجت من تفاصيل يومه، من حيرته، من ألمه، وربما من حلمه المكبوت. قصص المعرضين للخذلان في دوائر العمل أو الأسرة، أولئك العالقين في مطارات الحياة بلا تأشيرة عبور، والأحلام التي لا تجد من يصدقها سوى أصحابها.. كل هذا يتجسد على الخشبة بحس ساخر أحيانًا، وشاعري في أحيان أخرى، دون افتعال أو ادعاء العمق، بل بصدق مدهش وبساطة تجذبك من المشهد الأول حتى النهاية. خيال بصري وصوتي لم يكن السرد وحده كافيًا لاحتواء الزخم العاطفي الذي يقدمه العرض، بل جاءت الصورة البصرية لتكمل هذا الطيف الفني: استخدام المسرح بكامل أبعاده، تحريك الممثلين كلوحة حية لا تعرف الجمود، استغلال الإضاءة لتوجيه البؤر الشعورية، واختيار الأزياء كجزء من الحكاية لا كزينة سطحية. أما الموسيقى، فقد أدت دورًا أساسيًا، ليس كمجرد خلفية، بل كتعليق درامي حي، حيث جاء الغناء منسوجًا في قلب الحكاية، منسجمًا مع عوالم الشخصيات وتطوراتها. واللافت أن معظم الأغنيات كانت من صنع أصحابها، مما أضفى عليها صدقًا مدهشًا، قلما نجده في العروض التقليدية. عودة إلى جوهر المسرح عرض "حواديت" يعيد الاعتبار لفكرة المسرح كفن شامل، لا يتوقف عند التمثيل فقط، بل يحتضن كافة أشكال التعبير: كتابة، موسيقى، حكي، غناء، حركة، كما يعيد التأكيد على أن المسرح لا يصنعه الديكور الباذخ أو الأسماء الرنانة، بل الموهبة الحقيقية والإرادة الجماعية للخلق. وهو كذلك عرض يكشف مرة أخرى عن فلسفة خالد جلال في التدريب والإخراج، حيث لا يفرض رؤيته كسلطة عليا، بل يشرك تلاميذه في صياغة العرض، يحرّضهم على التفكير، ويمنحهم أدوات الحرفة، ثم يتركهم يخوضون التجربة كاملة، بقلوبهم قبل أدواتهم. بين الماضي والحاضر لا يمكن أن نرى هذا العرض دون أن نستدعي روح "قهوة سادة"، لكن "حواديت" ليست استنساخًا لها، بل تطورًا طبيعيًا لمسيرة مستمرة من تخريج أجيال واعية، مؤمنة بدور الفن، وقادرة على التعبير عن واقعها. بل إن العرض، رغم مسحة الحنين في بعض مشاهده، أكثر التصاقًا باللحظة الراهنة، بما تحمله من ارتباك وتشظي، وأيضًا من احتمالات للانتصار. في الختام "حواديت" ليس مجرد عرض فني ضمن فعاليات مهرجان، بل هو دعوة صريحة للعودة إلى المسرح كفن حياة، عرض يقول لنا إن هناك جيلًا جديدًا يتشكل، لا ينتظر الشهرة السريعة، بل يسعى للصدق، للتجريب، للتعبير عن أوجاع الناس وآمالهم. إنه عرض يفتح الباب أمام الطاقات الجديدة لتقول: نحن هنا، نملك الحكاية، ونملك القدرة على روايتها بطرقنا الخاصة. ومع خالد جلال، تتحول هذه الطاقات إلى طوفان من الإبداع لا يمكن تجاهله.