تلقيت دعوة كريمة من قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة المنيا برئاسة د. احمد الجزار، لإلقاء المحاضرة الافتتاحية للموسم الثقافى. ورغم خشيتى من عناء السفر، حيث يتحفز ذهنى للتجوال الدائم فى أبعاد الوجود البشرى، بينما يعاند جسدى الحركة لأى بقعة خارج حجرة مكتبى، فقد شجعتنى صداقتى للدكتور بهاء درويش أستاذ الفلسفة ووكيل الكلية على قبول الدعوة. سعدت كثيرا بالذهاب إلى صعيد مصر للمرة الأولى، وقد زاد من سعادتى حرارة اللقاء بالدكتور محمد السبعاوى، عميد الكلية، ونخبة أساتذتها، حيث الترحاب عميقا والحوار شيقا، مع طلاب فى العشرين من العمر، كان بعضهم جريئا ومتمردا، على نحو ذكرنى بأيام خلت قبل ربع قرن من الزمن. كان الحديث حول تيارات الفكر العربى فى القرن العشرين، كيف ولدت مطلع التاسع عشر، كتصورات عامة تدور حول كيفية إصلاح الإسلام عقب حضور نابليون إلى مصر بالمطبعة والمدفع، إذ لم يتصور مفكرو النهضة الأوائل لأنفسهم مرجعية بديلة عن الإسلام، وإن تمايزوا فيما بينهم حول الفضاء الذى ينطلقون منه أو يصبون فيه، وهل هو الفضاء الإسلامى الواسع على نحو ما ذهب اتجاه الجامعة الإسلامية، الداعى إلى تجديد الخلافة وعلى رأسه جمال الدين الأفغاني. أو الفضاء الوطنى المحدود؛ كما كان الأمر لدى رفاعة الطهطاوى الذى دعا إلى تحقيق النهضة من خلال نقل الأعمال الكبرى فى الثقافة الغربية إلى العربية، وخير الدين التونسي الذى دعا إلى منهجية عقلية تنزرع جذورها فى التربة الإسلامية لاستنبات رجال دين يعرفون الدنيا كما يعرفون الشريعة. أو الفضاء العربي كحلقة وسطى بين الوطنى المحدود والإسلامى الفضفاض، كما كان الأمر لدى عبد الرحمن الكواكبى، رائد الدعوة إلى القومية العربية. هذا الخطاب الاصلاحى بلغ ذروته وتمت صياغته منهجيا فى دعوة الإمام محمد عبده إلى عقلانية إسلامية يمكن اكتسابها من خلال التربية، تفضى إلى إعادة اكتشاف المعنى العميق لرسالة التوحيد، وتحقيق المعادلة الجامعة بين الإسلام والمدنية. غير أن بدايات القرن العشرين، تحت ضغط الزحف الاستعماري بقوة المدفع، شهدت انشطار الخطاب النهضوى العربى إلى تيارين متناقضين: أولهما سلفى/ تقليدى انحاز إلى الأصالة الإسلامية، مؤكدا المكون الأكثر تقليدية فى الفكر النهضوى. وفى هذا السياق تندرج أعمال وأدوار رجال من قبيل محمد رشيد رضا الذى اعتبر استعادة الخلافة الإسلامية هدفا وغاية. ومحمد فريد وجدى الذى رأى الإسلام أصلا جوهريا للمدنية الحديثة. وشكيب أرسلان الذى ربط التخلف العربى بالضعف الأخلاقى، وفقدان الهمة ومن ثم دعا إلى استعادة كليهما من قلب النص القرآنى، المنبع الذى نهل منه أسلافنا الأوائل. وثانيهما علموى/ تغريبى الذى جسده فرح أنطون وشبلى شميل، بينما صاغ منطقه وأشاعه فى الفضاء الثقافى العام سلامة موسى. تبنى هذا التيار المرجعية الثقافية الغربية كاملة، تحت تأثير السطوة التاريخية لتجربة الحداثة، وسيطرة الغرب على العالم اقتصاديا وعسكريا وثقافيا. وقد أفضى الجدل بين التيارين إلى ميلاد تيار ثالث توفيقى أخذت بذرته تنمو بين عشرينيات وأربعينيات القرن العشرين، حتى بلغت ذروتها فى ستينياته، كاستجابة فكرية لتطورين أساسيين: الأول يبدو مؤسسا، حيث برزت أصوات يمكن نسبتها إلى العقلانية العربية لا يمكن وضعها تحت مسمى التقليد السلفى، ولكنها فى الوقت نفسه كانت بعيدة عن الروح التغريبية بمسافة لا تسمح بانضوائها تحت وصف العلموى، وذلك على منوال أحمد لطفى السيد برفضه فكرة الجامعة الإسلامية، ودعوته إلى الحرية السياسية، وإلى الوطنية المصرية. وعباس العقاد بنزوعه إلى استلهام العبقرية الإسلامية والبطولة الفردية لإحياء الشخصية العربية، ومصطفى عبد الرازق بدعوته إلى تجديد الفلسفة الإسلامية. وتوفيق الحكيم فى مذهبه التعادلى الذى حاول التوفيق من خلاله بين ثنائيات شتى كالعقل والوجدان. وعلى عبد الرازق بفعل منهجه التاريخى النقدى الذى ضمنه كتاب الإسلام وأصول الحكم عام 1926، نافيا عن الخلافة مشروعيتها الدينية، مؤكدا تاريخيتها كأحد أشكال الحكم المتعاقبة فى عصور الإسلام المديدة. أما التطور الثانى فيبدو مكملا، يتمثل فى انشقاق التيار العلموى نفسه بين مكون حداثى/ ليبرالى، وآخر مادى/ تغريبى، بفعل تراجع وطأة المركزية الأوروبية منتصف الأربعينيات، وبروز رؤية عربية نقدية للغرب فى موازاة صعود حركات التحرر القومى، اكتسبت ثقة فى الذات الحضارية العربية من دون أن تهمل حقيقة الغرب وتفوقه العلمى والتكنولوجى، ومن ثم استمرت فى رؤيته نموذجا للحداثة وأفقا للمستقبل ولكن من دون ذوبان فى ثقافته الكولونيالية، الأمر الذى شكل ظاهرة المراجعات الثقافية لدى العديد من رموز هذا التيار العلموى، ومن بينهم طه حسين الذى عبر في المرحلة التغريبية الخالصة عن آراء تقترب من سلامة موسي، فبعد أن طبق منهج الشك الديكارتى فى الدراسات الأدبية «فى الشعر الجاهلى» 1926، عاد وأفاض فى الدعوة إلى الجذور الأوروبية / المتوسطية للعقل المصرى, مستقبل الثقافة فى مصر 1938م. ولكنه عاد بعد سنوات قلائل ليكتب فى مرآة الإسلام مفتتحا سلسلة كتابات إسلامية كشفت عن احترام عميق للتراث الثقافى الإسلامى. وأيضا محمد حسين هيكل الذى بدأ حياته داعيا راديكاليا للعقلانية، ممجدا للفلسفة فى مؤلفه الإيمان والمعرفة والفلسفة، مطالبا بتمثل شتى جوانب الحياة والثقافة الغربيين، قبل أن يكتب مؤلفه الشرق الجديد، ثم كتابه المفعم بالروحانية عن حياة محمد، منتهيا إلى اعتقاد يشبه الاعتراف بأن نقل حياة الغرب الروحية ليس سبيلا إلى النهوض، وأن كثيرا مما في الغرب غير صالح للنقل لأن تاريخنا الروحي غير تاريخ الغرب، وثقافتنا الروحية غير ثقافته. إنه التطور نفسه الذى أفضى بانتقال الفيلسوف زكى نجيب محمود من الموقف الوضعى المنطقى إلى الموقف التوفيقى النقدى، فكان العلامة البارزة على نضوج هذا التيار الثالث/ الجدلى، حيث تمكن بدأب وحذق من صوغ منطقه عبر مشروع كبير بدأ بتجديد الفكر العربى عام 1970م، وانتهى موضوعيا ب «عربى بين ثقافتين »1992م، وهو الكتاب الذى ضمن فيه وصيته الفكرية، محددا شروط بناء إنسان عربى يجمع بين الأصالة والمعاصرة، يتجاوز النزعة العلموية والردة السلفية، وهو الحلم الذى لا يزال يراود ثقافتنا، ولذا كان موضع حوارنا مع الأصدقاء فى رحاب جامعة المنيا العريقة. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم