الإدارية العليا تُؤجل 257 طعناً على انتخابات النواب لجلسة الأربعاء    بلومبرج الأمريكية تخطط لإنشاء مركز تخزين حبوب    الاتحاد الأوروبي يبحث آلية تسمح بتجميد الأصول الروسية    سوريا وفلسطين يتعادلان سلبيا ويتأهلان لربع نهائى بطولة كأس العرب    خليفة رونالدو، ناد سعودي يقترب من التعاقد مع محمد صلاح    مصدر مقرب من عمر فرج: علاقته انتهت بالزمالك    انطلاق معسكر منتخب مصر استعدادا للمشاركة في كأس أمم إفريقيا    ألونسو يعلن تشكيل ريال مدريد لمواجهة سيلتا فيجو    تفاصيل محاكمة المتهمين في قضية داعش عين شمس    والد عروس المنوفية باكيا: لقيت بنتي مرمية على السرير مفيهاش نفس    أخبار مصر اليوم.. رئيس الوزراء يتابع الموقف التنفيذي لمشروع إحياء وتطوير حديقتي الحيوان والأورمان    دولة التلاوة    مصطفى قمر يطرح خامس أغانى ألبومه بعنوان "مش هاشوفك"    الصحة: الوضع الوبائي للفيروسات التنفسية في مصر ضمن معدلاته الطبيعية    حيل شتوية لخسارة الوزن دون حرمان    «نقف معها جنباً إلى جنب».. روسيا تحذر أمريكا من التصعيد ضد فنزويلا    ياسمينا العبد تحتفل بعرض أولى حلقات مسلسل «ميد تيرم» | صور    الداخلية تكشف حقيقة خطف فتاة بصفط اللبن: تركت المنزل بإرادتها بسبب خلافات أسرية    أول ظهور لمحمد صلاح بعد أزمته مع سلوت وليفربول.. صور    كشف ملابسات فيديو عن إجبار سائقين على المشاركة في حملة أمنية بكفر الدوار    وليد جاب الله: مصر تحقق أعلى نمو فصلي منذ 3 أعوام | فيديو    حماية النيل من البلاستيك    ثلاثة فى خدمة الاحتلال الإسرائيلى    نيللي كريم تعلن بدء تصوير مسلسل "علي قد الحب "    وزير الثقافة يشارك فى أسبوع «باكو» للإبداع    إخوان أوروبا فى مصيدة الإرهاب    «لا للتنمر ضد ذوي الإعاقة».. ندوة لمواجهة آثار وسلبيات التنمر    وزير الصحة ينفى انتشار أى فيروسات تنفسية جديدة أو فيروس ماربورغ.. خالد عبد الغفار: الوزارة تمتلك 5500 منشأة تعمل ضمن منظومة الترصد القائم على الحدث.. ويؤكد: لا مصلحة فى إخفاء معلومات تتعلق بانتشار أى مرض    الأهلي يقترب من ضم يزن النعيمات لتعزيز الهجوم    تأجيل محاكمة 5 متهمين بخلية النزهة    محافظ القاهرة: تبرع بقيمة 50 مليون جنيه لدعم إنشاء المجمع الطبي لجامعة العاصمة    الجامعة البريطانية بمصر تشارك في مؤتمر الطاقة الخضراء والاستدامة بأذربيجان    مدبولي يتابع مشروعات تطوير قطاع الغزل والنسيج والاستغلال الأمثل لبعض الأصول    بكين تعلن عن ثالث مناورة مشتركة مع موسكو في مجال الدفاع الصاروخي    ميرفت القفاص: عمار الشريعي الغائب الحاضر.. وصندوق ألحانه ما زال يحمل كنوزا    وزير الاستثمار يبحث مع "بلومبرج جرين" الأمريكية إنشاء مركز إقليمى للأمن الغذائى وتوطين تكنولوجيا الحفظ الزراعى    صبغ الشعر باللون الأسود: حكم شرعي ورأي الفقهاء حول الاختضاب بالسواد    كمال درويش يهاجم شيكابالا: أنت معندكش خبرة إدارية عشان تتكلم عن مجلس الزمالك    وزير الصحة: اللقاح الموسمي فعال وفيروس "ماربورج" غير موجود في مصر    جامعة أسيوط تُكثّف استعداداتها لانطلاق امتحانات الفصل الدراسي الأول    في مرايا الشعر.. جديد هيئة الكتاب للشاعر جمال القصاص    وزير الخارجية: إسرائيل عليها مسئولية بتشغيل كل المعابر الخمس التي تربطها بقطاع غزة    صحة الشيوخ تدعو خالد عبد الغفار لعرض رؤيته في البرامج الصحية    اختبار 87 متسابقًا بمسابقة بورسعيد الدولية لحفظ القرآن بحضور الطاروطي.. صور    هيئة الرقابة المالية تُلزم صناديق التأمين الحكومية بالاستثمار في الأسهم    باحث يرصد 10 معلومات عن التنظيم الدولى للإخوان بعد إدراجه على قوائم الإرهاب    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 7-12-2025 في محافظة الأقصر    الأرصاد تكشف خرائط الأمطار اليوم وتحذر من انخفاض درجات الحرارة في عدد من المحافظات    وزارة التضامن: فريق التدخل السريع تعامل مع 519 بلاغا خلال شهر    السيطرة على حريق مخزن سجاد وموكيت فى أوسيم    وزير الري أمام اجتماع «مياه حوض النيل» في بوروندي: ستستمر مصر في ممارسة ضبط النفس    نور الشربيني تتوج ببطولة هونج كونج للاسكواش بعد الفوز على لاعبة أمريكا    ضبط 69 مخالفة تموينية متنوعة فى حملة مكبرة بمحافظة الفيوم    «صحح مفاهيمك».. أوقاف الوادي الجديد تنظم ندوة بالمدارس حول احترام كبار السن    وزير الصحة يستعرض تطوير محور التنمية البشرية ضمن السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية    الأحد 7 ديسمبر 2025.. استقرار عام بأسعار أعلاف الدواجن مع تفاوت طفيف بين الشركات في أسوان    دعاء الفجر| اللهم ارزقنا نجاحًا في كل أمر    محمد صلاح يفتح النار على الجميع: أشعر بخيبة أمل وقدمت الكثير لليفربول.. أمى لم تكن تعلم أننى لن ألعب.. يريدون إلقائي تحت الحافلة ولا علاقة لي بالمدرب.. ويبدو أن النادي تخلى عنى.. ويعلق على انتقادات كاراجر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الموقف العربي والسكونية والنقد التاريخي
نشر في صوت البلد يوم 03 - 10 - 2016

لا تزال العلاقة بين الإسلام والحداثة تمثل واحدة من أكثر عمليات التثاقف صعوبة وممانعة، ولا يزال الخوف المقيم يمانع سيرورة العقل العربى نحو اكتشاف تلك التجربة وامتلاكها، أي الاندراج فيها مباشرة، كتجربة كونية تمثل حصيلة الخبرة الإنسانية المشتركة، وليست مجرد مغامرة أوروبية تتجذر في الفلسفة اليونانية كما تدعي المركزية الغربية، يتعين علينا الوقوف عند حدودها للفرجة عليها، أو الوقوف على أطلالها حسرة على موت الله فيها، أو حتى محاولة تسولها بالقدر الذي يعيد للإنسان حضوره لدينا. لقد بات من الضروري ليس فقط تجاوز الموقف السلفي الرافض للحداثة، بل وأيضاً الموقف التوفيقي الداعي إلى الجمع بين الأصالة والحداثة والذي يبقي، رغم سلامته العامة، موقفاً سكونياً غير منتج، اتخذ شكلاً نمطياً وصار قالباً جاهزاً، فرض نفسه على الفكر العربي لقرن ونصف القرن من الزمان من دون أن ينتج شيئاً ذا بال، رغم ما استهلكه من مشاريع فكرية قيمة، وانطوى عليه من اجتهادات بحثية معتبرة، ولذا بات ضرورياً استبداله بمنهج النقد التاريخي ليس فقط للتراث العربي الإسلامي، بل وأيضاً في التراث الغربي الديني / التقليدي / المسيحي، لنكتشف متى وكيف صار الغرب حديثاً، وعبر أي مسارات، وتعويلاً على أي موروث؟.
ما نقصد إليه إذاً هو تحرير المفاهيم الأساسية للحداثة من غربيتها، ومنحها أفقاً إنسانياً، قبل أن نقيس بها وإليها التراثين العربي والغربي على السواء، على نحو يفضي إلى تغيير جذري في استراتيجية النهوض العربي التي هيمنت على القرنين الماضيين، والتي نزعت إلى التوفيق بين بنيتين متناقضتين: أولاهما تنتمي إلى الموروث العربي، الذي بلغ أوجه في عصر التدوين بين القرنين الثاني والرابع الهجريين، الثامن والعاشر الميلاديين. وثانيهما هو الفكر الغربي الحديث المنتج في القرون الخمسة الأخيرة، أي التالية على عصر النهضة الأوروبي، والذي بلغ ذروته مع عصر التنوير في قلب القرن الثامن عشر الميلادي.
تفترض عملية التوفيق هذه مسارات للدمج والتركيب، كما تستلزم هذه المسارات بدورها تحليلاً وتفكيكياً حتى نحسن الاختيار بين العناصر الإيجابية في كل تراث. ولأن التاريخ ليس سكونياً، والذات الثقافية لم تكن أبداً فاعلة خارج سياقها، فقد تعذر دوماً القيام بهذه المهمة التي تفترض قيام الذات العربية، المعنية هنا، وكأنها في فترة استراحة تاريخية، بوضع التراثين أمام ناظريها: تراثها الذاتي، وتراث الآخر الغربي، لتنتقي ما تريد أو ما يلائمها من كليهما. لقد كان الفشل في التوفيق محتوماً، لأن التاريخ لم يتوقف، ولم يحصل العرب قط على تلك الإستراحة، بل إنهم دخلوا إلى العصر الحديث تحت ضغط الاستعمار والصهيونية ناهيك عن ضغوط التخلف التاريخي الساحق، حيث تعين عليهم، على تنوع دولهم وحواضرهم، العمل تحت ضغط الزمن، ولهذا اتخذ الخيار التوفيقي شكلاً نمطياً وصار قالباً جاهزاً، طالما فرض نفسه على الفكر العربي لنحو القرن، لكنه لم ينتج شيئاً ذا بال، رغم ما استهلكه من مشاريع فكرية قيمة وانطوى عليه من اجتهادات بحثية معتبرة، ومن ثم يتعين الغوص أسفل هذا الخيار وفي خلاله كما في سياقاته، عبر تحليل البنيات السابقة على اللحظة التي تم اعتماده فيها خياراً استراتيجياً، كشفاً عن ممكناته واختبار فرضياته عبر تحليل البنيات السابقة على اللحظة التي تم اعتماده فيها خياراً استراتيجياً، كشفاً عن ممكناته واختبار فرضياته، حيث يصبح عصر التدوين العربي، حاضراً وملهماً كما هو عصر التنوير الغربي حاضراً وملهماً، فيما يتكفل النقد التاريخي بمهمة تقييم مرتكزات الحضور، ومصادر الإلهام، وكيف استجابت، سلباً وإيجاباً لمسار تطور العقل البشري.
المطلوب إذاً هو تحويل الاستراتيجية الثقافية (النهضوية) من مفهوم «التوفيق» وهو مفهوم (سكوني) إلى مفهوم «النقد التاريخي» وهو مفهوم (جدلي)، ناهيك عن ممارسة هذا النقد في أفق تاريخي مفتوح، تتوازي فيه المرجعيات وتتفاعل في شكل ديناميكي في ما بينها، أو مع حركة التاريخ، بدلاً من تقنيم إحداها، وإحالتها إلى معيار تقاس به وعليه المرجعية الأخرى. هنا يمكن مقاربة التراثين (الغربي والعربي) في سياقهما، للكشف عن المشترك بينهما في صيرورة تطورهما الذاتية، والآليات الخفية التي من خلالها تم التفاعل بينهما، وهو تفاعل كبير لم يجر بالضرورة مباشرة بين الطرفين كفاعلين متواجهين في قاعة تفاوض، بل عبر تفاعل تلقائي مع الأبنية التاريخية والمفاهيم التأسيسية التي أقامها كل منهما، أو صاغها في حقبة تفوقه وريادته، في أزمنة مختلفة ومتعاقبة، حيث الحضارة الإنسانية بنية واحدة وإن تفاوتت المراكز الثقافية داخلها. فثمة من ينتج الحضارة، وثمة من يستهلكها. كما إن الخبرة الإنسانية مشتركة، لا يملك أياً من كان الإنخلاع منها، أو النأي عن تيارها الأساسي حتى لو أراد.
دعوتنا هنا هي ضرورة الخلاص من الخوف الممانع لسيرورة العقل، باكتشاف طرق لامتلاك الحداثة، أي الإندراج فيها باعتبارها تجربة إنسانية كبرى تعكس المنجز الحضاري للتاريخ البشري، وليست مجرد مغامرة أوروبية تتجذر في الفلسفة اليونانية، كما تدعي المركزية الأوروبية، يتعين علينا إما الوقوف عند حدودها أو محاولة تسولها. فعبر هذا المنهج يمكن الإدعاء بنتائج مدهشة، في ما يتعلق بحجم الخبرة الإنسانية المشتركة. فجل ما هو إيجابي في الحداثة يكاد يكون إنسانياً، حيث تمثل الخبرة المشتركة مستودعاً للحكمة التاريخية، تتراكم داخله القيم الإيجابية التي تنال إجماعات البشر ورضاهم، حول ما يبدو وكأنه المحصلة الكيفية لفطرتهم، وهو الفهم الذي ينفي حيثيات موقفين شديدي التناقض:
أولهما هو الداعي إلى الإستسلام لدونية حضارية ترى الغرب نموذجاً مثالياً ومطلقاً لا بد من احتذائه حتى النهاية، واحتسائه حتى الثمالة، كما رأى التيار الحداثي / العلموي الذي سطع مطلع القرن العشرين، داعياً إلى القبول بالغرب ملهماً لممارساتنا الكلية، وإلى اعتبار قيمه ومعاييره مرجعية نهائية لنا، وقوعاً في أسر الصورة المثالية للتنوير، والتي تتمتع لدى هذا التيار بقدسية كبيرة، تتجاوز ما يستبطنه تيار الوعي الغربي العقلاني / الليبرالي في تجاويفه من عقد استعلائية ونزعات عنصرية. ويكفي هنا أن نحيل إلى الركام الهائل لنزعة التمركز حول الذات، وما أنتجته من معارف متحيزة تقول بسموه الأخلاقي وتفوقه العقلي البدئي، ودنو ما سواه أو خارجه أخلاقياً، فضلاً عن تخلفهم المطلق، ما أنتج تلقائياً تلك النزعة الكولونيالية الأثمة، التي لم يكد يتجاوزها. وهو ما ينطبق أيضاً على المثقف الغربي داعية الحرية والعقلانية والذي تنطوي مواقفه أحياناً على مفارقات تبدو مذهلة. ف (ليبنتز) الفيلسوف الألماني، صاحب مفهوم المونادة الروحية، هو نفسه الذي أراد تسخير الآخرين في خدمة أوروبا الصاعدة آنذاك، فلم يمل من الدعوة إلى استعمار الأقاليم المركزية في العالم وضمنها مصر التي حرَّض العرش الفرنسى طويلاً على احتلالها، حتى جاءها نابليون أخيراً باسم الثورة والجمهورية. أما (فولتير) أحد أنبياء الحرية ورواد التنوير الأوروبي، الذي نردد دوماً مقولته الشهيرة والرائجة عن استعداده لدفع حياته ثمناً لحرية مخالفه في إبداء رأيه، فهو نفسه صاحب كتاب (الملك الشمس) الذي يسكب فيه ولعه وتقديره لملك فرنسا لويس الرابع عشر أحد أبرز نماذج الاستبداد الأوروبي في العصر الحديث وصاحب المقولة الأكثر شهرة «أنا الدولة» وهو موقف يذكرنا بمديح الشاعر العربي الكبير والقديم أبي الطيب المتنبي لسيف الدولة الحمداني، ما يكشف عن اختزالية الخطاب العلموي وربما سلفيته، وإن كان أسلافه هنا غير أسلافنا.
وثانيهما هو إدعاء العقل السلفي بالخصوصية الحضارية المطلقة، هروباً من كل ما هو إنساني ومعاصر. وهو موقف سلبي غالباً ما يصاحب الشعور بالهزيمة الحضارية، وما تثيره من محاولة الاختفاء خلف قشرة من التعالي الزائف على الآخر. ومن ثم أصبحت الحضارة الغربية (رغم تقدمها) بمثابة نموذج للخواء الأخلاقي في مقابل الحضارة الإسلامية باعتبارها (رغم تخلفها) نموذجاً للكمال الأخلاقي، وكأنهما سفينتان متعارضتان، لا يمكن ركوبهما معاً، وفق وصف أبي الأعلى المودودي، الذي جسد الحد الأقصى للنزعة السلفية. لدى هذه النزعة تتبلور رؤية نصية للإسلام أساسها القرآن الكريم، تتعامى عن واقعنا التاريخي الحي وما به من نقائص، فيما تتبلور رؤية للغرب أساسها النزعات المادية المتطرفة التي يزخر بها واقعه والتي اعتبرت بمثابة تناقضات في تجربة الحداثة، يقوم تيار كبير لديه على نقدها. والأكثر إثارة هنا أن يبرر العقل الأصولي ما يعتبره دنواً أخلاقياً غربياً بدوافع عقدية، أي لكونه مسيحي، فيما يتم إهمال الروحانية المسيحية الكامنة في النص، ويكفي الإشارة هنا إلى موعظة الجبل (متى، الإصحاح الخامس) التي تعكس أقصى درجات السمو الأخلاقي والتراحم الإنساني ومن ثم تكمن سذاجة الخطاب الأصولي عن الذات والعالم.
لا تزال العلاقة بين الإسلام والحداثة تمثل واحدة من أكثر عمليات التثاقف صعوبة وممانعة، ولا يزال الخوف المقيم يمانع سيرورة العقل العربى نحو اكتشاف تلك التجربة وامتلاكها، أي الاندراج فيها مباشرة، كتجربة كونية تمثل حصيلة الخبرة الإنسانية المشتركة، وليست مجرد مغامرة أوروبية تتجذر في الفلسفة اليونانية كما تدعي المركزية الغربية، يتعين علينا الوقوف عند حدودها للفرجة عليها، أو الوقوف على أطلالها حسرة على موت الله فيها، أو حتى محاولة تسولها بالقدر الذي يعيد للإنسان حضوره لدينا. لقد بات من الضروري ليس فقط تجاوز الموقف السلفي الرافض للحداثة، بل وأيضاً الموقف التوفيقي الداعي إلى الجمع بين الأصالة والحداثة والذي يبقي، رغم سلامته العامة، موقفاً سكونياً غير منتج، اتخذ شكلاً نمطياً وصار قالباً جاهزاً، فرض نفسه على الفكر العربي لقرن ونصف القرن من الزمان من دون أن ينتج شيئاً ذا بال، رغم ما استهلكه من مشاريع فكرية قيمة، وانطوى عليه من اجتهادات بحثية معتبرة، ولذا بات ضرورياً استبداله بمنهج النقد التاريخي ليس فقط للتراث العربي الإسلامي، بل وأيضاً في التراث الغربي الديني / التقليدي / المسيحي، لنكتشف متى وكيف صار الغرب حديثاً، وعبر أي مسارات، وتعويلاً على أي موروث؟.
ما نقصد إليه إذاً هو تحرير المفاهيم الأساسية للحداثة من غربيتها، ومنحها أفقاً إنسانياً، قبل أن نقيس بها وإليها التراثين العربي والغربي على السواء، على نحو يفضي إلى تغيير جذري في استراتيجية النهوض العربي التي هيمنت على القرنين الماضيين، والتي نزعت إلى التوفيق بين بنيتين متناقضتين: أولاهما تنتمي إلى الموروث العربي، الذي بلغ أوجه في عصر التدوين بين القرنين الثاني والرابع الهجريين، الثامن والعاشر الميلاديين. وثانيهما هو الفكر الغربي الحديث المنتج في القرون الخمسة الأخيرة، أي التالية على عصر النهضة الأوروبي، والذي بلغ ذروته مع عصر التنوير في قلب القرن الثامن عشر الميلادي.
تفترض عملية التوفيق هذه مسارات للدمج والتركيب، كما تستلزم هذه المسارات بدورها تحليلاً وتفكيكياً حتى نحسن الاختيار بين العناصر الإيجابية في كل تراث. ولأن التاريخ ليس سكونياً، والذات الثقافية لم تكن أبداً فاعلة خارج سياقها، فقد تعذر دوماً القيام بهذه المهمة التي تفترض قيام الذات العربية، المعنية هنا، وكأنها في فترة استراحة تاريخية، بوضع التراثين أمام ناظريها: تراثها الذاتي، وتراث الآخر الغربي، لتنتقي ما تريد أو ما يلائمها من كليهما. لقد كان الفشل في التوفيق محتوماً، لأن التاريخ لم يتوقف، ولم يحصل العرب قط على تلك الإستراحة، بل إنهم دخلوا إلى العصر الحديث تحت ضغط الاستعمار والصهيونية ناهيك عن ضغوط التخلف التاريخي الساحق، حيث تعين عليهم، على تنوع دولهم وحواضرهم، العمل تحت ضغط الزمن، ولهذا اتخذ الخيار التوفيقي شكلاً نمطياً وصار قالباً جاهزاً، طالما فرض نفسه على الفكر العربي لنحو القرن، لكنه لم ينتج شيئاً ذا بال، رغم ما استهلكه من مشاريع فكرية قيمة وانطوى عليه من اجتهادات بحثية معتبرة، ومن ثم يتعين الغوص أسفل هذا الخيار وفي خلاله كما في سياقاته، عبر تحليل البنيات السابقة على اللحظة التي تم اعتماده فيها خياراً استراتيجياً، كشفاً عن ممكناته واختبار فرضياته عبر تحليل البنيات السابقة على اللحظة التي تم اعتماده فيها خياراً استراتيجياً، كشفاً عن ممكناته واختبار فرضياته، حيث يصبح عصر التدوين العربي، حاضراً وملهماً كما هو عصر التنوير الغربي حاضراً وملهماً، فيما يتكفل النقد التاريخي بمهمة تقييم مرتكزات الحضور، ومصادر الإلهام، وكيف استجابت، سلباً وإيجاباً لمسار تطور العقل البشري.
المطلوب إذاً هو تحويل الاستراتيجية الثقافية (النهضوية) من مفهوم «التوفيق» وهو مفهوم (سكوني) إلى مفهوم «النقد التاريخي» وهو مفهوم (جدلي)، ناهيك عن ممارسة هذا النقد في أفق تاريخي مفتوح، تتوازي فيه المرجعيات وتتفاعل في شكل ديناميكي في ما بينها، أو مع حركة التاريخ، بدلاً من تقنيم إحداها، وإحالتها إلى معيار تقاس به وعليه المرجعية الأخرى. هنا يمكن مقاربة التراثين (الغربي والعربي) في سياقهما، للكشف عن المشترك بينهما في صيرورة تطورهما الذاتية، والآليات الخفية التي من خلالها تم التفاعل بينهما، وهو تفاعل كبير لم يجر بالضرورة مباشرة بين الطرفين كفاعلين متواجهين في قاعة تفاوض، بل عبر تفاعل تلقائي مع الأبنية التاريخية والمفاهيم التأسيسية التي أقامها كل منهما، أو صاغها في حقبة تفوقه وريادته، في أزمنة مختلفة ومتعاقبة، حيث الحضارة الإنسانية بنية واحدة وإن تفاوتت المراكز الثقافية داخلها. فثمة من ينتج الحضارة، وثمة من يستهلكها. كما إن الخبرة الإنسانية مشتركة، لا يملك أياً من كان الإنخلاع منها، أو النأي عن تيارها الأساسي حتى لو أراد.
دعوتنا هنا هي ضرورة الخلاص من الخوف الممانع لسيرورة العقل، باكتشاف طرق لامتلاك الحداثة، أي الإندراج فيها باعتبارها تجربة إنسانية كبرى تعكس المنجز الحضاري للتاريخ البشري، وليست مجرد مغامرة أوروبية تتجذر في الفلسفة اليونانية، كما تدعي المركزية الأوروبية، يتعين علينا إما الوقوف عند حدودها أو محاولة تسولها. فعبر هذا المنهج يمكن الإدعاء بنتائج مدهشة، في ما يتعلق بحجم الخبرة الإنسانية المشتركة. فجل ما هو إيجابي في الحداثة يكاد يكون إنسانياً، حيث تمثل الخبرة المشتركة مستودعاً للحكمة التاريخية، تتراكم داخله القيم الإيجابية التي تنال إجماعات البشر ورضاهم، حول ما يبدو وكأنه المحصلة الكيفية لفطرتهم، وهو الفهم الذي ينفي حيثيات موقفين شديدي التناقض:
أولهما هو الداعي إلى الإستسلام لدونية حضارية ترى الغرب نموذجاً مثالياً ومطلقاً لا بد من احتذائه حتى النهاية، واحتسائه حتى الثمالة، كما رأى التيار الحداثي / العلموي الذي سطع مطلع القرن العشرين، داعياً إلى القبول بالغرب ملهماً لممارساتنا الكلية، وإلى اعتبار قيمه ومعاييره مرجعية نهائية لنا، وقوعاً في أسر الصورة المثالية للتنوير، والتي تتمتع لدى هذا التيار بقدسية كبيرة، تتجاوز ما يستبطنه تيار الوعي الغربي العقلاني / الليبرالي في تجاويفه من عقد استعلائية ونزعات عنصرية. ويكفي هنا أن نحيل إلى الركام الهائل لنزعة التمركز حول الذات، وما أنتجته من معارف متحيزة تقول بسموه الأخلاقي وتفوقه العقلي البدئي، ودنو ما سواه أو خارجه أخلاقياً، فضلاً عن تخلفهم المطلق، ما أنتج تلقائياً تلك النزعة الكولونيالية الأثمة، التي لم يكد يتجاوزها. وهو ما ينطبق أيضاً على المثقف الغربي داعية الحرية والعقلانية والذي تنطوي مواقفه أحياناً على مفارقات تبدو مذهلة. ف (ليبنتز) الفيلسوف الألماني، صاحب مفهوم المونادة الروحية، هو نفسه الذي أراد تسخير الآخرين في خدمة أوروبا الصاعدة آنذاك، فلم يمل من الدعوة إلى استعمار الأقاليم المركزية في العالم وضمنها مصر التي حرَّض العرش الفرنسى طويلاً على احتلالها، حتى جاءها نابليون أخيراً باسم الثورة والجمهورية. أما (فولتير) أحد أنبياء الحرية ورواد التنوير الأوروبي، الذي نردد دوماً مقولته الشهيرة والرائجة عن استعداده لدفع حياته ثمناً لحرية مخالفه في إبداء رأيه، فهو نفسه صاحب كتاب (الملك الشمس) الذي يسكب فيه ولعه وتقديره لملك فرنسا لويس الرابع عشر أحد أبرز نماذج الاستبداد الأوروبي في العصر الحديث وصاحب المقولة الأكثر شهرة «أنا الدولة» وهو موقف يذكرنا بمديح الشاعر العربي الكبير والقديم أبي الطيب المتنبي لسيف الدولة الحمداني، ما يكشف عن اختزالية الخطاب العلموي وربما سلفيته، وإن كان أسلافه هنا غير أسلافنا.
وثانيهما هو إدعاء العقل السلفي بالخصوصية الحضارية المطلقة، هروباً من كل ما هو إنساني ومعاصر. وهو موقف سلبي غالباً ما يصاحب الشعور بالهزيمة الحضارية، وما تثيره من محاولة الاختفاء خلف قشرة من التعالي الزائف على الآخر. ومن ثم أصبحت الحضارة الغربية (رغم تقدمها) بمثابة نموذج للخواء الأخلاقي في مقابل الحضارة الإسلامية باعتبارها (رغم تخلفها) نموذجاً للكمال الأخلاقي، وكأنهما سفينتان متعارضتان، لا يمكن ركوبهما معاً، وفق وصف أبي الأعلى المودودي، الذي جسد الحد الأقصى للنزعة السلفية. لدى هذه النزعة تتبلور رؤية نصية للإسلام أساسها القرآن الكريم، تتعامى عن واقعنا التاريخي الحي وما به من نقائص، فيما تتبلور رؤية للغرب أساسها النزعات المادية المتطرفة التي يزخر بها واقعه والتي اعتبرت بمثابة تناقضات في تجربة الحداثة، يقوم تيار كبير لديه على نقدها. والأكثر إثارة هنا أن يبرر العقل الأصولي ما يعتبره دنواً أخلاقياً غربياً بدوافع عقدية، أي لكونه مسيحي، فيما يتم إهمال الروحانية المسيحية الكامنة في النص، ويكفي الإشارة هنا إلى موعظة الجبل (متى، الإصحاح الخامس) التي تعكس أقصى درجات السمو الأخلاقي والتراحم الإنساني ومن ثم تكمن سذاجة الخطاب الأصولي عن الذات والعالم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.