حياة الأمم ودوام بقائها ، وإسهامها الحضاري يتطلب نوعين من الحراس ؛ حراس بالسلاح وحراس بالعقول للعقول والأرواح . فالحراس حملة السلاح لحماية الأرض والمقدّرات ، وحراس العقول والأرواح تحمي الهوية الكفيلة باستمرارية السعي مدداً للإنسان بزاده الروحيّ ووعيه العقلي ويقظته الضميرية التي يتطلبها الإصلاح والبناء والتقدم. وحُرَّاس الهوية هم المفكرون والمبدعون من صُنَّاع الرأي، وصائغي الرؤى الحضارية، ومُوجِّهي الطاقات الروحية والعقلية والعلمية والأخلاقية. وهم يمثلون خلاصة الرحيق الحضارى للأمة والمرآة الجلية التي ينعكس فيها تاريخها وفلسفتها وإبداعاتها ومنجَزَها الذي استطاعوا استخلاصه واستيعابه وتمثُّله مثل النجوم التى تمتص الضوء ليصبح بعدئذ نورا يهدي السائرين. وأولئك الحراس تكون الحاجة إليهم ماسَّة دائما فمن ذا الذي يعيش دون أنوار وتنوير ؟! ، لكنها تكون أشد مسيساً في أزمنة التراجع الحضاري ، وغلبة الوهن ، والانكسار الأُممي ، وسيادة ثقافة التفاهة . ولمّا كنا نعايش كل تلك الأزمنة بعجفاء إفرازاتها فقد استوجب الأمر ، إلقاء مزيد من الضوء على أولئك الذين أرشدنا إليهم أديب العربية وداعية الحرية عبد الرحمن الكواكبي إذ يقول: " ما بالُ الزمانِ يضنُّ علينا برجال ينبهون الناس ، ويرفعون الالتباس ، ويفكرون بحزْم ، ويعملون بعزمٍ ، ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون". والمغربي الدكتور طه عبد الرحمن واحد من أولئك الحراس للهوية الحضارية الإسلامية في مواجهة التغريب ، والتذويب ، والانسلاخ ، والانسحاق ، والقابلية للاستعمار. وذلك انطلاقاً من مشروع تأصيليّ متجدد في إطارٍ أخلاقيّ متحرر من التبعية قائم على التوازن والتوافق التكاملي بين الوحي والعقل يستهدف إحياءً حضاريا مستنداً إلى رؤية أخلاقية فلسفية إيمانية بإحياء تجديديّ لإشكالات الاجتهاد والحرية والعقل، وتأسيسٍ لمنطق تواصليّ بروح اللغة والثقافة الخاصة التى تعكس الطابع الحضاري للأمة. فالدكتور طه عبد الرحمن من أبرز المفكرين المسلمين المعاصرين الذين تصدوا للموجات الفكرية التغريبية التي تهدد الهوية الإسلامية ، وقد تميز مشروعه الفكري بالأصالة والمعاصرة إذ جمع بين التراث الإسلامي الأصيل والأدوات الفلسفية الحديثة معرفيةً ومنهجية ، مما تمكن معه من تقديم نقد عميق للحداثة الغربية ، وكذلك استطاع تقديم فكر إسلامي تأسيسي بديل لتلك المناهج والتقاليع الحداثية ينطلق من القيم الأخلاقية والروحية والمنهجية العلمية الإسلامية. وذلك نظرا لما توفر له من وضوح في الرؤية وإلمام معرفي بالمنتج الثقافي الغربي والإسلامي على حد سواء إلى جانب الاستقلال المنهجي في التناول والتاصيل والنقد والتأسيس. وذلك ما بدا بوضوح فيما انتهى إليه من عناصر التجديد والأصالة التي اجتمعت لمشروعه الإصلاحي الذي يمكن بأريحية التوافق على تسميته بمشروع ( حراسة الهوية ) ومقارنته بمشروع حراسة الهوية لدى الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي الذي سيكون موضوع مقالنا القادم في سلسلة لنحيا بالوعي. وتقوم أهم جوانب المشروع الإصلاحي التجديدي لدى طه عبد الرحمن في حراسة الهوية على دعامتين تقتربان من ثنائية سقرط المنهجية ، والدعامة الثالثة تختص بالآليات والوسائل ، وتتمثل ثلاثتهم في : أولا : الفكر الإصلاحي التأسيسي : ويتبنى فيه طه عبد الرحمن المسارات التالية 1. التجديد على قاعدة الهوية الأخلاقية للفكر الإسلامي : فقد انطلق الدكتور طه عبد الرحمن من أن جوهر الهوية الإسلامية هو الأخلاق، فدعا إلى تأسيس فكر إسلامي معاصر يقوم على تجديد الفكر الأخلاقي لا على تقليد الغرب وتقاليعه الفكرية والفنية والأدبية والاجتماعية والاقتصادية. 2. تحصين ذات الأمة من الاستلاب الفكري مهدِّد الهوية ، فقد حذّر من التبعية والانبهار بمنتجات الحداثة الغربية مؤكدًا ضرورة الانفتاح الواعي الرشيد من باب إفادة الأنداد بالاقتباسات الطبيعية الضرورية في إطار من تراكمية المعارف والعلوم ، وليس من موقع التبعية الدونية والذوبان والإملائية القسرية واحتكار أحقية التوجيه والقيادة بدعوى أسبقية التحضر والتمدين. 3. إعادة تأصيل المفاهيم بتفكيك الطروحات والمنهجيات الغربية وإعادة بناء العديد منها من منظور إسلامي ، مثل الحرية والعقل والهوية والحداثة ، لتحييد طغيانها غير المستحق والمبنيّ على غير عُمُدٍ من براهين العقل وضروراته أو حتميات المعارف وقواعد العلوم أو مجربات الوقائع وتاريخية الأحداث. ثانياً: نقد المناهج والمذاهب التغريبية : وتكمن أهمية هذا النقد في براعة الأدوات المنهجية والمعرفية التي امتلكها الفيلسوف طه عبد الرحمن والتي لم تكن أحادية بل جامعة بين الأصالة والمعاصرة بمختلف إطاراتها الموسوعية من امتلاك منهجيات البحث والنقد وموضوعيته ، ومن ثراء وعمق معرفي بالتراث الفلسفي الغربي في صيغه المتعددة من يوناني إلى غربي وسيط انتهاء بالفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة ، إلى جانب التضلع بالعلوم الإسلامية في مساراتها المتنوعة فلسفية كانت أو شرعية أو أدبية أو تاريخانية. وقد تبدى ذلك بجلاء لا تكاد تخطئه العقول في الحقول النقدية التي اقتحمها بجرأة وتمكُّنٍ يُحسب له ويُحسد عليه : 1. نقد العقلانية الغربية التي ارتأى أنها قد ميَّعت الصرامة المنطقية ، وقفزت على البدهيات العقلية ، وأسهمت في إقصاء الأبعاد الأخلاقية والروحية في أسس التقدم والتحضر ، ولأجل تحييد تلك المخاطر الناجمة عن انفلات العقلانية الغربية وتجنبها فقد دعا إلى العودة للعقلانية الذاتية للحضارة الإسلامية بتبنِّي مفهوم "العقل المؤيَّد" المنضبط بالوحي. 2. مواجهة العلمانية نظراً لعدم حياديتها ، وبسبب عنصريتها ضد الدين ومحاولتها الإقصائية للدين، ورفضها الصارم لمحاولات أسلمة العلمانية أو روحنتها . 3. رفض نماذج التحديث في قوالبها وإطاراتها الغربية لعدم موائمتها لروح الحضارة الإسلامية ومنطلقاتها الفكرية والإنسانية ، مما دفعه إلى تقديم نموذج حضاري خاص بمنأى عن تلك النماذج منطلقاته ذاتية التحديث تنبع من المرجعية الإسلامية منطَلقاً ومحتوى وأدواتٍ ووسائل مما يتضح في العنصر الثالث الأخير. ثالثاً: الآليات والأدوات والوسائل الإصلاحية التي لابد أن تتماهى مع طبيعة البيئة الجغرافية والدينية والاجتماعية والثقافية والعقلية للمجتمعات الإسلامية كي تضمن لها مقومات النجاح التي تؤتي بعاجل الثمر وأجوده. لذلك جاءت وسائل الإصلاح وآليات لدى طه عبد الرحمن بما يلائم الخصوصية الحضارية للعالم الإسلامي : 1. الإصلاح الفكري باستخدم أدوات الفلسفة واللسانيات ومناهج الفكر ذات المنطلقات المستمدة من الوحي الذي لاينطق عن الهوى بما يضمن سلامة التأصيل والتطبيق وكذلك سلامة المعطيات والمنهج في نقد الفكر الغربي. 2. الاستماتة على اللغة العربية ومركزيتها بوصفها وطناً وحصنا ومصنعا لحفظ الهوية الإسلامية ، لكونها المركزية الجامعة للتفكر والتدين والتروحن والتعلم والتقدم وتشكيل الذات الفردية ورابطة الوعي الجمعي 3. إحياء علم أصول الفقه بوصفه أداة رئيسة في فهم الواقع ومعطياته وفى تشكيل العقل الفردي الواعي بهويته والقادر على حل مشكلاته في إطار من تلك الهوية وبمعزل عن التبعية والانقياد أو القابلية للاستعمار ، بل والقدرة التكوينية النقدية على مواجهة مسخ الهوية أو تذويبها بالتغريب. وبذلك يكون مشروع الدكتور طه عبد الرحمن لايتصدى فحسب لسؤال النهضة الحضاري : لماذا تخلفنا ولماذا تقدم غيرنا ؟ بل يستجيب لإحدى أهم الضرورات الحضارية الحتمية في حماية الهوية الإسلامية من الذوبان في الفكر الغربي ، وذلك من خلال بنية مشروع تجديدي متكامل جامع بين الأصالة والمعاصرة دعامته الأخلاق والوحي والعقل المستنير . وهو بذلك يقدم بفرادة نموذجاً عصريا للفكر التأسيسي المحصن ضد التغريب ، الساعي إلى بناء حضارة إنسانية ذات روح ومعنى وعقل رشيد وفكر سديد . كاتب المقال : عميد كلية دار العلوم الأسبق بجامعة القاهرة