احتفى المجلس الأعلى للثقافة مؤخرا بمرور خمسين عاما على رحيل الشيخ على عبد الرازق بندوة فكرية دارت حول كتابه الأثير (الإسلام وأصول الحكم) حضرها نخبة محترمة من العقول المصرية، فضلا عن بعض أفراد عائلته، وعلى رأسهم حفيده لابنته الكبرى د. سعاد، الدكتور عمرو كمال حامد الذى تحدث باستفاضة وتلقائية، ملقيا ضوءا كاشفا على الجانب الإنسانى الخفى لدى الرجل، خصوصا تلك السمات الشخصية الإرادية التى لولاها ما كان أنتج هذا النص الكاشف فى ذلك الوقت المبكر، ضد السياق السائد فى مصر حيث الملك احمد فؤاد يتطلع لوراثة الخلافة بعد سقوطها فى اسطنبول، والمناخ المحافظ فى الأزهر الذى كان قد حاصر أستاذه محمد عبده، وأعاق فكره الإصلاحي. وفى المائدة المستديرة التى شاركت فيها انصب حديثى على تفكيك اللحظة التى صدر فيها وعبر عنها ذلك الكتاب الرائد، باعتباره لحظة جدلية على الصعيد الفكري، ولحظة كاشفة على الصعيد السياسي، ولحظة انتقالية على الصعيد التاريخي. ونظرا لما يمثله الكتاب من قيمة كبيرة فى سياق الفكر المصرى الحديث، ولكونه لا يزال معاصرا رغم مرور نحو القرن على صدوره (1925)، أتوقف عنده فى مقالات ثلاث متوالية. على الصعيد الفكري، موضع نظرنا اليوم، مثل الكتاب لحظة جدلية بامتياز، التقى فيها تياران متناقضان خرجا معا من رحم الفكر النهضوى الموروث عن النصف الثانى من القرن التاسع عشر، والذى دعا إلى إصلاح عام من دون تحديد صارم لمرجعيته، ومن ثم اتسم ببنية تلفيقية نوعا، راوحت بين الشئ ونقيضه، كالعقلانية والميتافيزيقية، الحداثة والتقليد، خصوصا فى بدايته مع رفاعة الطهطاوى الذى طالما قرظ الحرية والدستور كما رآهما فى فرنسا، قبل أن يدينهما بعد بضع صفحات، وإن كانت تلك البنية قد ازدادت اتساقا مع الإمام محمد عبده. التيار الأول هو «السلفي» الذى اعتبر نفسه أمينا على مرجعية الرواد الإسلامية، فأعاد تأسيسها على أكثر قواعدها محافظة والتزاما بالتقليد السني، أو ما اعتبره «إسلام أهل السنة والجماعة». هذا التيار مثله بامتياز الشيخ محمد رشيد رضا الذى حاول أن يصوغ «سلفية محدثة» تقدم نفسها باعتبارها جهدا تركيبيا بين مستجدات العصور الحديثة وقيمها التى توجه حضارتها وبين الأصالة العقدية المتمثلة فى (السلفية التاريخية) أى تلك الرؤية التى تشكلت بكثافة متفاوتة خلال عصور الإسلام الممتدة خصوصا بين مطلع القرن الثانى وأواخر القرن الرابع الهجريين على أيدى جمهرة من الفقهاء والمحدثين، ثم استؤنفت فى القرن الثامن الهجرى مع ابن تيمية. تحت خيمة السلفية المحدثة هذه دافع رشيد رضا فى كتابة (الإمامة العظمي) عن الخلافة كضرورة شرعية لا يقوم الإسلام إلا بها، ما أفضى إلى ميلاد جماعات الإسلام السياسى على يدى تلميذه وصديقه حسن البنا. أما التيار الثانى فهو التغريبي/ العلموى الذى واجه التيار السلفى بتبنى المرجعية الثقافية الغربية، بتأثير الحضور الطاغى لتجربة الحداثة. فسياسيا كان المركز الغربى هو المتحكم فى شئون العالم وتنظيمه المركزى آنذاك (عصبة الأمم)، واقتصاديا كانت أوروبا هى التى أنجزت لقرنين مضيا الثورة الصناعية الأولي، وكانت الولاياتالمتحدة تعمل على إنجاز الثورة الصناعية الثانية التى مكنتها من تغيير وجه العالم. وعسكريا كان الغرب يسيطر على ثلاثة أرباع الكرة الأرضية. وفى المقابل لم تكن هناك قوة فكرية أو سياسية فى العالم تستطيع التصدى له. وحتى عندما كان مفكرون من خارج الغرب يجادلون معارضين للمركزية الأوروبية, لم يكن باستطاعتهم نفى التفوق الأوروبي, وإن حاولوا تفسيره بدوافع مختلفة عن تلك التى ترتكز إليها بحيث لا تبدو هذه الدوافع عنصرية مرتبطة بفضائل خاصة أو رقى ذاتى تتميز به العقلية الأوروبية وحدها، أو بتراكم ثقافى حضارى تم داخل التاريخ الغربى وحده وعلى نحو مستقل عن الآخرين, وإنما كنتيجة لتراكم حضارى إنسانى تم داخل وعبر مسيرة التاريخ البشرى. انطوى فى ذلك التيار أعلام كفرح أنطون الذى اعتبر الأديان مدعاة إلى التفرقة الاجتماعية والوطنية لا لزوم لها، داعيا إلى وحدة الحضارة الإنسانية. وشبلى شميل الذى دعا، متأثرا بدارون، إلى إحلال العلم محل الدين كقاعدة للأخلاق. وعلى منوالهم نسج آخرون مقاربون لهم أمثال يعقوب صروف، وإسماعيل مظهر وفارس نمر، بينما كان سلامة موسى بمثابة التمثيل الأبرز لهذا التيار، ليس فقط لغزارة إنتاجه الفكرى (45 كتابا)، واتساع نشاطه الصحفي، بل لتجسيده الحد الأقصى فى التعبير عنه، وصراحته فى الدعوة إلى إحلال النموذج الغربى كاملا بديلا للنموذج الإسلامى فى الحياة. بين هذين التيارين المتناقضين اندرج على عبد الرازق فى إطار تيار ثالث «توفيقي»، لم يكن ليستمر تحت مسمى «السلفي» ولكنه فى الوقت نفسه كان بعيدا عن الروح التغريبية بمسافة كبيرة لا تسمح أبدا بانضوائه تحت وصف «العلموي» فكان الأقرب فعلا إلى مفهوم العقلانية العربية الإسلامية، حيث أعمل الرجل فى كتابه المنهج التاريخى النقدى فى الدراسات السياسية، نافيا عن الخلافة مشروعيتها الدينية، ومؤكدا على تاريخيتها كأحد أشكال الحكم المتعاقبة فى عالم الإسلام. بل ويصل الشيخ بجرأة استدلاله، واستعراضه لمراحل صعود الخلافة وتدهورها إلى تقرير أنها عقد يحصل بالمبايعة من أهل الحل والعقد لمن اختاروه إماماً للأمة بعد التشاور بينهم، تعبيرا عن الأمة، وعن مصلحتها، ما يعنى أصلها البشرى ومرجعيتها الدنيوية، الأمر الذى يفتح الباب أمام ما نسميه علمنة السياسية، وإن لم يصرح الرجل بذلك لفظا. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم;