تنسيق الثانوية العامة 2025 الجيزة للناجحين في الشهادة الإعدادية (رابط التقديم)    استعلم عن نتيجة تنسيق رياض الأطفال ب الجيزة 2025.. الرابط الرسمي والمستندات المطلوبة    عيار 21 يترقب مفاجآت.. أسعار الذهب والسبائك اليوم في الصاغة وتوقعات بارتفاعات كبيرة    الحكومة السورية تتفق مع وجهاء السويداء على تسليم السلاح وحل الفصائل    ترامب يتوقع إنهاء حرب غزة ويعلن تدمير القدرات النووية الإيرانية    تعليق مثير للجدل من رئيس قناة الأهلي الأسبق على بيان الاتحاد الفلسطيني بخصوص وسام أبو علي    «شعب لا يُشترى ولا يُزيّف».. معلق فلسطيني يدعم موقف الأهلي ضد وسام أبوعلي    مصدر أمني: فيديو سرقة حديد أسوار الطريق الدائري بالجيزة قديم واتُخذت الإجراءات القانونية في حينها    نتيجة الثانوية الأزهرية 2025.. تفاصيل التصحيح وموعد الإعلان الرسمي    بدون عكاز.. تامر عاشور يشارك أنغام الغناء في افتتاح مهرجان العلمين الجديدة    ياسر صبحي نائب وزير المالية للسياسات المالية في حواره ل"البوابة نيوز": استقرار نسبي في الأسعار بدعم السياسات المالية والنقدية.. والبيئة الاستثمارية تزداد صلابة    مستقبل وطن بسوهاج يطلق خطة دعم مرشحيه لمجلس الشيوخ ب9 مؤتمرات    كل ما تريد معرفته عن مهرجان «كلاسيك أوبن إير» ببرلين    أستراليا: تسليم أوكرانيا 49 دبابة أبرامز ضمن حزمة مساعدات عسكرية    مصدر أمني يكشف حقيقة سرقة الأسوار الحديدية من أعلى «الدائري» بالجيزة    رئيس حكومة لبنان: نعمل على حماية بلدنا من الانجرار لأي مغامرة جديدة    عميد طب جامعة أسيوط: لم نتوصل لتشخيص الحالة المرضية لوالد «أطفال دلجا»    مطران نقادة يلقي عظة روحية في العيد الثالث للابس الروح (فيدىو)    كيف تضمن معاشا إضافيا بعد سن التقاعد    بشكل مفاجئ، الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم يحذف البيان الخاص بوسام أبو علي    زوج البلوجر هدير عبد الرازق: زرعت كاميرات بالشقة وصورتني دون علمي وضربتها علشان بتشرب مخدرات    تطورات جديدة في واقعة "بائع العسلية" بالمحلة، حجز والد الطفل لهذا السبب    "صديق رونالدو".. النصر يعلن تعيين خوسيه سيميدو رئيسا تنفيذيا لشركة الكرة    تحت شعار كامل العدد، التهامي وفتحي سلامة يفتتحان المهرجان الصيفي بالأوبرا (صور)    من المستشفى إلى المسرح، حسام حبيب يتحدى الإصابة ويغني بالعكاز في موسم جدة 2025 (فيديو)    ستوري نجوم كرة القدم.. ناصر منسي يتذكر هدفه الحاسم بالأهلي.. وظهور صفقة الزمالك الجديدة    شرط يهدد صفقة بيراميدز المنتظرة    في أول تعليق لها.. رزان مغربي تكشف تفاصيل حالتها الصحية بعد حادث «سقوط السقف»    داعية إسلامي يهاجم أحمد كريمة بسبب «الرقية الشرعية» (فيديو)    مصرع طفلة غرقًا في مصرف زراعي بقرية بني صالح في الفيوم    سعر المانجو والموز والفاكهة ب الأسواق اليوم السبت 19 يوليو 2025    «زي النهارده».. وفاة اللواء عمر سليمان 19 يوليو 2012    رد رسمي من الزمالك بشأن غياب فتوح عن معسكر إعداد الفريق    انتهت.. عبده يحيى مهاجم غزل المحلة ينتقل لصفوف سموخة على سبيل الإعاراة    5 أبراج على موعد مع فرص مهنية مميزة: مجتهدون يجذبون اهتمام مدرائهم وأفكارهم غير تقليدية    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية ببداية الأسبوع السبت 19 يوليو 2025    أحمد كريمة عن العلاج ب الحجامة: «كذب ودجل» (فيديو)    انتشال جثة شاب غرق في مياه الرياح التوفيقي بطوخ    تعاني من الأرق؟ هذه التمارين قد تكون مفتاح نومك الهادئ    أبرزها الزنجبيل.. 5 طرق طبيعية لعلاج الصداع النصفي    وزير الخارجية اللبنانى لنظيره الأيرلندي: نطلب دعم بلدكم لتجديد "اليونيفيل"    خبير اقتصادي: رسوم ترامب تهدد سلاسل الإمداد العالمية وتفاقم أزمة الديون    ماركوس يبحث مع ترامب الرسوم الجمركية الأمريكية على الصادرات الفلبينية    اليمن يدعو الشركات والمستثمرين المصريين للمشاركة في إعادة الإعمار    كسر بماسورة مياه الشرب في شبرا الخيمة.. والمحافظة: عودة ضخ بشكل طبيعي    أنغام لجمهورها بالعلمين الجديدة: انتوا بتدوني قوة وصحة وبتوهبولي الحياة.. صور    مي عمر جريئة وريم سامي بفستان قصير.. لقطات نجوم الفن خلال 24 ساعة    المخرج خضر محمد خضر يعلن ارتباطه بفتاة من خارج الوسط الفني    "القومي للمرأة" يستقبل وفدًا من اتحاد "بشبابها" التابع لوزارة الشباب والرياضة    ب37.6 ألف ميجاوات.. الشبكة الموحدة للكهرباء تحقق أقصى ارتفاع في الأحمال هذ العام    ما حكم رفع اليدين بالدعاء أثناء خطبة الجمعة؟.. الإفتاء توضح    "الدنيا مريحة" .. أسعار السيارات المستعملة مستمرة في الانخفاض| شاهد    الحوثيون يعلنون استهداف مطار بن جوريون بصاروخ باليستي فرط صوتي    اليوم.. الاستماع لمرافعة النيابة في قضية «مجموعات العمل النوعي»    5 طرق فعالة للتغلب على الكسل واستعادة نشاطك اليومي    أصيب بنفس الأعراض.. نقل والد الأشقاء الخمسة المتوفين بالمنيا إلى المستشفى    عبد السند يمامة عن استشهاده بآية قرآنية: قصدت من «وفدا» الدعاء.. وهذا سبب هجوم الإخوان ضدي    هل مساعدة الزوجة لزوجها ماليا تعتبر صدقة؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الموقف العربي والسكونية والنقد التاريخي
نشر في صوت البلد يوم 03 - 10 - 2016

لا تزال العلاقة بين الإسلام والحداثة تمثل واحدة من أكثر عمليات التثاقف صعوبة وممانعة، ولا يزال الخوف المقيم يمانع سيرورة العقل العربى نحو اكتشاف تلك التجربة وامتلاكها، أي الاندراج فيها مباشرة، كتجربة كونية تمثل حصيلة الخبرة الإنسانية المشتركة، وليست مجرد مغامرة أوروبية تتجذر في الفلسفة اليونانية كما تدعي المركزية الغربية، يتعين علينا الوقوف عند حدودها للفرجة عليها، أو الوقوف على أطلالها حسرة على موت الله فيها، أو حتى محاولة تسولها بالقدر الذي يعيد للإنسان حضوره لدينا. لقد بات من الضروري ليس فقط تجاوز الموقف السلفي الرافض للحداثة، بل وأيضاً الموقف التوفيقي الداعي إلى الجمع بين الأصالة والحداثة والذي يبقي، رغم سلامته العامة، موقفاً سكونياً غير منتج، اتخذ شكلاً نمطياً وصار قالباً جاهزاً، فرض نفسه على الفكر العربي لقرن ونصف القرن من الزمان من دون أن ينتج شيئاً ذا بال، رغم ما استهلكه من مشاريع فكرية قيمة، وانطوى عليه من اجتهادات بحثية معتبرة، ولذا بات ضرورياً استبداله بمنهج النقد التاريخي ليس فقط للتراث العربي الإسلامي، بل وأيضاً في التراث الغربي الديني / التقليدي / المسيحي، لنكتشف متى وكيف صار الغرب حديثاً، وعبر أي مسارات، وتعويلاً على أي موروث؟.
ما نقصد إليه إذاً هو تحرير المفاهيم الأساسية للحداثة من غربيتها، ومنحها أفقاً إنسانياً، قبل أن نقيس بها وإليها التراثين العربي والغربي على السواء، على نحو يفضي إلى تغيير جذري في استراتيجية النهوض العربي التي هيمنت على القرنين الماضيين، والتي نزعت إلى التوفيق بين بنيتين متناقضتين: أولاهما تنتمي إلى الموروث العربي، الذي بلغ أوجه في عصر التدوين بين القرنين الثاني والرابع الهجريين، الثامن والعاشر الميلاديين. وثانيهما هو الفكر الغربي الحديث المنتج في القرون الخمسة الأخيرة، أي التالية على عصر النهضة الأوروبي، والذي بلغ ذروته مع عصر التنوير في قلب القرن الثامن عشر الميلادي.
تفترض عملية التوفيق هذه مسارات للدمج والتركيب، كما تستلزم هذه المسارات بدورها تحليلاً وتفكيكياً حتى نحسن الاختيار بين العناصر الإيجابية في كل تراث. ولأن التاريخ ليس سكونياً، والذات الثقافية لم تكن أبداً فاعلة خارج سياقها، فقد تعذر دوماً القيام بهذه المهمة التي تفترض قيام الذات العربية، المعنية هنا، وكأنها في فترة استراحة تاريخية، بوضع التراثين أمام ناظريها: تراثها الذاتي، وتراث الآخر الغربي، لتنتقي ما تريد أو ما يلائمها من كليهما. لقد كان الفشل في التوفيق محتوماً، لأن التاريخ لم يتوقف، ولم يحصل العرب قط على تلك الإستراحة، بل إنهم دخلوا إلى العصر الحديث تحت ضغط الاستعمار والصهيونية ناهيك عن ضغوط التخلف التاريخي الساحق، حيث تعين عليهم، على تنوع دولهم وحواضرهم، العمل تحت ضغط الزمن، ولهذا اتخذ الخيار التوفيقي شكلاً نمطياً وصار قالباً جاهزاً، طالما فرض نفسه على الفكر العربي لنحو القرن، لكنه لم ينتج شيئاً ذا بال، رغم ما استهلكه من مشاريع فكرية قيمة وانطوى عليه من اجتهادات بحثية معتبرة، ومن ثم يتعين الغوص أسفل هذا الخيار وفي خلاله كما في سياقاته، عبر تحليل البنيات السابقة على اللحظة التي تم اعتماده فيها خياراً استراتيجياً، كشفاً عن ممكناته واختبار فرضياته عبر تحليل البنيات السابقة على اللحظة التي تم اعتماده فيها خياراً استراتيجياً، كشفاً عن ممكناته واختبار فرضياته، حيث يصبح عصر التدوين العربي، حاضراً وملهماً كما هو عصر التنوير الغربي حاضراً وملهماً، فيما يتكفل النقد التاريخي بمهمة تقييم مرتكزات الحضور، ومصادر الإلهام، وكيف استجابت، سلباً وإيجاباً لمسار تطور العقل البشري.
المطلوب إذاً هو تحويل الاستراتيجية الثقافية (النهضوية) من مفهوم «التوفيق» وهو مفهوم (سكوني) إلى مفهوم «النقد التاريخي» وهو مفهوم (جدلي)، ناهيك عن ممارسة هذا النقد في أفق تاريخي مفتوح، تتوازي فيه المرجعيات وتتفاعل في شكل ديناميكي في ما بينها، أو مع حركة التاريخ، بدلاً من تقنيم إحداها، وإحالتها إلى معيار تقاس به وعليه المرجعية الأخرى. هنا يمكن مقاربة التراثين (الغربي والعربي) في سياقهما، للكشف عن المشترك بينهما في صيرورة تطورهما الذاتية، والآليات الخفية التي من خلالها تم التفاعل بينهما، وهو تفاعل كبير لم يجر بالضرورة مباشرة بين الطرفين كفاعلين متواجهين في قاعة تفاوض، بل عبر تفاعل تلقائي مع الأبنية التاريخية والمفاهيم التأسيسية التي أقامها كل منهما، أو صاغها في حقبة تفوقه وريادته، في أزمنة مختلفة ومتعاقبة، حيث الحضارة الإنسانية بنية واحدة وإن تفاوتت المراكز الثقافية داخلها. فثمة من ينتج الحضارة، وثمة من يستهلكها. كما إن الخبرة الإنسانية مشتركة، لا يملك أياً من كان الإنخلاع منها، أو النأي عن تيارها الأساسي حتى لو أراد.
دعوتنا هنا هي ضرورة الخلاص من الخوف الممانع لسيرورة العقل، باكتشاف طرق لامتلاك الحداثة، أي الإندراج فيها باعتبارها تجربة إنسانية كبرى تعكس المنجز الحضاري للتاريخ البشري، وليست مجرد مغامرة أوروبية تتجذر في الفلسفة اليونانية، كما تدعي المركزية الأوروبية، يتعين علينا إما الوقوف عند حدودها أو محاولة تسولها. فعبر هذا المنهج يمكن الإدعاء بنتائج مدهشة، في ما يتعلق بحجم الخبرة الإنسانية المشتركة. فجل ما هو إيجابي في الحداثة يكاد يكون إنسانياً، حيث تمثل الخبرة المشتركة مستودعاً للحكمة التاريخية، تتراكم داخله القيم الإيجابية التي تنال إجماعات البشر ورضاهم، حول ما يبدو وكأنه المحصلة الكيفية لفطرتهم، وهو الفهم الذي ينفي حيثيات موقفين شديدي التناقض:
أولهما هو الداعي إلى الإستسلام لدونية حضارية ترى الغرب نموذجاً مثالياً ومطلقاً لا بد من احتذائه حتى النهاية، واحتسائه حتى الثمالة، كما رأى التيار الحداثي / العلموي الذي سطع مطلع القرن العشرين، داعياً إلى القبول بالغرب ملهماً لممارساتنا الكلية، وإلى اعتبار قيمه ومعاييره مرجعية نهائية لنا، وقوعاً في أسر الصورة المثالية للتنوير، والتي تتمتع لدى هذا التيار بقدسية كبيرة، تتجاوز ما يستبطنه تيار الوعي الغربي العقلاني / الليبرالي في تجاويفه من عقد استعلائية ونزعات عنصرية. ويكفي هنا أن نحيل إلى الركام الهائل لنزعة التمركز حول الذات، وما أنتجته من معارف متحيزة تقول بسموه الأخلاقي وتفوقه العقلي البدئي، ودنو ما سواه أو خارجه أخلاقياً، فضلاً عن تخلفهم المطلق، ما أنتج تلقائياً تلك النزعة الكولونيالية الأثمة، التي لم يكد يتجاوزها. وهو ما ينطبق أيضاً على المثقف الغربي داعية الحرية والعقلانية والذي تنطوي مواقفه أحياناً على مفارقات تبدو مذهلة. ف (ليبنتز) الفيلسوف الألماني، صاحب مفهوم المونادة الروحية، هو نفسه الذي أراد تسخير الآخرين في خدمة أوروبا الصاعدة آنذاك، فلم يمل من الدعوة إلى استعمار الأقاليم المركزية في العالم وضمنها مصر التي حرَّض العرش الفرنسى طويلاً على احتلالها، حتى جاءها نابليون أخيراً باسم الثورة والجمهورية. أما (فولتير) أحد أنبياء الحرية ورواد التنوير الأوروبي، الذي نردد دوماً مقولته الشهيرة والرائجة عن استعداده لدفع حياته ثمناً لحرية مخالفه في إبداء رأيه، فهو نفسه صاحب كتاب (الملك الشمس) الذي يسكب فيه ولعه وتقديره لملك فرنسا لويس الرابع عشر أحد أبرز نماذج الاستبداد الأوروبي في العصر الحديث وصاحب المقولة الأكثر شهرة «أنا الدولة» وهو موقف يذكرنا بمديح الشاعر العربي الكبير والقديم أبي الطيب المتنبي لسيف الدولة الحمداني، ما يكشف عن اختزالية الخطاب العلموي وربما سلفيته، وإن كان أسلافه هنا غير أسلافنا.
وثانيهما هو إدعاء العقل السلفي بالخصوصية الحضارية المطلقة، هروباً من كل ما هو إنساني ومعاصر. وهو موقف سلبي غالباً ما يصاحب الشعور بالهزيمة الحضارية، وما تثيره من محاولة الاختفاء خلف قشرة من التعالي الزائف على الآخر. ومن ثم أصبحت الحضارة الغربية (رغم تقدمها) بمثابة نموذج للخواء الأخلاقي في مقابل الحضارة الإسلامية باعتبارها (رغم تخلفها) نموذجاً للكمال الأخلاقي، وكأنهما سفينتان متعارضتان، لا يمكن ركوبهما معاً، وفق وصف أبي الأعلى المودودي، الذي جسد الحد الأقصى للنزعة السلفية. لدى هذه النزعة تتبلور رؤية نصية للإسلام أساسها القرآن الكريم، تتعامى عن واقعنا التاريخي الحي وما به من نقائص، فيما تتبلور رؤية للغرب أساسها النزعات المادية المتطرفة التي يزخر بها واقعه والتي اعتبرت بمثابة تناقضات في تجربة الحداثة، يقوم تيار كبير لديه على نقدها. والأكثر إثارة هنا أن يبرر العقل الأصولي ما يعتبره دنواً أخلاقياً غربياً بدوافع عقدية، أي لكونه مسيحي، فيما يتم إهمال الروحانية المسيحية الكامنة في النص، ويكفي الإشارة هنا إلى موعظة الجبل (متى، الإصحاح الخامس) التي تعكس أقصى درجات السمو الأخلاقي والتراحم الإنساني ومن ثم تكمن سذاجة الخطاب الأصولي عن الذات والعالم.
لا تزال العلاقة بين الإسلام والحداثة تمثل واحدة من أكثر عمليات التثاقف صعوبة وممانعة، ولا يزال الخوف المقيم يمانع سيرورة العقل العربى نحو اكتشاف تلك التجربة وامتلاكها، أي الاندراج فيها مباشرة، كتجربة كونية تمثل حصيلة الخبرة الإنسانية المشتركة، وليست مجرد مغامرة أوروبية تتجذر في الفلسفة اليونانية كما تدعي المركزية الغربية، يتعين علينا الوقوف عند حدودها للفرجة عليها، أو الوقوف على أطلالها حسرة على موت الله فيها، أو حتى محاولة تسولها بالقدر الذي يعيد للإنسان حضوره لدينا. لقد بات من الضروري ليس فقط تجاوز الموقف السلفي الرافض للحداثة، بل وأيضاً الموقف التوفيقي الداعي إلى الجمع بين الأصالة والحداثة والذي يبقي، رغم سلامته العامة، موقفاً سكونياً غير منتج، اتخذ شكلاً نمطياً وصار قالباً جاهزاً، فرض نفسه على الفكر العربي لقرن ونصف القرن من الزمان من دون أن ينتج شيئاً ذا بال، رغم ما استهلكه من مشاريع فكرية قيمة، وانطوى عليه من اجتهادات بحثية معتبرة، ولذا بات ضرورياً استبداله بمنهج النقد التاريخي ليس فقط للتراث العربي الإسلامي، بل وأيضاً في التراث الغربي الديني / التقليدي / المسيحي، لنكتشف متى وكيف صار الغرب حديثاً، وعبر أي مسارات، وتعويلاً على أي موروث؟.
ما نقصد إليه إذاً هو تحرير المفاهيم الأساسية للحداثة من غربيتها، ومنحها أفقاً إنسانياً، قبل أن نقيس بها وإليها التراثين العربي والغربي على السواء، على نحو يفضي إلى تغيير جذري في استراتيجية النهوض العربي التي هيمنت على القرنين الماضيين، والتي نزعت إلى التوفيق بين بنيتين متناقضتين: أولاهما تنتمي إلى الموروث العربي، الذي بلغ أوجه في عصر التدوين بين القرنين الثاني والرابع الهجريين، الثامن والعاشر الميلاديين. وثانيهما هو الفكر الغربي الحديث المنتج في القرون الخمسة الأخيرة، أي التالية على عصر النهضة الأوروبي، والذي بلغ ذروته مع عصر التنوير في قلب القرن الثامن عشر الميلادي.
تفترض عملية التوفيق هذه مسارات للدمج والتركيب، كما تستلزم هذه المسارات بدورها تحليلاً وتفكيكياً حتى نحسن الاختيار بين العناصر الإيجابية في كل تراث. ولأن التاريخ ليس سكونياً، والذات الثقافية لم تكن أبداً فاعلة خارج سياقها، فقد تعذر دوماً القيام بهذه المهمة التي تفترض قيام الذات العربية، المعنية هنا، وكأنها في فترة استراحة تاريخية، بوضع التراثين أمام ناظريها: تراثها الذاتي، وتراث الآخر الغربي، لتنتقي ما تريد أو ما يلائمها من كليهما. لقد كان الفشل في التوفيق محتوماً، لأن التاريخ لم يتوقف، ولم يحصل العرب قط على تلك الإستراحة، بل إنهم دخلوا إلى العصر الحديث تحت ضغط الاستعمار والصهيونية ناهيك عن ضغوط التخلف التاريخي الساحق، حيث تعين عليهم، على تنوع دولهم وحواضرهم، العمل تحت ضغط الزمن، ولهذا اتخذ الخيار التوفيقي شكلاً نمطياً وصار قالباً جاهزاً، طالما فرض نفسه على الفكر العربي لنحو القرن، لكنه لم ينتج شيئاً ذا بال، رغم ما استهلكه من مشاريع فكرية قيمة وانطوى عليه من اجتهادات بحثية معتبرة، ومن ثم يتعين الغوص أسفل هذا الخيار وفي خلاله كما في سياقاته، عبر تحليل البنيات السابقة على اللحظة التي تم اعتماده فيها خياراً استراتيجياً، كشفاً عن ممكناته واختبار فرضياته عبر تحليل البنيات السابقة على اللحظة التي تم اعتماده فيها خياراً استراتيجياً، كشفاً عن ممكناته واختبار فرضياته، حيث يصبح عصر التدوين العربي، حاضراً وملهماً كما هو عصر التنوير الغربي حاضراً وملهماً، فيما يتكفل النقد التاريخي بمهمة تقييم مرتكزات الحضور، ومصادر الإلهام، وكيف استجابت، سلباً وإيجاباً لمسار تطور العقل البشري.
المطلوب إذاً هو تحويل الاستراتيجية الثقافية (النهضوية) من مفهوم «التوفيق» وهو مفهوم (سكوني) إلى مفهوم «النقد التاريخي» وهو مفهوم (جدلي)، ناهيك عن ممارسة هذا النقد في أفق تاريخي مفتوح، تتوازي فيه المرجعيات وتتفاعل في شكل ديناميكي في ما بينها، أو مع حركة التاريخ، بدلاً من تقنيم إحداها، وإحالتها إلى معيار تقاس به وعليه المرجعية الأخرى. هنا يمكن مقاربة التراثين (الغربي والعربي) في سياقهما، للكشف عن المشترك بينهما في صيرورة تطورهما الذاتية، والآليات الخفية التي من خلالها تم التفاعل بينهما، وهو تفاعل كبير لم يجر بالضرورة مباشرة بين الطرفين كفاعلين متواجهين في قاعة تفاوض، بل عبر تفاعل تلقائي مع الأبنية التاريخية والمفاهيم التأسيسية التي أقامها كل منهما، أو صاغها في حقبة تفوقه وريادته، في أزمنة مختلفة ومتعاقبة، حيث الحضارة الإنسانية بنية واحدة وإن تفاوتت المراكز الثقافية داخلها. فثمة من ينتج الحضارة، وثمة من يستهلكها. كما إن الخبرة الإنسانية مشتركة، لا يملك أياً من كان الإنخلاع منها، أو النأي عن تيارها الأساسي حتى لو أراد.
دعوتنا هنا هي ضرورة الخلاص من الخوف الممانع لسيرورة العقل، باكتشاف طرق لامتلاك الحداثة، أي الإندراج فيها باعتبارها تجربة إنسانية كبرى تعكس المنجز الحضاري للتاريخ البشري، وليست مجرد مغامرة أوروبية تتجذر في الفلسفة اليونانية، كما تدعي المركزية الأوروبية، يتعين علينا إما الوقوف عند حدودها أو محاولة تسولها. فعبر هذا المنهج يمكن الإدعاء بنتائج مدهشة، في ما يتعلق بحجم الخبرة الإنسانية المشتركة. فجل ما هو إيجابي في الحداثة يكاد يكون إنسانياً، حيث تمثل الخبرة المشتركة مستودعاً للحكمة التاريخية، تتراكم داخله القيم الإيجابية التي تنال إجماعات البشر ورضاهم، حول ما يبدو وكأنه المحصلة الكيفية لفطرتهم، وهو الفهم الذي ينفي حيثيات موقفين شديدي التناقض:
أولهما هو الداعي إلى الإستسلام لدونية حضارية ترى الغرب نموذجاً مثالياً ومطلقاً لا بد من احتذائه حتى النهاية، واحتسائه حتى الثمالة، كما رأى التيار الحداثي / العلموي الذي سطع مطلع القرن العشرين، داعياً إلى القبول بالغرب ملهماً لممارساتنا الكلية، وإلى اعتبار قيمه ومعاييره مرجعية نهائية لنا، وقوعاً في أسر الصورة المثالية للتنوير، والتي تتمتع لدى هذا التيار بقدسية كبيرة، تتجاوز ما يستبطنه تيار الوعي الغربي العقلاني / الليبرالي في تجاويفه من عقد استعلائية ونزعات عنصرية. ويكفي هنا أن نحيل إلى الركام الهائل لنزعة التمركز حول الذات، وما أنتجته من معارف متحيزة تقول بسموه الأخلاقي وتفوقه العقلي البدئي، ودنو ما سواه أو خارجه أخلاقياً، فضلاً عن تخلفهم المطلق، ما أنتج تلقائياً تلك النزعة الكولونيالية الأثمة، التي لم يكد يتجاوزها. وهو ما ينطبق أيضاً على المثقف الغربي داعية الحرية والعقلانية والذي تنطوي مواقفه أحياناً على مفارقات تبدو مذهلة. ف (ليبنتز) الفيلسوف الألماني، صاحب مفهوم المونادة الروحية، هو نفسه الذي أراد تسخير الآخرين في خدمة أوروبا الصاعدة آنذاك، فلم يمل من الدعوة إلى استعمار الأقاليم المركزية في العالم وضمنها مصر التي حرَّض العرش الفرنسى طويلاً على احتلالها، حتى جاءها نابليون أخيراً باسم الثورة والجمهورية. أما (فولتير) أحد أنبياء الحرية ورواد التنوير الأوروبي، الذي نردد دوماً مقولته الشهيرة والرائجة عن استعداده لدفع حياته ثمناً لحرية مخالفه في إبداء رأيه، فهو نفسه صاحب كتاب (الملك الشمس) الذي يسكب فيه ولعه وتقديره لملك فرنسا لويس الرابع عشر أحد أبرز نماذج الاستبداد الأوروبي في العصر الحديث وصاحب المقولة الأكثر شهرة «أنا الدولة» وهو موقف يذكرنا بمديح الشاعر العربي الكبير والقديم أبي الطيب المتنبي لسيف الدولة الحمداني، ما يكشف عن اختزالية الخطاب العلموي وربما سلفيته، وإن كان أسلافه هنا غير أسلافنا.
وثانيهما هو إدعاء العقل السلفي بالخصوصية الحضارية المطلقة، هروباً من كل ما هو إنساني ومعاصر. وهو موقف سلبي غالباً ما يصاحب الشعور بالهزيمة الحضارية، وما تثيره من محاولة الاختفاء خلف قشرة من التعالي الزائف على الآخر. ومن ثم أصبحت الحضارة الغربية (رغم تقدمها) بمثابة نموذج للخواء الأخلاقي في مقابل الحضارة الإسلامية باعتبارها (رغم تخلفها) نموذجاً للكمال الأخلاقي، وكأنهما سفينتان متعارضتان، لا يمكن ركوبهما معاً، وفق وصف أبي الأعلى المودودي، الذي جسد الحد الأقصى للنزعة السلفية. لدى هذه النزعة تتبلور رؤية نصية للإسلام أساسها القرآن الكريم، تتعامى عن واقعنا التاريخي الحي وما به من نقائص، فيما تتبلور رؤية للغرب أساسها النزعات المادية المتطرفة التي يزخر بها واقعه والتي اعتبرت بمثابة تناقضات في تجربة الحداثة، يقوم تيار كبير لديه على نقدها. والأكثر إثارة هنا أن يبرر العقل الأصولي ما يعتبره دنواً أخلاقياً غربياً بدوافع عقدية، أي لكونه مسيحي، فيما يتم إهمال الروحانية المسيحية الكامنة في النص، ويكفي الإشارة هنا إلى موعظة الجبل (متى، الإصحاح الخامس) التي تعكس أقصى درجات السمو الأخلاقي والتراحم الإنساني ومن ثم تكمن سذاجة الخطاب الأصولي عن الذات والعالم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.