في قلب قاعة الآثار المصرية بالمتحف البريطاني في لندن، يستقر تابوت خشبي يعود للسيدة "تا خب غنم"، يلفت الأنظار بجمال نقوشه وتماسك ألوانه التي قاومت الزمن، إنه ليس مجرد قطعة أثرية، بل لوحة حية تنبض برموز مقدسة وأساطير خالدة من عمق المعتقدات المصرية القديمة. من النظرة الأولى، يستشعر الزائر الرسائل البصرية المحفورة بدقة والمفعمة بالروحانية والرموز التي كانت تمهد لرحلة المتوفاة نحو الخلود. ◄ من هي "تا خب غنم"؟ "تا خب غنم" هي سيدة مصرية قديمة، غالبًا ما كانت تنتمي لطبقة ذات مكانة اجتماعية مرموقة، ويتضح ذلك من التابوت الخشبي المزخرف بدقة، والذي صُنع خصيصًا لها ليرافقها في رحلتها إلى الحياة الآخرة، اسمها الذي يظهر على غطاء التابوت يعكس ارتباطها بالمعبود "خنوم"، أحد أرباب الخلق في الميثولوجيا المصرية. عند النظر إلى التابوت من الجهة اليسرى، أي على الغطاء، تبرز المعبودة "نوت"، سيدة السماء، في شكل أنثى ذات بشرة صفراء، وهو لون ارتبط بالذهب والخلود في مصر القديمة. تعلو رأسها علامة تحمل اسمها، وهو تقليد فني يعكس مدى الاحترام والتقديس للمعبودة التي كانت تبتلع الشمس مساءً وتلدها صباحًا، كرمز للتجدد الأبدي. أما على الجانب الأيمن، في الجزء السفلي من التابوت، تظهر رموز قوية تدعم فكرة البعث والخلود: عمود "جد" : رمز الثبات والاستقرار، ويرتبط بأسطورة أوزير. عقدة إيزيس "تيت" : رمز الحماية الأنثوية المقدسة، وتمثل دموع إيزيس وقواها السحرية. مفتاح الحياة "عنخ" ذو الأيادي البشرية: يظهر في أعلى التابوت يتلقى أشعة الشمس المنبعثة من قرص الشمس، في مشهد فني رائع يرمز لمنح الحياة للمتوفاة، وتأكيد فكرة الخلود والتجدد اليومي. ◄ التابوت كوسيلة انتقال إلى الحياة الأخرى لم يكن التابوت في مصر القديمة مجرد غطاء لحفظ الجسد، بل كان قطعة روحانية متكاملة، تصاغ بعناية لتأمين الرحلة إلى العالم الآخر. كان يُزين بالكتابات الهيروغليفية والرموز المقدسة والتعاويذ المستمدة من "كتاب الموتى"، حيث تضمن هذه النقوش للموتى الحماية والإرشاد أثناء عبورهم العالم السفلي. تابوت "تا خب غنم" مثال رائع لهذا المفهوم، فقد جُمعت فيه رموز متعددة تُجسد رحلة البعث، مثل حضور "نوت" التي تحتضن المتوفاة في جسدها لتحميها من الظلمات، و"العنخ" الذي يتلقى أشعة الحياة، ليبث الروح مجددًا في الجسد، وعقدة "تيت" التي تحيط بالجسد لحمايته من الشرور. ◄ الألوان والرمزية في الفن الجنائزي المصري اعتمد المصريون القدماء على رمزية لونية عميقة في الزخارف الجنائزية: الأصفر: يرمز إلى الذهب، مادة لا تتغير، ولذلك استخدمت لتجسيد الآلهة والخلود. الأحمر: يرتبط بالحيوية والدم، لكنه قد يرمز أيضًا للخطر حسب السياق. الأزرق: لون السماء والماء، يدل على الحماية والسحر. الأخضر: لون الزراعة والحياة، رمز البعث والنمو. كل هذه الألوان تظهر متماسكة ومتناغمة على تابوت "تا خب غنم"، مما يشير إلى براعة الفنان المصري القديم في استخدام اللون لخدمة الرمزية الدينية. ◄ لماذا هذا التابوت في المتحف البريطاني؟ للأسف، كحال كثير من القطع الأثرية المصرية، تم نقل هذا التابوت إلى بريطانيا خلال القرن التاسع عشر أو أوائل القرن العشرين، في زمن كانت فيه البعثات الأجنبية تتسابق على اقتناء الكنوز المصرية. اقرأ أيضا| «مدينة التحول الديني في قلب الصحراء».. أسرار واحات الخارجة اليوم، يعد تابوت "تا خب غنم" من القطع المحورية في قسم الآثار المصرية بالمتحف البريطاني، حيث يجذب آلاف الزوار سنويًا، ويعد شاهداً على عظمة الحضارة المصرية وروعتها الفنية والدينية. يوفر هذا التابوت نموذجًا مصغرًا لفلسفة المصري القديم حول الموت والحياة الأخرى. لم يكن الموت نهاية، بل مرحلة انتقالية نحو حياة أكثر صفاءً واتحادًا مع الآلهة. وقد اجتهد الفنانون والكهنة في تحويل التابوت إلى ملاذ آمن للروح والجسد، تتوفر فيه كل عناصر الحماية والتجدد. يبرز أيضًا كيف أن الدين كان عنصرًا أساسيًا في الفن، فالرموز والتعاويذ والنقوش ليست للزينة، بل ذات وظيفة روحية عميقة. وهذا ما يجعل كل جانب في التابوت يروي قصة متكاملة عن عقيدة الموت والبعث لدى المصريين القدماء. تابوت "تا خب غنم" ليس مجرد قطعة أثرية جميلة؛ إنه وثيقة فنية وروحانية تنبض بالحياة، تنقل إلينا عبر الزمان إيمان المصري القديم بالخلود، ومهارته في استخدام الرمز واللون لخدمة عقيدة تأليه الشمس والبعث. حين نقف أمام هذا التابوت في المتحف البريطاني، لا نرى خشبًا ملونًا فحسب، بل نقرأ سردية أبدية عن الحياة، والموت، والعودة من جديد إلى النور.