أبدى الناقد الكبير د. جابر عصفور فى مقاله القيم بالأهرام قبل أسبوعين اعتراضا على ما كان د. لويس عوض قد ذهب إليه من تراجع بعض مفكرينا النهضويين، خصوصا فى الجيل الثانى منهم، عن أطروحاتهم الجذرية فى الدعوة إلى التجديد وذلك فى موازاة تراجع المد السياسى التحررى الذى رافق ثورة 1919 ودستور 1923 الليبرالي، لصالح نوع من المحافظة، خصوصا لدى حزب الوفد، رافقت توقيع مصر على معاهدة 1936م. وما يذهب إليه د. عصفور هو أن الروح التجديدية لدى هؤلاء الرواد لم تمت، بل احتفظت بمنهجها الراديكالى وإن اهتمت بقضايا وشخوص التراث الإسلامي، ضاربا المثل بالعقاد وطه حسين والحكيم ومحمد حسين هيكل وعلى عبد الرازق. أتفق هنا مع د. عصفور على رفض تفسير د. لويس عوض لتلك الظاهرة التى تبدو من العمق والإتساع بما يتجاوز التفسير السياسى المباشر، وصعوبة الربط بين معاهدة 1936م، وبين بعض مراجعات هؤلاء الرواد، فما يمكن تسميته ب (عصر التنوير المصري) الذى شهد تألقهم وغيرهم منذ العشرينيات، قد استمر حتى نهاية الأربعينيات على الأقل، أى إلى ما بعد توقيع المعاهدة بنحو العقد ونصف العقد. غير أنى أختلف معه حول مدى (واقعية الظاهرة)، فتفسير الظاهرة شيء، والاعتراف بوجودها شيء آخر، وإذا كان التفسير السياسى للظاهرة لدى عوض غير دقيق إجمالا، فإن الفصل الكامل على صعيد المعرفة بين منهج البحث، وبين موضوع البحث، تدليلا على غياب الظاهرة نفسها يبدو غير دقيق هو الآخر، فعندما يختار باحث لبحثه قضية معينة أو مفكر لتأملاته موضوعا بذاته فكلاهما يكشف عن نزوعاته العميقة أيا كان المنهج الذى سوف يتبعه فى فحصها، مما يعنى تحديدا أن اهتمام هؤلاء الرواد بمعالجة القضايا الإسلامية التى تدور حول فهم الوحي، وفحص الجواهر المؤسسة للإيمان الاسلامي، ثم دراسة سيرة النبى الكريم، وتقصى السمات الشخصية لأصحابه الكبار (صلى الله عليه وسلم) كشفا عن مظاهر عظمتها وأسرار تميزها فى قيادة مثل هذه الحركة الحضارية الكبري، إنما يكشف عن موقف فكرى من التراث الإسلامى يتسم بالتوازن، وهو الموقف الذى نما فيما بعد إلى نزعة توفيقية وحس نقدى سيطر على الثقافة المصرية العربية فى الربع الثالث من القرن المنصرم مع صعود مدرسة الشرق فى الأربعينيات، وهيمنة المد القومى منذ الخمسينيات وما تبعه من نزوع إلى تأكيد أصالة الحضارة العربية فى مواجهة المركزية الغربية خصوصا فى الستينيات. وهنا نود التأكيد على أمرين أساسيين: أولهما أن اهتمام هؤلاء الرواد بالتراث لا يعنى بالضرورة تراجعا فى الروح التنويرية، طالما كان المنهج نفسه عقلانيا ونقديا كما أكد د. عصفور، إلا أنه يعكس بالأحرى وضع حد فاصل بينهم وبين الروح العلموية التى كانت سائدة فى الثلث الأول من القرن العشرين لدى تيار التحديث الجذرى ورموزه الكبار خصوصا (فرح أنطون وشبلى شميل وسلامة موسي)، وهى الروح التى انعكست على المناخ الثقافى العام فى مصر آنذاك فى صورة رؤية تضع الروح التنويرية فى موقف معاد للإسلام بالضرورة، وتعتقد بأن الأديان جميعها رجعية على وجه اليقين، وهو موقف سلبى قام هؤلاء الرواد بتصحيحه من خلال تأكيدهم على حقيقة أن الروح العقلانية النقدية تكمن فى طريقة مقاربة التراث، وليس فى تجاهل هذا التراث، أو ممارسة القطيعة التاريخية والمعرفية معه. ولذا فقد نجح هؤلاء الرواد تدريجيا فى نقل موقفهم النقدي/ التوفيقى إلى موقع القلب من الثقافة المصرية العربية، على نحو أدى تدريجيا إلى تهميش التيار العلموى المتطرف. وثانيهما هو ضرورة التمييز بين ما يمكن تسميته ب (المراجعات الفكرية)، وبين ما يمكن تسميته ب (الانقلابات النفسية) فالأخيرة غالبا ما تكون سطحية وربما سوقية وأحيانا نفعية، أما الأولى فعميقة ومسئولة، تجرى بمهل وعلى نحو تراكمى فى حياة الرائد الفكري، ربما دارت بينه وبين ذاته أولاً ثم بينه وبين محيطه الثقافى ثانياً، وهى فى كل الأحوال طبيعية إن لم تكن مطلوبة فليس متصوراً أن يولد المفكر مكتملا، أو يبقى قائما على أفكاره الأولى بشكل مطلق عصياً على التطور. فإذا ما قبلنا هذا المبدأ يمكننا تصور أن يصبح المبدع أقل اندفاعاً بعد أن كان أكثر جموحاً، فيتبنى المواقف الأكثر اعتدالاً وتركيبا ونسبية مبتعدا بدرجة أو بأخرى عن نقيضتها الأكثر راديكالية وبساطة وإطلاقية. ومن ثم فإن المراجعات الفكرية ربما كانت معلما على موضوعية ونزاهة الرائد الذى لايمكننا أن نطالبه بكتمان ما يمور بداخله من تحولات أو إدارة ظهره لما يتراكم فى وعيه من اكتشافات، وإن كان ثمة شرطين أساسيين ليبقى هذا التحول مقبولاً وصحياً: أولهما ألا يكون جذرياً فمن غير المتصور أن يتحول الرائد 180 درجة ضد أفكاره السابقة. وثانيهما: أن يتم هذا التحول فى مدى زمنى طويل وليس بين عشية وضحاها على منوال كثيرين أظهروا ميولا رجعية قياسا إلى مواقفهم التقدمية الأولي، فتحركوا مثلا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن الإيديولوجيا القومية إلى الإسلام السياسى بشتى فصائله، ومن التماهى مع الغرب والدراسة فيه أحيانا كثيرة إلى كراهيته والدعوة إلى مقاطعته أحيانا أخري، فبقدر ما نلوم أولئك الذين يتحولون إلى أقانيم تدعى الكلية والثبات والاكتمال من البداية، يجوز بالقدر نفسه أن نلوم المنقلبين على أنفسهم، لأسباب سطحية غالبا ونفعية أحيانا، غير أن لذلك حديثا آخر فى الأسبوع المقبل إن شاء الله. لمزيد من مقالات صلاح سالم